مرّت سنتان على صدور المرسوم رقم 9458 (24/6/2022)، الذي ينصّ على معالجة أوضاع شبكة الإنترنت المنشأة خلافاً للقانون من دون أيّ تقدم. ما يحصل هو العكس تمامًا. لا همّ للوزارة سوى استهلاك الوقت، وبالتالي تضييع الإيرادات على الخزينة. أما المهل التي حدّدتها المادة 16 من المرسوم، بعد اقتراح من الوزارة نفسها فكأنها لم تكن. لا التزم وزير الاتصالات جوني القرم بمهلة الأشهر الستة للتعاقد على صيانة الشبكات السلكية واللاسلكية المضبوطة، ولا ضبط شبكات التوزيع والربط المخالفة، ولا وضعها بتصرّف الوزارة لإدارتها إلى حين اتخاذ القرار المناسب من القضاء. هكذا أُفرغ المرسوم من مضمونه الفعلي الهادف إلى وضع حد لتفلّت الشبكات غير الشرعية، ورفد الخزينة بالإيرادات من دون فرض أيّ غرامات على من حرم الخزينة من الأموال على مدى سنوات، في ظلّ وجود ما يزيد عن 635 ألف مشترك في الشبكات غير الشرعية (بحسب التقرير الذي أعدّته الغرفة السابعة في ديوان المحاسبة في 11/11/2021).
جلّ ما حصل منذ ذلك الحين هو حصول الوزارة على إمكانية الولوج إلى صفحات المشتركين على هذه الشبكات من دون القدرة على معرفة أسمائهم وعناوينهم، والأهم من دون تحصيل أي أموال فائتة. ما حصل أيضاً أن الوزارة قرّرت فرض رسم 550 ألف ليرة شهرياً عن كل مشترك في الشبكات غير الشرعية، يُفترض أن تدفعها شركات الـISP التي تؤمّن الإنترنت لهذه الشبكات. كما قرّرت تكليف أصحاب هذه الشبكات بأعمال صيانتها مقابل 330 ألف ليرة شهرياً عن كل مشترك. علماً أن هذا المبلغ يُفترض أن يدفع لهؤلاء بعد الحصول على مبلغ 550 ألف ليرة عن كل مشترك في الشبكة غير الشرعية، بما يعني دخول 220 ألف ليرة شهرياً عن كل مشترك.
بعد الكثير من التخبّط والمراوغة، ابتدعت وزارة الاتصالات حلاً لا يضمن ضبط الشبكات ولا يُساهم في حصولها على العائدات الضائعة من جرّاء الإنترنت غير الشرعي. إذ أرسلت إلى ديوان المحاسبة مشروع عقد بينها وبين هيئة أوجيرو لا يكلفها بصيانة هذه الشبكات التي يُفترض أن تضبط، بل يطلب توقيع عقود نموذجية مع أصحاب الشبكات غير الشرعية تنصّ على أن يتولوا بأنفسهم صيانة شبكاتهم. ما هو دور أوجيرو إذاً؟ هو حرفياً محصور بتوقيع العقود مع أصحاب الشبكات غير الشرعية، إذ تشير المادة الثانية من مشروع العقد أن على أوجيرو “تنظيم وإبرام العقد مع الغير المنظم بها محاضر من الفريق الأول (الوزارة) وإيداعه تباعاً نسخة عن هذه العقود”. وبعد ذلك تقوم أوجيرو باحتساب القيمة الشهرية للدفعة المستحقة لمنشئي الشبكات المضبوطة، ثم تدفع لهم مستحقات صيانة الشبكات المضبوطة من أصل قيمة هذا العقد. كما تتعهد أوجيرو بالكشف على الشبكات دورياً.
ما أوضحه العقد فقط أن قيمته تبلغ 300 مليار ليرة، لمدة سنة واحدة قابلة للتجديد لسنتين. كما نصّ على أن الوزارة ستدفع لأوجيرو 90% من قيمته فور تصديقه.
الديوان يشكّك في العقد بين الوزارة وأوجيرو
لكثرة ما يتضمن العقد من ثغرات وغموض، عمدت الغرفة الثانية في الديوان برئاسة القاضي عبد الرضا ناصر وعضوية القاضيين جوزيف الكسرواني ومحمد الحاج إلى توجيه مذكّرة إلى وزارة الاتصالات تطلب فيها توضيح عدد من الأمور، انطلاقاً من الثوابت التي نصّ عليها المرسوم، والتي تبدو أشبه بخريطة طريق لضمان التنفيذ، مقسّمة إلى 3 مراحل:
1- ضبط الشبكات من قبل وزارة الاتصالات.
2- وضع الشبكات بتصرّف وزارة الاتصالات لإدارتها.
3- التعاقد لصيانة الشبكات المضبوطة، مع تحديد مهلة 6 أشهر للتنفيذ (انتهت في 24/12/2022). علماً أن المذكرة، التي أعدّت في 4/7/2024، لم تخلُ من توجيه إشارات واضحة إلى تخطّي الادارة للقانون في الكثير من مواد العقد.
ومن الأسئلة المطروحة:
أين هي العقود النموذجية التي يفترض أن تنظمها أوجيرو؟ ولماذا لم ترفق مع العقد الأساسي؟-
قبل التفكير بإجراء التعاقد لصيانة الشبكات المخالفة، هل ضبطت الوزارة هذه الشبكات؟-
إذا كانت فعلت ذلك، كم يبلغ عدد هذه الشبكات وكيف تتمّ إدارتها من قبل وزارة الاتصالات؟
ما هي الرسوم التي تُستوفى وأين يتم إيداعها؟
-هل من المنطقي وضع اتفاق رضائي مع الشبكات غير الشرعية قبل ضبطها أو دون أن تكون الوزارة قد انتهت فعلاً من عمليات ضبطها؟
تنظيم الصيانة مكلف أكثر من الصيانة
بناء عليه، طلبت الغرفة تزويد الديوان بجميع الوثائق والمحاضر التي تثبت إحصاء هذه الشبكات وضبطها ووضعها بتصرف وزارة الاتصالات لإدارتها تمهيداً لإجراء عمليات الصيانة، وقيمة الرسوم التي استوفيتْ خلال إدارتها.
أما السؤال الأهم الذي يطرحه الديوان فهو: إذا كان تنظيم عقود الصيانة سيكلّف الخزينة 300 مليار ليرة قابلة للزيادة، فكم ستُكلّف عمليات الصيانة نفسها؟ وعليه، دعا الديوان الوزارة لتزويده بدراسة تُحدّد من خلالها كلفة عمليات تنظيم أعمال الصيانة.
لم يوضح العقد مصدر الأموال التي ستُدفع مقابل الصيانة. فهل ستدفعها الوزارة كما ورد في مقدمة العقد تنفيذاً للمادة 16 من المرسوم (“تسدد وزارة الاتصالات للمتعاقد معه نسبة من رسوم فواتير خدمات) أم ستدفعها أوجيرو من أصل نسبة ال10% من قيمة العقد أي من ال30 مليار ليرة (كما ورد في المادة الرابعة من مشروع العقد)؟ أضف إلى أن هذا العقد لم يُحدّد الجهة التي ستقوم باستيفاء رسوم فواتير الخدمات المحددة في المادة 16 من المرسوم رقم 9458. فإذا كانت أوجيرو هي التي ستستوفى هذه الأموال، فما هو مصيرها وأين ستحفظ وأين ستودع، وهل ستبقى في عهدة أوجيرو أم ستتحول إلى حساب وزارة الاتصالات؟
في المذكرة سؤال عن المرجع القانوني الذي يسمح لأوجيرو بتنظيم أعمال صيانة الشبكة المضبوطة طالما أن مرسوم التعاقد معها يحدد المهام المكلفة بها ويشير إلى أنه يمكن بمرسوم تكليف الهيئة بمهام أخرى. فهل صدر المرسوم الذي يعطي أوجيرو صلاحية تنظيم أعمال صيانة الشبكة المضبوطة؟
ويسأل الديوان عن سبب عدم التقيّد بمهلة ال6 أشهر التي حدّدها المرسوم للتعاقد لصيانة الشبكات السلكية واللاسلكية، في حين يتم عرض المعاملة بعد حوالي سنتين من التاريخ المذكور؟
مسألة قيمة العقد أخذت حيزاً في مذكّرة الديوان، فسألت الغرفة: أين النص القانوني الذي يسمح بدفع 90% (270 مليار ليرة) من قيمة العقد كدفعة أولى مستعجلة وفور توقيعه؟ وما هي الأشغال الكبرى والتجهيزات المهمّة التي تفرض على وزارة الاتصالات أن تدفع كل هذا المبلغ مقدماً؟ وفي المقلب الآخر من أين ستدفع الوزارة قيمة العقد لأجيرو، وهل سُجّل هذا المبلغ في موازنتها؟
ويسأل الديوان: هل تنظيم عقود الصيانة، وليس إجراء أعمال الصيانة، يستحقّ تعجيل دفع هذا المبلغ، هذا إذا كان فعلاً يعود لهيئة أوجيرو تنظيم عقود الصيانة؟
في نهاية المذكرة، يوضّح الديوان أنه لم يتبين له العناصر والمعايير التي تمّ على أساسها تحديد قيمة العقد ب300 مليار ليرة حيث من المفروض أن تنطلق من كميات ومشاريع وخدمات وأسعار إفرادية لكل وحدة أو مشروع أو خدمة ما يقتضي شرحه وتوضيحه.
الوزارة تدور حول نفسها
العقد المرسل من الوزارة إلى الديوان مع كل ما يعتريه من مغالطات أضاءت عليها المذكرة لم يكن سوى نهاية سلسلة من محاولات مشبوهة قامت بها الوزارة. إذ بدأت هذه المحاولات بإرسال وزير الاتصالات كتاباً إلى الديوان يتضمن مسودة عقد بين الوزارة وبين أصحاب شبكات الأحياء، عنوانه الأساسي هو إجراء مقاصة بين الرسم الذي يدفعه هؤلاء وفقاً للمرسوم وبين كلفة الصيانة، على أن تحصّل أوجيرو ناتج هذه العملية. وعندما اعتبر الديوان أن المقاصة مخالفة لقانون المحاسبة العمومية، لم يعدّل الوزير العقد ولا قدّم اقتراحاً آخر. وعندما قرّر مراسلة الديوان مجدداً، عاد وطلب منه إعادة النظر بقراره من دون أن يحصل على مراده. في هذا الوقت كان أصدر القرار التنفيذي للمرسوم (القرار 544)، متضمناً ما يفترض أن يكون خارطة طريقة للتنفيذ، لا سيما ما يتعلق بمحاضر الضبط للشبكات غير الشرعية. وعندما بدأت تلوح في الأفق مسألة الفصل بين العقد الذي يوقع مع أوجيرو والعقد الموقع بين الأخيرة وشبكات الأحياء، انتهى الأمر بإرسال عقد واحد إلى ديوان المحاسبة، هو العقد الذي يفترض أن يوقع بين الوزارة وأوجيرو، فيما ظل العقد الثاني لغزاً (أشارت إليه المذكرة في أكثر من بند).
300 مليار ليرة هدية لأوجيرو؟
كل ما سبق يشير إلى نقطة محورية واحدة: الوزارة تريد أن تقبض رسوماً عن الاشتراكات على الشبكة غير الشرعية، لكنها لا تريد أن تحول هذه الرسوم إلى الخزينة. لماذا؟ لا تفسير سوى أن ما يدخل إلى الخزينة لا يمكن صرفه بحرّية. وبالتالي، فإنّ الحلّ هو في أن تحوّل هذه الأموال إلى أوجيرو التي لا تخضع للرقابة المسبقة، أسوة بشركات الخلوي، ما يسهّل التصرف بها من دون رقابة فعلية. هذا على افتراض أن أوجيرو تمكّنت بالفعل من التوقيع مع ديوك الحي (أصحاب الإنترنت غير الشرعي)، لكن من يضمن أن يتم التوقيع معها فعلاً؟ ومن يضمن العدد الذي يمكن أن يوقع؟ لا أحد. إذاً لماذا ستحصل أوجيرو على 300 مليار ليرة مسبقاً؟ أم أن الهدف كان منذ البداية إعطاء أوجيرو قيمة عقد لا يمكن تنفيذه؟