كل الطرقات تؤدي إلى زيادة أسعار الإنترنت. لكن حتى اليوم، وبالرغم من أن الحكومة بدأت مناقشة الموازنة العامة وضمنها موازنة وزارة الاتصالات، إلا أن الوزير جوني قرم لم يتقدّم بأي اقتراح لتعديل التعرفة. التطوّر الوحيد الذي حصل أنّ قرم انتقل من رفض أي زيادة على الأسعار إلا كجزء من خطة التعافي، إلى اعتبار الزيادة أمراً حتمياً. مع ذلك، يُحاذر، حتى اليوم، أن يخرج من مكتبه اقتراح يمكن أن يُؤلّب الرأي العام عليه. هو أسوة بالوزير طلال حوّاط يتجنب تكرار تجربة الوزير محمد شقير مع فرض رسم على الواتساب، لكنه يدرك في الوقت نفسه أنّ لا بديل عن إعطاء بعض النفس للقطاع المريض. ولذلك يفترض أن لا يتأخر في عرض مرسوم التعرفة على مجلس الوزراء. لكن ذلك لا يعني أن المرسوم سيسير في طريق الإقرار، فحسابات الانتخابات قد تؤجل البت بالاقتراح.
المشكلة أن ما كان ممكناً منذ سنتين لم يعد كذلك حالياً. والخسائر التي مُنيت بها “أوجيرو” وكذلك شركتا الخليوي تزداد باضطراد، ما يؤدي إلى تضييق الخيارات مع مرور الوقت. بالنتيجة، وبسبب سوء إدارة القطاع من جهة، والتعطيل المستمرّ في العمل من جهة أخرى، إن كان بفعل الفترات الطويلة لتصريف الأعمال أو بسبب تفشّي فيروس كورونا، تحوّل القطاع الذي كان نفط لبنان إلى قطاع ينزف آخر ما يملكه من سيولة. لم يعد الأمر مقتصراً على عدم قدرته على رفد الخزينة العامة بالفوائض التي كان يُحقّقها، بل تحوّل إلى محتاج للأموال الحكومية للصمود، أو حتى لتأمين المازوت. ولذلك، حصلت أوجيرو، على سبيل المثال، على ثلاثة اعتمادات، الأول بقيمة 40 مليار ليرة ثم بقيمة 20 مليار ليرة، ومؤخراً حصلت على 350 مليار ليرة. أما الهدف، فليس أكثر من تأمين مادة المازوت إضافة إلى إنجاز الصيانات الضرورية.
كان يمكن لهذا الوضع أن يتغيّر لو أُحسن إدارة الأزمة. لكن العمل في الوزارة لا يزال وفق الآليات التقليدية. لا خُطط طوارئ أبعد من تأمين المازوت لمحطات أوجيرو وشركتي الخلوي. علماً أنّ الفشل كان أيضاً من نصيب هذه المهمة. فالمشتركون بالكاد قادرون على استكمال أيّ اتصال إن كان عادياً أو حتى عبر الإنترنت. ودائماً السبب هو انقطاع مادة المازوت من هذا السنترال أو ذاك.
اللافت أن موازنة العام 2022 التي تُناقَش حالياً في مجلس الوزراء تلحظ 406 مليار ليرة لصالح الاستثمار والصيانة في أوجيرو، وهذا المبلغ بالكاد يكفي ثمن المازوت، إذا بقي الوضع على حاله. فتقديرات الهيئة تُشير إلى الحاجة لمازوت بقيمة مليار ليرة يومياً لتشغيل 524 مولّداً موزّعة على أغلب السنترالات. وبالتالي، فإن أوجيرو لن تكون قادرة على تحقيق الفوائض التي كانت تُحققها في السنوات الماضية. وعلى سبيل المثال، في العام 2019 سجلت فواتير الهاتف الأرضي والإنترنت، ما مجموعه 720 مليار ليرة، كان نصفها بمثابة فوائض. ولأن هوامش الربح كانت كبيرة، لا تزال الهيئة قادرة على تحمّل عدم رفع الأسعار بشكل كبير، خاصة أن بند الرواتب، الذي كان يستهلك نحو 107 مليون دولار من موازنة الهيئة انخفض حالياً، إلى ما لا يزيد عن 9 مليون دولار.
رفع الأسعار بلا استثمارات
كلّ الدراسات راهناً تركّز على وجوب رفع الأسعار بشكل مدروس والحدّ من الخسائر التي يتكبّدها القطاع، بما يسمح له بالصمود إلى حين وضع رؤية لمستقبله. هذه الرؤية لا تزال ضبابية، علماً أن الوزير قرم يعتبر أن الحلّ هو في تطبيق قانون الخصخصة 431/2002 المتعلق بإنشاء الهيئة الناظمة للاتصالات وبـ liban telecom واللذين لم يُطبّقا لغاية اليوم. وهو في سبيل هذا الهدف، زار الرئيس نبيه بري الأسبوع الماضي وأطلعه على رغبته في تنفيذ القانون، مشيراً إلى أنه حصل على مباركته لتعيين أعضاء الهيئة الناظمة.
بالنتيجة، الوزير نفسه أعلن أنه “إذا لم تُعدّل تعرفة الإتصالات أو تم دعمها خلال 3 أو 4 أشهر، فنحن ذاهبون إلى انقطاع الاتّصالات”. واعتبر أن الانقطاعات الحالية تعود إلى ثلاثة أسباب: انقطاع المازوت، السرقات التي تطال المحطات والسنترالات وعدم القدرة على شراء قطع غيار بسبب عدم توفر آلية للدفع بالدولار.
سبق أن كشف الوزير نفسه، في تصريح لقناة الـOTV، أن احتساب دولار الاتصالات على سعر 9 آلاف ليرة يؤمن استقرار القطاع”. هذا يعني أنه إذا أُخذ بهذا الرقم ستزداد قيمة الفواتير الحاليّة ستّ مرّات وهو ما لا قدرة لكُثُر على تحمّله، مما سيؤدي إلى اضطرار البعض إلى إلغاء اشتراكاتهم. ما يتناقض مع مبدأ “إنترنت للجميع”، بخاصّة أن ذلك لم يعد ترفاً في الوقت الراهن. فالإنترنت هو الرئة التي يتنفّس بها البلد، اقتصادياً وتعليمياً. أضف إلى أنّ مصادر أوجيرو، كما الشركات الخاصة، تؤكّد أنه حتى قبل رفع الأسعار، ثمّة حركة نزوح ملحوظة للمشتركين من الباقات الأعلى إلى الأدنى. ما يعني أن الأزمة الاقتصادية أثّرت على قدرة الناس على الحصول على الإنترنت، بغض النظر عن سعر الدولار وكيفية احتساب أسعار الباقات. وبالتالي، أي زيادة غير محسوبة ستكون نتائجها كارثية. فبدلاً من الحدّ من النزف في القطاع، سيزداد هذا النزف مع انخفاض عدد المشتركين، وسيؤدي إلى ترك آثار بليغة على الاقتصاد المعتمد بشكل كبير على الإنترنت. علماً أن أوجيرو أوقفت العمل بمضاعفة الكوتا والسرعات (كانت متبعة منذ بداية أزمة كورونا)، وهو ما كان يفترض أن يساهم في الانتقال إلى الباقات الأعلى نظراً لازدياد الطلب على الإنترنت لا العكس.
صحيح أن المعنيين يؤكدون مراراً أن الزيادة وصلت إلى كلّ شيء حتى رغيف الخبز، ووحدها الاتصالات بقيتْ على سعر 1500 ليرة. لكن الصحيح أيضاً أن حساسية الأمر تتطلب دقّة بالغة في التعامل مع المسألة. وهذا لا يبرر، في المطلق، مرور سنتين من دون أي تعديل في التعرفة، ما فاقم من أزمات القطاع وجعل الخيارات أصعب.
يقول الوزير قرم ل “المفكرة القانونية” إنه ينتظر الدراسة النهائية للأسعار قبل تقديم اقتراح إلى مجلس الوزراء لتعديل مرسوم التعرفة. فالهيئة سبق أن قدّمت دراسة إلى الوزير حواط، ثم قدّمت أخرى إلى الوزير الحالي، لكن الأمر لم يُحسم بعد، مع توقعات بأن تُقدم الدراسة النهائية هذا الأسبوع. مصادر الهيئة، تنفي ما يُحكى عن احتساب الدولار على سعر 6 آلاف ليرة أو 9 آلاف أو 12 ألف، مشيرة إلى أن الأسعار ستزاد نحو مرتين ونصف، بما يعني أن سعر الدولار سيُقارب 4 آلاف ليرة. لكن الأمر لن يقتصر على ذلك. فمع زيادة الأسعار ستُزاد الكوتا أيضاً. كما ستراعى أوضاع مختلف الشرائح، فلا تشهد الباقات الدنيا زيادة كبيرة في الأسعار، مقابل زيادة أعلى للباقات العليا. فمن يستهلك الكثير من السعات يُفترض أن يكون قادراً على تحمّل كلفتها.
إنترنت الأحياء: إمارات مستقلّة عن الدولة
الشركات الخاصة لا تملك، من جهتها، أيّ تصور للزيادة، لكنها تؤكد أنّ استمرار الوضع الراهن يمكن أن يطيح بالقطاع برمّته. وهي تنتظر عرض التصوّر النهائي للأسعار عليها لإبداء رأيها. لكن مع ذلك، فقد عرض ممثّلو القطاع الخاص على الوزير أفكاراً عامة تتعلق بكيفية تحسين إيرادات القطاع من دون أن يكون ذلك على حساب المشتركين. أبرز ما يكرّره هؤلاء هو وجوب ضبط قطاع توزيع الإنترنت بشكل غير شرعيّ (إنترنت الأحياء). فبالرغم من أن هذه الشركات تدفع ثمن السعات الدولية لأوجيرو، إلا أنها لا تدفع التكاليف التي تدفعها الشركات المرخّصة إلى الهيئة (بدل تأسيس خط الانترنت وبدلات شهرية ثابتة عن كل اشتراك). علماً أنّ هذا القطاع تزيد حصته السوقية عن حصة أوجيرو والشركات مقدمة الخدمات معاً. فأوجيرو تملك نحو 280 ألف اشتراك وأقلّ منها بقليل تملك الشركات المرخصة تقديم الخدمة، بما مجموعه نحو 500 ألف اشتراك، فيما يستحوذ القطاع غير الشرعي على ما يزيد عن 600 ألف اشتراك. يؤكد المدير العام لأوجيرو عماد كريدية ل”المفكرة القانونية” أن الهيئة تعمل بالتعاون مع الوزارة على إيجاد حلّ لهذه المعضلة، بما يؤدي إلى تحسين واردات الهيئة ولا يؤدي إلى حرمان الناس من الإنترنت، وكذلك لا يساهم في إحياء عمليات شراء الإنترنت من خارج لبنان، كما كان يحصل سابقاً. تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الشركات غير ملزمة بالتسعيرة الرسميّة لباقات الإنترنت، وهي في أغلبها رفعتْ الأسعار بالفعل. علماً أن تحصيل نحو 10 آلاف ليرة شهرياً فقط عن كل اشتراك لديها، كفيل بتحصيل 72 مليار ليرة سنوياً بالحد الأدنى.
المشكلة الأساسية أن أوجيرو والشركات غير قادرين على تعويض النقص الذي يمكن أن يسبّبه أيّ قرار بإقصاء الشركات غير الشرعية نهائياً (بغضّ النظر عن عدم توفر القدرة التقنية أو القدرة على مواجهة الحمايات السياسية التي يتمتع بها أصحاب هذه الشركات)، إذ لا يزال ثمة مناطق لا يصل إليها الإنترنت الشرعي، وإن وصل فيكون بقدرات ضعيفة. لا يعني هذا أن الإنترنت غير الشرعي يقتصر على هذه المناطق، لكنه يعني أن أيّ خطوة جذرية تتطلب أن يكون البديل موجوداً.
تمديد الفايبر: خسارة لا تُعوّض
بالرغم من أن أوجيرو تجزم أنها قادرة مع وزارة الاتصالات على الوصول إلى 85% من الأراضي اللبنانية، وبالرغم من الإشارة إلى قدرتها على تمديد 125 ألف اشتراك فايبر حالياً (لا يزيد العدد الحالي عن 25 ألفاً)، إلا أن خللاً أساسياً يواجه تحسين أداء الإنترنت وجعله رافعة فعلية للاقتصاد: المشروع الحلم الذي كان يفترض أن ينشر الفايبر على كامل الأراضي اللبنانية صار من الماضي. والأسوأ أنه لن يكون هنالك أيّ استثمارات في المدى المنظور. ما يعني أن الزيادة في الأسعار، قد لا تكون كافية لإنقاذ القطاع الذي يحتاج إلى إدارة مختلفة تراعي حاجات الناس وعاداتهم الاستهلاكية. فالمطلوب أولاً بنية تحتية متطورة، كان يفترض أن تكون منجزة اليوم. منذ العام 2009، أطلق الوزير شربل نحاس مشروع تمديد الألياف الضوئية، ليطال بداية السنترالات الرئيسية والمستهلكين الكبار. لكن بعد ذلك، كان يفترض أن يتقدم المشروع ليصل الفايبر بالنتيجة إلى كل منزل (FTTH)، أو على الأقل إلى كل شارع (FTTC). منذ العام 2017، كانت الخطوة الأولى التي أقدم عليها الوزير جمال الجراح هي استبدال المدير العام السابق لأجورو عبد المنعم يوسف وتعيين المدير الحالي عماد كريدية. أما أولويته الثانية فكانت تلزيم مشروع تمديد الفايبر الذي كانت تنجزه أوجيرو. لم يقف أحد في وجهه، وكانت النتيجة أن وقّعت أوجيرو عقداً مع شركة “سيرتا” لصاحبها هشام عيتاني الذي كان مقرباً من نادر الحريري. رسا عليه المشروع ب300 مليون دولار، وأقر مجلس النواب قانون برنامج لهذه الغاية. المشروع كان يفترض أن ينتهي نهاية العام الماضي. أي كان يفترض أن يكون لدى اللبنانيين بنية تحتية تسمح بالانتقال الفعلي لمجتمع المعرفة، إلا أن ما حصل أن 30% فقط من المشروع قد أنجز قبل إلغائه تماماً، فضاعت فرصة قد لا تعوض. يبلغ كريدية وعيتاني “المفكرة القانونية” أن المشروع أوقف لأنه لم يعد بالإمكان استمرار العمل بالأسعار نفسها. وهما إذ ينفيان المماطلة في إنجاز المشروع، يشيران إلى أن السنة الأولى من العقد استُهلكت في عملية إعداد الخرائط والدراسات، خاصة أن معظم الخرائط الموجودة لدى “أوجيرو” كانت قديمة. الحجة الأكبر هي مرحلة 17 تشرين ثم كورونا وارتفاع سعر الدولار. عندها لم تعد أوجيرو قادرة على الدفع، بسبب عدم تحويل الأموال التي ينص عليها قانون البرنامج إليها، فتوقفت عن إصدار أوامر الأشغال. وبعدما كانت ال450 مليار ليرة تساوي 300 مليون دولار، لم تعد تساوي أكثر من 20 مليون دولار. أما النتيجة، فحصول “سيرتا” على 50 مليون دولار عند توقيع العقد، وعدم حصول أي تغيير فعلي في واقع الإنترنت. علماً أن الموازنة الحالية، التي تبدو كأنها آتية من عالم آخر، تنص على تأجيل قانون البرنامج حتى 2023 و2024 من دون أي تعديل في المبلغ بالليرة. ما يعني باختصار، أن لا تطوير لقطاع الاتصالات في الفترة المقبلة، الذي أضاعت إدارته فرصة لا تُعوّض لنقله إلى قطاع عصري يؤمّن إنترنت. أما من كان يأمل فتح الباب أمام اقتصاد المعرفة، وتحويل لبنان إلى مركز للأعمال، فلن يكون أمامه سوى الأمل في أن لا تنقطع خدمة الإنترنت.