الإيجارات القديمة في أحكام قضائية متناقضة

،
2016-04-01    |   

الإيجارات القديمة في أحكام قضائية متناقضة

أبطل المجلس الدستوري المواد /7/ و /13/ والفقرة ب-4 من المادة /18/ من قانون الإيجارات الجديد الصادر عام 2014، والمتعلقة كلها باللجنة المكلّفة بتحديد بدل المثل والناظرة في استفادة المستأجرين ذوي الدخل المحدود من الصندوق الخاص للإيجارات السكنية. وبعد سنة وثلاثة أشهر على دخوله حيّز التنفيذ في 28/12/2014، لا تزال إشكالية مدى تطبيق القانون تتفاعلوسط انقسام حاد بين مالكين ومستأجرين.وما يزيد الأمر تعقيداً هو انقسام المحاكم بهذا الشأن.

وقد عملت المفكرة على إجراء مسح لاجتهادات المحاكم في هذا الخصوص لفهم أوجه الإلتقاء والإختلاف فيما بينها. وإذ هي تنشر بحثها كاملاً ضمن دراسات المرصد، فإنها تكتفي هنا بنشر ملخص عنه، وتحديدا بما يتصل باشكالية مدى نفاذ القانون لجهة استرداد المآجير لقاء تعويض. وقبل المضي بذلك، لا بد من التذكير بمجموع الإشكاليات المطروحة اليوم أمام محاكم الإيجارات.

نصوص القانون موضع الاشكالية

من يراجع الأحكام الصادرة في 2015 عن المحاكم المختصة بالنظر في نزاعات الإيجارات القديمة، يتبيّن عدداً من مواقع الاختلاف فيما بينها:
موقع الاختلاف الأول يتأتى عن مسألة غفل عنها القانون الجديد، وهي تتصل بالقانون الواجب تطبيقه على الدعاوى العالقة أو تلك المقامة في فترة الفراغ التشريعي الممتدة من 1/4/2012 إلى 28/12/2014. وقد شكلّت هذه المسألة مادة دسمة في عيّنة الأحكام موضوع الدرس. ومواقع الاختلافات الأخرى تتأتى عن عاملين آخرين:

الأول، أن المجلس الدستوري أبطل اللجنة ذات الصفة القضائيةالمُنشأة بموجب القانون الجديد. وبذلك، بات هنالك تساؤل جدي حول إمكانية حلول جهة معينة محلها للقيام بالمهام التي كان القانون أناطها بها. وما يجعل هذا السؤال ملحا هو أن المهام تلك محورية في نفاذ القانون: فمهمة تحديد بدل المثل عند وجود اختلاف بين المالك والمستأجر المناطة بها، محورية طالما أن تحديد بدل المثل يشكل الأساس المعتمد لحساب الزيادة على بدل الايجار (المادة 15)، والتعويض المتوجب لمصلحة المستأجر في حالة استرداد المأجور للضرورة العائلية أو للهدم والبناء (مادة 22) وهو بمثابة حجر الأساس في البناء التشريعي الجديد. كما أن مهمة البت بأحقية الحصول على مساهمة من الصندوق المنشأ لمساعدة المستأجرين الذين لا يتجاوز معدّل دخلهم 3 أضعاف الحدّ الأدنى[1] (في ما يلي “الصندوق”) هي الأخرى محورية طالما أن هذه المساعدة تشكل عنصراً أساسياً في التوازن الإقتصادي الذي حدده القانون الجديد بين المالك والمستأجر، بعدما أعلنت الدولة نيتها بمساعدة المستأجرين القدامى من ذوي المداخيل المحدودة في موازاة تحرير المالكين من عبء إسكانهم. وللدلالة على ذلك، علّقالقانون صراحة مهلة دفع الزيادات على بدل الإيجار الناتجة عن تنفيذ القانون إلى حين نفاذ قرار اللجنة بهذا الشأن (المواد 8 و11)، كما منح المشرّع المستأجر في حالة استرداد المأجور حق طلب مساهمة مالية من الصندوق (مادة 22).

أما العامل الثاني، فقد تمثّل بعدم إنشاء “الصندوق” أو تأمين الموارد له. فتبعا لذلك، يفقد القانون إحدى آليات التوازن الأساسية بين المالك والمستأجر المشار إليها أعلاه، بحيث يصبح تنفيذ القانون بغياب الصندوق وكأنه يجرّد المستأجرين من مزيد من الضمانات. ولإدراك أهمية ذلك، نحيل إلى القرار الصادر عن المجلس الدستوري بردّ الطعن بدستورية القانونبعدما أجرى مقاربة شاملة لجميع الآليات التي أرساها القانون، للقول بتحقيقه توفيقاً متوازناً ومقبولاً بين الحق بالملكية والحق بالسكن الذي اعتبره المجلس “ذا قيمة دستورية”. وتاليا، بدا “الصندوق” بمثابة عنصر أساسي للقول بدستورية القانون.

فكيف تصدّت المحاكم لهذين العاملين؟ وتحديداً ما كان جوابها على الأسئلة الآتية:

–       ما هو أثر إبطال اللجنة على تطبيق آلية تحديد بدل المثل؟
–       ما هو أثر إبطال اللجنة على طلبات المساعدة من الصندوق؟
–        والأهم، ما هو أثر عدم إنشاء الصندوق وعدم تمويله على تطبيق القانون الجديد؟

بدراسة لعيّنة من 75 حكماً توزعوا بين قضاة منفرين (بيروت، جديدة، بعبدا، طرابلس والنبطية) ومحاكم استئناف (بيروت وبعبدا وجديدة)، أمكن سبر الإجابات القضائية المختلفة على هذه الأسئلة.

المسألة الأولى: إشكالية تحديد بدل المثل تبعا لإبطال النصوص المنشئة للجنة ذات الطابع القضائي:

هذه المسألة تطرقت إليها الأحكام في سياق النظر في دعاوى أقامها المالكون لاسترداد المآجير.فالمادة 22 تلزم المالك الراغب باسترداد المأجور أثناء السنة الأولى التمديدية بدفع تعويض يوازي بدل إيجار 4 سنوات محتسبة على أساس بدل المثل في حالة الضرورة العائلية، و6 سنوات في حالة الهدم للبناء. ويتناقص هذا البدل مع مرور كل سنة تمديدية بمقدار ال1/9. وتالياً، فإن تحديد التعويض يفرض بالضرورة تحديد بدل المثل الذي يعادل نسبة (5%) من القيمة البيعية للمأجور في حالته القائمة. وعليه، يثور التساؤل فيما إذا كان يمكن الفصل في دعاوى الاسترداد، في ظلّ تعطيل آليات تحديد البدل المثل، وتحديداً في ظلّ إبطال النصوص المنشئة للجنة المخولة بذلك. ويشار إلى أن القانون يضع آلية معقدة لتحديد بدل المثل: ففي حال فشل المالك والمستأجر في الإتفاق على بدل المثل رضائياً خلال الأشهر الثلاثة الأولى من نفاذ القانون، للمالك أن يعين خبيرين لتخمين بدل المثل، على أن يكون للمستأجر خلال شهرين من إبلاغه التخمين، إما الموافقة عليه أو تقديم تقرير مقابل منظم من خبيرين يستعين بهما. وعند الاختلاف بين التقريرين، تصدر اللجنة قراراً معللاً غير قابل للمراجعة. وقد أتت الإجابات القضائية متباينة في هذه المسألة، سنتولى عرضها أدناه:

توجه أول: حلول المحكمة محلّ اللجنة

يظهر من عيّنة الأحكام قيد الدرس توجه أول لدى المحاكم بالحلول محلّ اللجنة الملغاة.

والحكم الأكثر دلالة ضمن هذه الفئة، هو الحكم الصادر بتاريخ 26-10-2015 عن محكمة استئناف بيروت، وتحديداً عن الغرفة التي يرأّسها القاضي أيمن عويدات[2]. وقد علّل هذا الحكم حلول القاضي محل اللجنة بمجموعة من الإعتبارات، منها المادة 20 من الدستور التي تجعل القاضي السلطة المختصة بالنظر في النزاعات، وقانون أصول المحاكمات المدنية باعتباره القانون العام الواجب التطبيق في حال عدم وجود قانون استثنائي محدد بشكل واضح، والمادة 4 أ.م.م. منه التي توجب على القاضي فصل الدعاوى تحت طائلة عدّه مستنكفاً عن إحقاق الحق. وقد أشار الحكم أن اللجنة التي أنشأتها المادة 7 منه لتحديد بدل المثل والتي أبطلها المجلس الدستوري لاحقاً، ليست لجنة إدارية وإنما لجنة لها الصفة القضائية (…) لا سيما وأنها تفصل بمنازعة بين فريقين تتعلق بتحديد بدل الإيجار الواجب دفعه خلال فترة التمديد القانوني (…) وتأسيساً على ذلك، فإنه تبعاً لإبطال اللجنة المذكورة، يعود النص العام للنفاذ بحيث يكون إختصاص النظر بالنزاعات المتعلقة بقيمة الزيادة على بدلات الايجار بين المالكين والمستأجرين إلى القاضي المنفرد المدني بوصفه المرجع القضائي العادي لذلك وفق نص المادة 86 أ.م.م. وقد اعتبرت المحكمة أنه ليس من شأن درس إجراء تعديلات على القانون (الجديد) من قبل المجلس النيابي وقف نفاذه لا سيما وأنه لا يتبيّن وجود أفق زمني لإنجاز هذه التعديلات. وخلصت بنتيجة ذلك إلى ردّ طلب استئخار البت بالدعوى الراهنة لحين صدور تشريع جديد. وقد رأت هذه الغرفة أن لها الحلول محلّ اللجنة للنظر في استحقاق المساعدة للمستأجر من “الصندوق” أيضاً.

وفي الإتجاه نفسه، ذهبت عموماً غرف محكمة استئناف بيروت[3]. وقد اعتبرت[4]إحدى غرفها برئاسة القاضيروكز رزقأن تمكّنها من تحديد قيمة التعويض بنفسها، يعفيها من الآلية القانونية الموضوعة من قبل المشرّع لهذه الغاية. الغرفة التي تترأسها الرئيسة سلام شمس الدين اعتمدت[5] المنطق نفسه لاعتبار القانون الجديد واجب التطبيق، مضيفةً أن “رأي هيئة التشريع والاستشارات (15/10/2014) بعدم امكانية تطبيق القانون الجديد على المآجير السكنية غير الفخمة انطلاقاً من قرار المجلس الدستوري، ليس ملزماً للمحكمة”. كما طبقت غرف محكمة الاستئناف في جديدة-المتن برئاسة القاضي جورج حرب[6] والقاضية ريما خليل[7]المادة 20 والمادة 22 دون أي تعليل لجهة أثر إلغاء اللجنة على تحديد بدل المثل وإذاً قيمة التعويض.

الأمر نفسه نجده في أحكام عدة صادرة عن قضاة منفردين. نذكر منهم الحكم الصادر عن القاضي جو خليل[8] (بيروت) مستنداً إلىالمادة 4 أ.م.م (التي تحظّر الاستنكاف عن احقاق الحق)، والمبادئ العامة والعرف والانصاف، لتبرير حلول المحاكم محل اللجنة، على اعتبار أنها المرجع الطبيعي للنظر في النزاعات. كما اعتبر أن “مواد القانون الجديد الأخرى تبقى قابلة للتطبيق طالما لم يشملها قرار المجلس الدستوري صراحةً”. كذلك أفضى اجتهاد القاضية فاطمة جوني[9] والقاضية أميرة صبرا[10] والقاضية ماري كريستين عيد[11](كلهن في بيروت) والقاضية ميراي ملاك[12](في بعبدا) إلى النتيجة نفسها. ونشير إلى أن الرئيسة جوني استندت وفي معرض احتسابها للتعويض، إلى سلطة المحكمة التقديرية كما “معرفتها العامة بأسعار العقارات في المنطقة المذكورة مستمدة من القضايا المعروضة عليها”. واعتبرت الرئيسة أميرة صبراأنه في ظلّ المادة 20 من قانون الإيجارات الجديد، لا يوجد أية صعوبة بالنسبة لتحديد (بدل المثل) من قبل هذه المحكمة”.

علاوة على ذلك، لم تقدّم بعض المحاكم أي تعليل لقرارها بالحلول محلّ اللجنة في بت الخلاف حول بدل المثل. وهذا أيضا ما عمدت إليه القاضيتان المنفردتان لارا عبد الصمد (بيروت)[13]، ونتالي الهبر (جديدة المتن)[14].

ويقتضي التفريق هنا بين فئتين من الأحكام:

–       الأحكام التي لم يكتفِ فيها القاضي بإعلان حلوله محل اللجنة، إنما ذهب أبعد من ذلك في اتجاه استبعاد مجمل الآليات المنظّمة في القانون المُشار إليها أعلاه (السعي إلى تعيين بدل رضائي وتبادل تقارير التخمين) بالإستناد إلى سلطته التقديرية المطلقة لتحديد التعويض، وهذه الأحكام هي الأكثر عددياً. وقد اعتمدت المحاكم المشار إليها أعلاه عموماً على تقرير الخبرة المقدّم بحسب أحكام القانون القديم، دون تكليف الفرقاء تطبيق آلية القانون الجديد. ويلحظ أن بعضها أشار إلى هذه الآليات ليستبعدها بالكامل فيما أن غالبيتها تجاوز هذه الآليات من دون ذكرها حتى. ويكون بذلك قسم من الاجتهاد قد وسّع مفعول الإبطال في قرار المجلس الدستوري ليشمل كامل المادة 18 وليس فقط فقرتها 4، بشكل يناقض السند المعتمد للقول بتطبيق القانون الجديد وهو اقتصار مفعول القرار الدستوري على المواد المبطلة صراحة. بهذا المعنى، قضت الرئيسة ماري كريستين عيد[15] بأن تقريرالخبرة مقبول “حتى لو لم تراع الشروط الشكلية لتحديد بدل المثل (…) لكون السلطة القضائية هي في مطلق الأحوال المرجع الأخير للفصل في هذه النقطة”، معتبرة أن حلول المحكمة مكان اللجنة الملغاة يعفيها من اتباع الأصول والآليات المنصوص عنها في القانون. في الإتجاه نفسه، ذهبت القاضية رنا حبقا[16] (طرابلس) والتي اعتبرت أن إبطال المواد 18 فقرة ب والمادتين 7 و13 من القانون الجديد يجعل مستحيلاً تطبيق الآيلة المعتمدة في المادة 18. وقد انتهت القاضية حبقا بنتيجة ذلك إلى استبعاد هذه الآلية والحلول مكان اللجنة لتعمل المادة 20 مباشرةً وبنفسها. وتجدر الإشارة علاوة على ذلك أن هذه المحاكمتجاهلت آلية عرض التعويض قبل إقامة الدعوى (المادة 25) والتي تقضي بتحديده قبل إقامة دعوى الاسترداد وليس في معرضها.

أما الفئة الثانية، وهي أحكام نادرة جدا، فهي تتمثّل بالأحكام التي تمسكت في إعمال هذه الآليات بعد حلولها محل اللجنةتحت طائلة رد الدعوى. ومن المهمّ هنا التفريق حسب موضوع الدعاوى. والمثال على ذلك هو الحكم الصادر عن القاضي المنفرد المدني بالانتداب في النبطية القاضي حسن سكينة[17] الذي اعتبر أن «القانون الجديد (حدد) في مواده 18-19-20- 21 آلية وكيفية ومقدار احتساب البدل المذكور»،  ليتابع أن «معاملة العرض والايداع (المادة 25)… تعتبر معاملة شكلية وجوهرية ويترتب على إغفالها رد الدعوى شكلاً”. ويلحظ أيضاً أن القاضية المنفردة في بيروت فاطمة جوني أشارت إلى هذه الآليات في سياق دعوى تهدف إلى زيادة بدلات الإيجار، وقد اعتبرت أن “هذا القانون حدّد آلية لتحديد الزيادة وهذا الأمر يتطلب حصول اتفاق رضائي بين الفريقين أو قرار عن المرجع القضائي المختص (مادة 18)” قبل أن تعمد إلى رد الدعوى لعدم توفرهما[18].

توجّه ثان برفض حلول القاضي مكان اللجنة

يظهر توجّه ثانٍ في الاجتهاد برفض حلول القاضي مكان اللجنة المُبطلة بحكم القرار الدستوري. والأحكام الأكثر تعليلاً في هذا المجال هي الأحكام الصادرة عن غرفةمحكمة الاستئناف في بعبدا برئاسة القاضية ريما شبارو[19]. وقد اعتبرت هذه المحكمة أنه تبعاً لإبطال المجلس الدستوري لمواد “نراها أساسية وجوهرية (…)، لا يُجاز أبداً كما يحاول أو حاول البعض القول بأن ذلك قد يعني حتماً أو حكماً إحلال القاضي المنفرد مثلا ًمحل اللجنة – أو اللجان المعطلة –  بوقت أرجع المجلس هذا التعطيل لحكمه بعدم حرمان المتقاضين من درجة من درجات المحكمة ولم يشر أساساً لمسألة الاختصاص أو عدمه”. وعليه، اعتبرت القاضية شبارو أن إشكالية الحلول محل اللجنة لا تتصل فقط في تعيين المرجع الصالح للقيام بمهامها، إنما أيضاً ضمان المحاكمة على درجتين، بعدما كان القانون جعل أحكامها غير قابلة لأي شكل من أشكال المراجعة. وبالطبع، هذا الاعتبار لا يبدو مقنعا للتوجه الأول، حيث أن محكمة استئناف بيروت أعلنت أيضا قدرتها على الحلول محل اللجنة، ومراقبة أعمال القضاة المنفردين في سياق قيامها بمهامها كما سبق بيانه.

المسألة الثانية:اشكالية امكانية تطبيق القانون الجديد في ظل عدم انشاء وتمويل الصندوق:

يجدر التذكير هنا أن القانون أنشأ صندوقاً لإعانة المستأجرين القدامى ذوي المداخيل المحدودة. وقد عكس ذلك إرادة الدولة في تحمل مسؤوليتها في ضمان حق السكن تجاه فئة المستأجرين القدامى، في سياق تحرير المالكين من هذا العبء. إلا أن القانون بدا غير كاف، إذ خلا من أي آليات جدية لتمويل الصندوق، مما حمل المفكرة القانونية على إدراجه آنذاك ضمن سياسة الصناديق الفارغة[20]. فكيف تعامل القضاء مع واقعتي عدم إنشاء هذه الصناديق وفراغها، علماً أن من شأن غياب هذه الصناديق أن يخل بالتوازنات التي أرساها قانون الإيجارات الجديد. فهل يشكل هذا العامل حائلاً دون تطبيق القانون الجديد لنقض الضمانات المعطاة للمستأجرين فيه أم يمكن تطبيق القانون مع حفظ حق المستأجر بالحصول على تعويض من الصندوق عند إنشائه؟

الإجابات القضائية على هذا السؤال جاءت متفاوتة. وقد عكست تباعداً كبيراً في المواقف بين أهم محاكم الاستئناف في لبنان، وهما محكمة استئناف بعبدا ومحكمة استئناف بيروت.

فقد اعتبرت محكمة الاستئناف في بيروت (الغرفة التي يترأّسها القاضي أيمن عويدات)،أنه:”وبسبب عدم انشاء الصندوق (…) وتنظيمه من قبل السلطة التنفيذية في ظل الوضع الراهن وتعقيدات انشاء هذا الصندوق وتمويله، لا يعود من مجال لإعمال وتنفيذ القرارات التي تصدر عن القاضي المنفرد المتعلقة بتحديد بدل مثل المأجور (…) للمستأجرين الذين يحق لهم طلب المساعدة (…) كون المادة 8 من القانون المشار اليه نصت صراحة على تعليق مهلة دفع الزيادة على بدل الايجار الناتجة عن تنفيذ هذا القانون إلى حين نفاذ القرار بالموافقة على المساهمة أو بعدمها”[21]. لكنها بالمقابل اعتبرت أن الأمر يكون مختلفاً تماماً بشأن سائر المساعدات والمساهمات من الصندوق (…) خاصة تلك المتعلقة بحق استرداد (…). وقد بررت ذلك بأن “النصوص المحددة لآلية منح هذه المساعدات والمساهمات للمستأجر لم تفرض تعليق نفاذ الاسترداد لحين تنفيذ القرار القاضي بالموافقة على هذه المساعدة نتيجة الاسترداد (بعكس ما نصت عليه بالنسبة لدفع زيادات بدل الايجار)، باعتبار أن هذه المساعدة تتعلق بالمستأجر والإدارة ولا علاقة للمالك بها. وقد خلصت بنتيجة ذلك إلى القول بأن قرار الاسترداد ينفذ ويسلم المأجور للمالك لقاء التعويض المحدد من المحكمة على أن يحفظ حق المستأجر بالحصول على المساعدة بعد موافقة القاضي المنفرد على منحها له بموجب قرار صادر عنه على أن تدفع له عند إنشاء وتنظيم الصندوق الخاص بذلك من قبل السلطة التنفيذية”[22].

وبهذا المعنى تكون محكمة الاستئناف في بيروت (برئاسة القاضي عويدات) قد عمدت الى التفريق في مفاعيل فراغ الصندوق، بين قضايا دفع الزيادات على بدل الإيجار وقضايا الاسترداد. ففيما يؤدي فراغ الصندوق إلى تعليق نفاذ القانون بما يتصل بزيادة البدلات عملا بحرفية النص القانوني، بإمكان المحكمة أن تبت في قضايا استرداد المآجير على أن تحفظ حق المستأجر (الذي يكون دخله دون 3 أضعاف الحد الأدنى) بالحصول على مساعدة من الصندوق بعد إنشائه وتمويله. ونلحظ أن سبب التفرقة هنا يتصل بحرفية النص القانوني، من دون أن تقوم المحكمة بأي تحليل للنتائج المترتبة على عدم تفعيل الصندوق، لجهة الخلل الحاصل في توازنات القانون برمته، وبالنتيجة في حقوق المستأجر المالية. وما يزيد الأمر قابلية للإنتقاد هو أن المجلس الدستوري استند لردّ الطعن بدستورية القانونعلى هذه المساعدة، من ضمن مقاربة شاملة لجميع الآليات التي أرساها القانون وللترابط بينها، للقول بتحقيقه توفيقاً متوازناً ومقبولاً بين الحق بالملكية والحق بالسكن “ذو قيمة دستورية”[23] وأنه لا يوجد أي أفق زمني لإنشاء الصندوق وتمويله.

والأهم من ذلك، أن من شأن هذا التفريق أن يحفّز المالكين لإقامة دعاوى استرداد، لعجزهم عن المطالبة بزيادة بدلات الايجار. وهذا الأمر يؤدي عملياً إلى تحويل وجهة القانون في اتجاه معاكس لخارطة الطريق التي وضعها القانون. فبدل أن يزاد بدل الإجارة تدريجياً خلال السنوات القادمة حتى يتم تحريرها من دون مقابل بعد سنوات عدة، يعمل المالكون على تحرير المآجير فورا مقابل تسديد تعويض استرداد تم تخفيضه بموجب القانون الجديد عما كان عليه في القوانين السابقة له.

وفي هذا الخصوص، سجلت محكمة استئناف بعبدا (الغرفة برئاسة القاضية ريما شبارو) مخالفة بالغة الأهمية في نتائجها[24]. فعدا عن أن المحكمة رفضت الحلول محل اللجنة للأسباب المبينة أعلاه، فإن رئيستها أعلنت رفضها لتجزئة الحكم من خلال بت حقوق المالك بالاسترداد مع حفظ حقوق المستأجر بالتعويض بعد إنشاء الصندوق وتمويله. وقد اعتبرت هذا التوجه بمثابة مشروع قرار وليس قراراً[25].

وأبعد من التعارض القانوني بين المحكمتين، من شأنه أن يرتب نتائج اقتصادية على سوق العقارات في منطقتي بيروت وجبل لبنان. فبفعل اجتهاد محكمة بيروت، تتضاعف أعداد العقارات المستردة خلال السنوات المقبلة لتكون في متناول المتعهدين، فيما يؤول حكم استئناف بعبدا إلى فرملة استرداد العقارات في جبل لبنان (الجنوبي) وعمليا في الضواحي القريبة من بيروت، فلا تتحرر إلا بعد انقضاء مهلة التسع سنوات المنصوص عليها في قانون الإيجارات أو بعد إدخال التعديلات اللازمة على قانون الإيجارات وتفعيل الصندوق. وعليه، ورغم تناقض الحكمين، فإنهما يؤولان عمليا إلى نتيجة مزدوجة ملائمة تماما للمتعهدين في بيروت. فبإمكانهم تحرير العقارات المؤجرة في بيروت فيما تحول العوائق أمام تحرير عقارات جبل لبنان المؤجرة دون زيادة العرض في السوق العقارية.

نشر هذا المقال في العدد | 37 |آذار/ مارس/  2016، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:

قصص الناس على مسرح القضاء 



[1]المادة 3
[2]تاريخ الاستحضار 19/6/2014 وتاريخ الحكم26/10/2015. (أساس رقم 187/2014)
[3]تاريخ الاستحضار 21/10/2014 وتاريخ الحكم 13/1/2016
تاريخ الاستحضار 20/12/2013 وتاريخ الحكم 11/1/2016
تاريخ الاستحضار غير مذكور وتاريخ الحكم 14/07/2015
[4]تاريخ الاستحضار بال 2013 وتاريخ الحكم9/03/2016
[5]أنظر العيّنة المذكورة أعلاه
[6]تاريخ الاستحضار 09/10/2014 وتاريخ الحكم 10/12/2015
[7]القرار الأول: تاريخ الاستحضار غير مذكور وتاريخ الحكم 14-01-2016
القرار الثاني: تاريخ الاستحضار 19-06-2012 وتاريخ الحكم 19-11-2015
القرار الثالث: تاريخ الاستحضار 20-09-2011 وتاريخ الحكم 05-11-2015
القرار الرابع: تاريخ الاستحضار 18-09-2013 وتاريخ الحكم 19-11-2015
[8]تاريخ الاستحضار 14/12/2012 وتاريخ الحكم 11/11/2015
[9]تاريخ الاستحضار 15/12/2012 وتاريخ الحكم 29/12/2015
 [10] تاريخ الاستحضار 24/11/2012 وتاريخ الحكم 5/10/2015
[11] تاريخ الاستحضار 12/10/2013 وتاريخ الحكم 28/12/2015
[12]تاريخ الاستحضار 22/01/2013 وتاريخ الحكم 29/02/2016
[13]4 احكام للرئيسة لارا عبد الصمد توزع على الشكل التالي:
استحضار الدعوى الأولى مقدم في: 20/12/2011 وتاريخ الحكم في 29/10/2015
استحضار الدعوى الثانية مقدّم في: 11/7/2012 وتاريخ الحكم في 31/3/2015
استحضار الدعوى الثالثة مقدّم في: 11/7/2012 وتاريخ الحكم في 29/1/2015
استحضار الدعوى الرابعة مقدّم في: 11/10/2012 وتاريخ الحكم 29/10/2015
[14]حكمين للرئيسة نتالي الهبر، توزعت على الشكل التالي:
استحضار الدعوى الأولى مقدم في 12/10/2009 وتاريخ الحكم في 30/11/2015
استحضار الدعوى الثانية مقدم في 15/10/2009 وتاريخ الحكم  في 30/11/2015
[15]–  تاريخ الاستحضار 14/12/2012 وتاريخ الحكم11/11/2015
– تاريخ الاستحضار 15/12/2012 وتاريخ الحكم 21/10/2015
[16]تاريخ الاستحضار 29/06/2011 وتاريخ الحكم 28/01/2016
[17]حكم للقاضي حسن سكينة، تاريخ الاستحضار 17/6/2015 وتاريخ الحكم 12/01/2016
[18]تاريخ الاستحضار 27/03/2015 وتاريخ الحكم 29/12/2015
[19]القرار الأول: تاريخ الاستحضار 3/6/2014وتاريخ الحكم 29/10/2015
القرار الثاني: تاريخ الاستحضار 11 /7/2014 وتاريخ الحكم 14/12/2015
القرار الثالث: تاريخ الاستحضار 16/1/2014 وتاريخ الحكم 25/1/2016
القرار الرابع: تاريخ الاستحضار 02/04/2006 وتاريخ الحكم 22/02/2016
[20] المفكرة القانونية، العدد 16، نيسان 2014.
[21]تاريخ الاستحضار 19-6-2014 وتاريخ الحكم 26-10-2015. (أساس رقم 187/2014)
[22]المرجع ذاته
[23]مع اجتهاد محكمة الاستئناف في بيروت
[24]القرار الأول: تاريخ الاستحضار 3-6-2014وتاريخ الحكم 29-10-2015
القرار الثاني: تاريخ الاستحضار 11 -7-2014 وتاريخ الحكم 14-12-2015
القرار الثالث: تاريخ الاستحضار 16-1-2014 وتاريخ الحكم 25-1-2016
القرار الرابع: تاريخ الاستحضار 02-04-2006 وتاريخ الحكم 22-02-2016
ودراسة القاضية ريما شبارو “بعض الملاحظات حول القانون الجديد للإيجارات ومدى نفاذه او سريانه بالنسبة لدعاوى الاسترداد” بتاريخ 17 تموز 2015، المنشورة في مجلة الحقوق اللبنانية و العربية ، العدد 51، كانون الأول 2015
[25]المرجع نفسه
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، المرصد البرلماني ، مجلة لبنان ، لبنان ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني