رُصد مؤخّراً تفشٍّ كبير لظاهرة الابتزاز الجنسيّ في لبنان بخاصّة نتيجة الحجر المنزلي الذي فرضته جائحة كورونا. وكان المسرح الأوّل لهذه الظاهرة مواقع التواصل الاجتماعي حيث يهدد المبتزّ بنشر مقاطع فيديو الضحية في وضعيات محرجة، أو صور لها، أو محادثات، وغيرها. وسجّلت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي- شعبة المعلومات ارتفاعاً في عدد شكاوى الابتزاز الجنسي التي وردتها في العامين المنصرمين بنسبة 754%. وبلغ عدد الشكاوى في العام 2020 99 شكوى، 80.08% منها وردت من القصّر الإناث، فيما 19.2% منها وردت من القصّر الذكور.
ورغم الارتفاع في حالات التبليغ، إلّا أنّ النسبة لا تزال منخفضة نظراً إلى أنّ الكثير من الضحايا يمتثلون لما يطلبه المبتزّ من دون الإبلاغ عنها، نظراً إلى قلّة ثقتهم في قدرة الأجهزة الأمنية على التحرّك سريعاً ومنع المبتزّ من الاستمرار في ابتزازه أو من نشر ما لديه عن الضحية، أو نتيجة موروثات اجتماعية تجعلها تخجل من الإفصاح عن الأمر سواء للقوى الأمنية أو لعائلتها أو نتيجة وضع الضحية غير القانوني الذي تخشى أن تعرف به القوى الأمنية.
تختلف الدوافع والأذى واحد
تتعدّد دوافع الابتزاز الجنسي وأهدافه. فبعضها مادّي حيث يكون المبتزّ فرداً أو عصابة منظّمة هدفه الحصول على المال، وأحياناً تكون وراءها مافيات تجّار مخدرات أو إتجار بالبشر. البعض الآخر من هذه الدوافع تكون جنسية، هدفها الالتقاء بالضحية على أرض الواقع أو إقامة علاقة جنسية معها. أحياناً تكون الدوافع مرضية، تنشأ من حب السيطرة وتملّك الضحية. “بعض المبتزّين يفعلون ذلك من شدة التعلّق والخوف من خسارة الحبيب”، بحسب لطيفة حسنية صاحبة مبادرة “ما يبتزّك نحنا حدّك” التي تواصلت مع بعض منهم. وتضيف لطيفة أنه “في بعض الأحيان يكون المبتز مراهقاً غير ناضج يدفعه الاستعراض إلى تهديد صديقه أو صديقته بنشر الصور إذا لم يستمرّ بإرسال المزيد من الصور التي تغريه”.
أياً كانت دوافع المبتز فالأذى اللاحق بالضحية واحد خصوصاً في حال امتثلت لطلباته فالأذى سيستمر كما حصل مع “عائشة” (اسم مستعار) وهي فتاة سورية، عشرينية، هربت من ويلات الحرب السورية ولجأت إلى لبنان لتتعرّض إلى ما هو أشدّ قسوة: الابتزاز الجنسيّ على يد شاب لبناني جمعتهما علاقة عاطفية. تقول عائشة إنّ الأخير صوّر علاقة جنسية بينهما وهدّدها بنشر الفيديو إذا ما سلّمته كل راتب شهري تتقاضاه. ورغم أنّها امتثلت له، إلّا أنّه استمرّ في إيذائها حيث كان يضربها إلى درجة أنّه في إحدى المرّات كسر يدها. وفي كلّ مرّة كانت تفكّر بالتبليغ عنه للقوى الأمنية كانت تتذكّر كلامه: “أوراقك غير قانونية، إذا اشتكيت عليّ ستسجنين”. وعاشت عائشة سنة كاملة من الابتزاز، والتعنيف، والحزن الدفين، ونظراً لخوفها من تبليغ القوى الأمنية بسبب وضعها غير القانوني، بحثت عن بديل إلى أن تعرّفت إلى مبادرة “ما يبتزك نحنا حدك” التي ساعدتها في التخلّص من مطاردة مبتزّها حيث أمّنت لها المال لتجديد إقامتها ثم في رفع شكوى على المبتز.
جاد (اسم مستعار) لجأ أيضاً إلى لطيفة عندما بلغ ذروة الخوف واليأس. هو أيضاً تعرّض للابتزاز الجنسيّ من عصابة في المغرب بعد أن أرسل مقطع فيديو حميم له إلى حساب فتاة على “فيسبوك”، تبيّن لاحقاً أنّ صاحبه شاب ينتحل صفة فتاة للإيقاع بالشباب. هدّدت العصابة جاد (25 عاماً) بنشر الفيديو إذا ما أرسل لها مبلغ 2000 دولار عند الساعة الحادية عشر صباحاً. في ذلك اليوم، وعند الساعة الثالثة فجراً، اتّصل جاد بلطيفة وأخبرها القصة كاملة. قال لها بصوت متقطّع يلهث باستمرار: “أنا من عائلة محافظة، إذا نشروا الفيديو سأقتل نفسي قبل أن يقتلني والدي ويتورّط بدمي”. هنا تدخّلت لطيفة بسرعة، وأجرت اتصالاتها بمعارف لها في المغرب بعد أن تلكّأت الجهات الرسمية اللبنانية عن المساعدة، لأنّ العصابة خارج الأراضي اللبنانية.
القوى الأمنية تستنفر
نظراً إلى كون الابتزاز الجنسي ظاهرة واقعة في المجتمع اللبناني، طلبت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي ممن يتعرّضون للابتزاز أو التحرّش الجنسي الاتصال على الرقم هو 01293293 (وهو رقم مكتب الجرائم المعلوماتية) للتبليغ أو التواصل معها عبر صفحتها على فيسبوك (lebsif)، أو من خلال خدمة (بلّغ) على موقعها الإلكتروني. “فالمبتزّ قد يسترسل في إيذاء الضحية من دون أن يوقفه شيء سوى القوى الأمنية”، تقول المديرة التنفيذية في الهيئة الوطنية لشؤون المرأة ميشلين الياس مسعد. وتشير مسعد إلى “جهود جبّارة” تبذلها القوى الأمنية في إلقاء القبض على معظم المبتزّين. وتوضح أنّ ذلك يحصل بعد تحديد موقع المبتز من خلال عنوانه كمستخدم على شبكة أو ما يسمّى IP Adress إذا كان داخل لبنان. أما في حال تواجده خارج الأراضي اللبنانية، “يزداد الوضع خطورة وتعقيداً ويصعب ضبطه”، بحسب مسعد.
لذلك، أخذت الهيئة على عاتقها توعية المراهقين والمراهقات في المدارس والجامعات الذين يعتبرون “أكثر الفئات تعرّضاً للابتزاز الجنسي نظراً للساعات الطويلة التي يقضونها باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي المفتوحة على العالم”. وتجري التوعية على أمرين أوّلهما، “تحصين الجيل الجديد من سيوف الفضاء الإلكتروني الحادّة” وتوعيتهم على عدم التواصل مع الغرباء وإرسال صور حميمة إليهم. وإذا “حدث الخطأ”، تذكّر الهيئة ضحايا الابتزاز بشكل مستمر بضرورة عدم الشعور بالخجل أو التردّد في التبليغ عن المبتزّ لأن عملية توقيفه “تحصل بسرّية تامة”، تطمئن مسعد.
ملاحظات على مقاربة الأجهزة الأمنية
على صفحاتها الرسمية على مواقع التواصل، تحذّر المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي المواطنين من خطورة أخذ صور فوتوغرافية أو تصوير أنفسهم عبر الفيديو بشكل غير لائق تحت أي ظرف من الظروف، كي لا يقعوا ضحايا استغلال وابتزاز من قبل الآخرين. كما تطلب من الأهالي مراقبة أولادهم وتوعيتهم بشكل مستمر من مخاطر الإنترنت. وصحيح أنّ القوى الأمنية تظهر جديتها في التعاطي مع قضايا الابتزاز. “لكن المقاربة الأخلاقية التي تلوم الضحية غالباً ما تطغى في تعامل الأجهزة الأمنية مع الضحية وتواصلها مع الناس”، على ما تقول المحامية غيدة فرنجية رئيسة قسم التقاضي في “المفكرة القانونية” .
فعندما تلجأ الضحية إلى القوى الأمنية لتبلّغ عن مبتزها وبالرغم من متابعتها الجدية للشكوى، “تتعرض إلى معاملة قاسية لا تخلو من التأنيب الذي قد يصل إلى حد التجريح”، بحسب لطيفة حسنية. وهذا يعتبر “تعدّياً على الخصوصية”، كما تقول فرنجية، “لأنّ القوى الأمنية واجبها التقصّي عن المبتزّ والتحقيق معه تحت إشراف القضاء بدون تأديب الضحية، لأنّ التأديب قد يشكّل تعدياً إضافياً على خصوصيتها ويلحق بها أذى معنوياً يثنيها عن اللجوء مجدداً إلى القوى الأمنية”. أمّا في ما يخصّ الحملة الإعلامية التي أطلقتها المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي بعنوان “ما تتصوّر”، فترى فرنجية أنّ “هذه الحملات تستند على لوم الضحية بدلاً من أن تكتفي بتنبيه الناس من مخاطر الابتزاز. فالتصرّف الخاطئ والمجرّم يكمن في ابتزاز الضحية وليس في مشاركتها لصور حميمية وهو فعل يدخل في إطار ممارسة الحرية الشخصية.” لذا، ترى فرنجية أنّه من الأجدى أن تعتمد هذه الحملات على مقاربة “تنبّه من نتائج إرسال صور حميمية لطرف آخر بدون التثبّت من هويته وأنّه أهل للثقة بدلاً من أن توحي بأنّ الابتزاز هو بسبب تصرّفات خاطئة للضحية”.
“قضايا الابتزاز الجنسيّ التي نشهدها اليوم تثير الرعب. فالمبتز لا يكتفي بتهديد الضحية، بل يعنّفها، ويدخل إلى بيتها، ويلحق بها إلى مكان عملها أحياناً. وأحيانا أخرى يمنعها من مغادرة منزلها. لذلك عندما تتواصل معي الضحية تكون فعلياً في حالة هستيرية”، تقول لطيفة. ومع ذلك، “لا تزال القوى الأمنية بطيئة في الاستجابة لشكاوى الضحايا”، بحسب لطيفة. علماً أنّ قضايا الابتزاز لا تحتمل التأجيل ليوم واحد لأنّ الضحية قد تُقدِم على الانتحار في أي لحظة ضعف واستسلام. وتكشف لطيفة “للمفكرة” كيف تؤثر الوساطات على كثير من قضايا الابتزاز الجنسيّ “يمارس بعض السياسيين ضغوطات لإخلاء سبيل المبتز بعد أسبوع من توقيفه”.
تقول لطيفة إنّها ساعدت 340 ضحية ابتزاز جنسيّ منذ إطلاق حملتها في حزيران عام 2019. ما دفعها لذلك هو انتحار فتاة تبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً أرسلت لصديقها صوراً حميمة لها، وشعرت “بالفضيحة” بعدها وأطلقت النار على نفسها. الهدف من مبادرة “ما يبتزّك نحنا حدك” هو “إشعار ضحايا الابتزاز أنّ هناك من يقف إلى جانبهم، وتوجيههم عبر التواصل معهم على تطبيق “واتساب” حول كيفية التصرّف مع المبتز إلى حين تسليمه إلى القوى الأمنية”. وتعترف لطيفة بأنّها تلجأ إلى أطراف ثالثة حين تتأخّر القوى الأمنية في التدخّل “وذلك للمساعدة في الضغط على المبتزّ ومحو الصور والفيديوهات عن هاتفه”.
المنحى القانوني
بعد انتهاء التحقيق، تحيل القوى الأمنية الملف إلى النائب العام الذي يقرّر الإدعاء على المبتزّ. وفقاً لفرنجية، إذا جرى الابتزاز مقابل منفعة خاصة كالمنفعة المادية، غالباً ما تدعي النيابة العامة بموجب جنحة المادة 650 من قانون العقوبات التي تنصّ على العقوبة بالسجن من شهرين إلى سنتين وبالغرامة المالية لكل من “يهدد شخص آخر بفضح أمر ينال من شرفه أو كرامته أو اعتباره”. وفي حال توّصل التحقيق الى التعرّف على هوية المبتز، يمكن أن تحال القضية مباشرة للمحاكمة أمام قاضٍ منفرد جزائي. أما في حال بقي المبتزّ مجهولاً، قد تلجأ النيابة إما الى حفظ الملف أو إحالته الى قاضي تحقيق ليجري الأخير تحقيقات إضافية.
وبعد صدور قانون التحرّش الجنسي الجديد في أواخر العام 2020، أصبح بإمكان النيابات العامة أن تستند إليه في حال هدّد المبتز بنشر الصور للحصول على منفعة جنسيّة، و”ينظر إلى الحالة على أنّها تحرش جنسيّ إلكتروني” بحسب المحامي كريم نمّور من “المفكرة القانونية”. وبما أنّ القانون لم يدخل حيز التنفيذ، ما زالت آلية تطبيقه غير واضحة. لكنّ نمّور يشير إلى أنّ “العقوبة تتحدّد بحسب صفة المبتز.” فإذا كان لا يملك سلطة على الضحية، يعدّ الابتزاز في هذه الحالة جنحة يعاقب عليها بالسجن بين الشهر والسنة، و\ أو بغرامة مالية تساوي عشرة أضعاف إلى عشرين ضعف الحد الأدنى الرسمي للأجور، ويمكن للنائب العام أن يحيل القضية إلى القاضي المنفرد الجزائي للمحاكمة. أما إذا كان المبتز ذا سلطة على الضحية تشكل ضغطاً نفسياً أو مادياً أو معنوياً شديداً عليها، يعدّ الابتزاز في هذه الحالة جناية تصل العقوبة فيها إلى الأربع سنوات، وتتراوح الغرامة المالية بين 30 و50 أضعاف الحد الأدنى الرسمي للأجور، فيحيل النائب العام القضية إلى قاضي تحقيق وصولاً الى المحاكمة أمام محكمة الجنايات.
كيف نحمي أنفسنا من الابتزاز؟
يشير المدير التنفيذي لمنظمة “سمكس” للحريات الرقمية محمد نجم إلى أنّه “عندما نتطرّق للنشر والتعبير على المنصات الرقمية، تظهر العديد من التحديات خصوصاً لمن هم من الأقليات المهمّشة، من بينها حوادث الابتزاز الجنسي الإلكتروني التي لاحظنا انتشارها الواسع بالتزامن مع انتشار جائحة كورونا، وتكثف حضورنا الإلكتروني خلال فترة الحجر المنزلي”.
ولأنّ الوقاية خير من قنطار علاج، ينصح نجم، للحماية من الابتزاز الجنسي، باستخدام زر البلوك لتفادي أي تمادي من المبتزين المحتملين، وإهمال الرسائل التي تصل من أشخاص مجهولين. ويصرّ نجم على ضرورة عدم قبول طلب صداقة حسابات مجهولة أو أشخاص غير موثوق بهم، والتأكد قبل قبولهم من الصور المنشورة على صفحاتهم والبروفايل ولائحة الأصدقاء ومنشوراتهم السابقة التي تظهر وجود حركة طبيعية على الحساب. أما إذا وقع الخطأ، وتعرّض الشخص للابتزاز الجنسيّ، يحثّه نجم على ضرورة التواصل مع أشخاص ذوي ثقة للمساعدة في كيفية التصرّف، وعدم التردّد في التبليغ عن المبتز للأجهزة الأمنية.
دور الأهل أساسي
إذا فضّلت الضحية الصمت على أن تبلّغ عن مبتزّها، واستسلمت له “فسوف تطاردها مشاعر القلق أينما حلّت، وستعيش في عزلة اجتماعية خانقة، لأنّ هاجس أن يتصل المبتزّ في أي وقت ويطلب صوراً جديدة سيبقى يلاحقها”، تشرح المعالجة النفسية المتخصصة في العلاج النفسي العيادي رولا عز الدين النتائج الكارثية للإحجام عن التبليغ عن المبتز. وتضيف، “تبدأ التأثيرات النفسية للابتزاز في تراجع التحصيل المدرسي، واضطرابات في النوم وفي النظام الغذائي. وعندما يرهق الابتزاز كاهل الضحية، تظهر علامات الاكتئاب، وصولاً إلى حد انعدام أي بصيص للأمل. هنا تشعر الضحية بعبثية الحياة ولا تجد أمامها سوى الانتحار حلاً لمأساتها”.
“معظم حالات الابتزاز الجنسي يقع ضحيتها قصّر ومراهقون ومراهقات غالباً ما لا يجيدون تمييز الصح من الخطأ”، تؤكد عز الدين، وتشير في هذا الصدد إلى أهمية دور الأهل في توطيد العلاقة ينهم وبين أولادهم لكسر حاجز الخوف عندهم، ودفعهم إلى الإفصاح عن معاناتهم عند التعرّض للابتزاز. ويحصل ذلك من خلال “إجراء حوارات بشكل مستمر بين أفراد العائلة للحديث عمّا يمرّ به الأولاد في حياتهم اليومية من جهة، وإطلاعهم على مشاكل الأسرة بشكل صريح من جهة ثانية”. لكن، لتجنّب وقوع حوادث الابتزاز الجنسي أساساً، “المسؤولية الأبرز تقع على الأهل”، برأي عز الدين التي تشدّد على ضرورة أن يكونوا “العين الساهرة” على أولادهم منذ بداية سن المراهقة. فلا يسمحون لهم بوضع قفل لهواتفهم الذكية أو الانطواء والانعزال عن الآخرين خلال استخدامهم لها. “وليس ذلك تعدٍ على الخصوصية بقدر ما هو إشراف على استخدام أولادهم لمواقع التواصل الاجتماعي لمعرفة مع من يتواصلون، ماذا يرسلون، وماذا يصلهم”، على ما تقول عز الدين. وقبل الوصول إلى سن المراهقة، “لا بد من تعليم الأولاد على احترام خصوصية أجسامهم، وعدم استباحتها أمام الآخرين”. أما ضحايا الابتزاز الجنسي ممن هم أكبر سناً، “فغالباً ما يمررون الصور الحميمة عندما يشعرون بأنهم مرغوبون من الطرف الآخر إلى حد منحهم الثقة العمياء”، بحسب عز الدين.