إنّ انطلاق عملية تاريخية في سوريا لوضع دستور جديد، بعد تغيير نظام الحكم وتعطيل دستور 2012، يستدعي دراسة تجارب الدول الأخرى والاستلهام من نجاحاتها وإخفاقاتها. فمنذ عام 2011، شهدت البلدان العربية تجارب وضع وصياغة أكثر من 15 دستورًا، وهناك دروس قيّمة يمكن استخلاصها من هذه التجارب والاستفادة منها في مقاربة العملية القائمة الآن في سوريا. نكتب هذه المقالة بصفتنا خبيرين في القانون الدستوري دأبنا لسنواتٍ طويلة على دراسة الدساتير العربية وقدمنا استشارات بشأنها، آملين أن تُفيد تحليلاتنا وخبراتنا الأشقاء السوريين في خوض هذه العملية الصعبة.
قياساً على تجارب بلدان المنطقة، من المرجّح أن تواجه العملية الدستورية في سوريا تحديّيْن رئيسييْن على الأقل أثناء عملية التفاوض على وضع ومضمون الدستور. فمن جهة، على القائمين عليها إيجاد سبيل يمنع تدهور المفاوضات إلى صراع عنيف (كما حدث في ليبيا واليمن والسودان والعراق). ومن جهة أخرى، عليهم بناء العملية الدستورية بطريقة تسمح بإدراج مساهمات مختلفة من مواضيع وآراء في الصياغة النهائية للدستور. نستعرض هنا بعض الدروس المستفادة من دول أخرى في المنطقة والتي قد تكون مفيدة لسوريا في عملية التفاوض على الدستور.
الترتيبات الانتقالية
لقد عاشت سوريا نصف قرن من الديكتاتورية، ونزح أكثر من نصف سكانها، وأُجبر عدد كبير منهم على مغادرة البلاد. وثمة ضرورة ملحة لإعادة بناء شكل من أشكال الشرعية الشعبية، التي لا يمكن أن تنبع إلا من الشعب. وعلى الرغم من كل عيوب “الحوار الوطني” الذي عُقد في شباط/فبراير 2025، فقد أسهم مساهمة إيجابية واحدة على الأقل، إذ سمح لشريحة واسعة من السوريين بالمشاركة في نقاش حول مستقبلهم المشترك.
بيد أن الإعلان الدستوري الذي صدر في 13 آذار/مارس 2025، والذي أغفل الإشارة إلى سيادة الشعب كمصدر السلطات، وضع آلية مختلفة تماماً. فبدلاً من إعادة الوثيقة إلى الحوار لاعتمادها بتوافق الآراء ومن قِبل مجموعة أشخاص تتوفر لديهم بعض المشروعية في تمثيل قوى سورية وازنة، جرى صياغتها من قبل لجنة محدودة من الخبراء ومن ثمّ اعتمادها بتوقيع رئيس مؤقت غير منتخب، وبالتالي لا يستمد سلطته من شرعية انتخابية ولا دستورية. هذا النهج مؤسف لسبب أساسي هو وجود بديل واضح متيسر بسهولة. لا يزال هناك بعض الأمل في إمكانية معالجة هذا الخلل المهم، كما سنوضح فيما يلي.
ينص الإعلان على أنه وضع لمدة خمس سنوات، إلى حين اعتماد دستور دائم. وهذا يثير أمرين مهمين من ناحية مدة الانتقال ومن ناحية آلية وضع “الدستور الدائم”. أولا، قد أثار بعض المعلقين تساؤلات حول ضرورة أن تكون الفترة الانتقالية طويلة إلى هذه الدرجة. فعليّا، تُظهر التجارب المقارنة أن عمليّات الانتقال قد تكون بالغة الصعوبة، وطويلة جداً في الغالب. ففي عام 2011، كانت خطة السلطات الليبية الانتقالية تقضي باستكمال عمليتها الدستورية في ثلاثة أشهر فقط. واليوم، بعد مرور 14 عاماً، لم تكتمل هذه العملية الانتقالية بعد. وفي مثال آخر، وضعت الولايات المتحدة دستورها بعد ست سنوات من حرب الاستقلال، ثم استغرقت عامين إضافيين لإضافة قائمة الحقوق إلى الدستور في عام 1791. وفي سوريا، قد تكون المهمة أكثر صعوبة من البلدان المذكورة نظرًا لظروف الدمار والنزوح والتهجير التي حلّت بغالبية السكان. وفي مثل هذه الظروف، من المتوقع أن تستغرق عملية التفاوض على دستور جديد العديد من السنوات لكي يحظى الدستور في نهاية الأمر بالقبول والاستقرار.
لكن العبرة هي بما يحدث خلال الفترة الانتقالية وهل سترسخ لانتقال ديموقراطي أم ستعيد إنتاج الماضي. لذا يكتسب محتوى الإعلان الدستوري أهمية خاصة، فهو يُرسي آلية حكم رئاسية بحتة للفترة الانتقالية. إذ ينص الإعلان على أن الرئيس هو وحده من يُعيّن جميع أعضاء المحكمة الدستورية، وله الحق في إعلان حالة الطوارئ بشكل شبه منفرد، وهو يسيطر بمفرده على الجيش، فضلاً عن تمتّعه بصلاحيات عديدة أخرى. وإذ يُفترض أن تكون الدساتير الانتقالية مؤقتة بطبيعتها، ولكن في كثير من الحالات، تُصبح الترتيبات التي تُرسيها دائمة، وتسمح لمن وضعها بترسيخ أقدامه بشكل دائم في الحياة السياسية للبلد. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك حالة العراق، حيث استُخدم الدستور المؤقت لعام 2004 نموذجاً للدستور الدائم لعام 2005. كذلك في سوريا لا توحي طريقة وضع الاعلان الدستوري ومحتواه بإمكانية حقيقية لمناقشة شكل نظام الحكم وإذا ما كان سيبقى رئاسيا أم سيتحول إلى برلماني، بل يبدو أن الخيار قد تمّ قبل بدء العملية الدستورية لوضع “الدستور الدائم”. وبهذا المعنى، يبدو أن الإعلان الدستوري السوري قد أُعدّ خصيصاً لهيئة تحرير الشام بدلاً من أن يكون مصدر إلهام لثورة ديمقراطية جديدة تبشّر بمرحلة جديدة بتاريخ سوريا وتجسّد قطيعة مع النظام السياسي السابق. وربما لا يزال من الممكن تغيير ذلك، ولكن هذا التغيير سيتطلب عملاً جاداً من جانب مجلس الشعب الانتقالي المنتظر تشكيله وخلال المفاوضات الدستورية المقبلة.
ثانيًا، يغفل الإعلان الدستوري بالكامل كيفية وضع وصياغة وإقرار “الدستور الدائم”. وممّا يستدعي الاستغراب أنّ المذكرة الايضاحية التي رافقت الإعلان الدستوري قالت إنّ الإعلان الدستوري نصّ على “ضرورة تشكيل لجنة لكتابة دستور دائم”. ولكن الإعلان لا يذكر هذه اللجنة في الأحكام الختامية، ولم توضح المذكرة طريقة تشكيل وتركيبة وآلية عمل هذه اللجنة. هل يعني ذلك أنّ واضعي الإعلان الدستوري يريدون أن يجتنبوا خيار الجمعية التأسيسية لوضع الدستور ويفضّلون لجنة معينة أي غير منتخبة مثلما فعلوا مع الإعلان الدستوري المؤقت؟ هل يعنى ذلك أنهم لن يسعوا إلى التصديق على الدستور الدائم في استفتاء شعبي؟ من المهم توضيح هذه المسائل وتداول الآراء حولها بين الأطراف السورية المختلفة.
المشاركة الشاملة والفعالة
لقد دأب عدد من كبار المسؤولين في دمشق وغيرهم على التأكيد أن عملية التفاوض على الدستور في المستقبل يجب أن تكون شاملة للجميع ومبنية على التوافق. ولكن كيف سيتم تنفيذ ذلك؟ هناك تجارب قيّمة في المنطقة العربية ينبغي الاستفادة منها في هذه النقطة تحديداً. يُرّحب الجميع ظاهرياً بالتشاركية، لكن تجسيدها في الممارسة يقتصر عادة على دعوة أشخاص لحضور اجتماعات دون منحهم الوسائل اللازمة لإحداث تأثير حقيقي في القضايا المهمة (مثلما حصل في تونس عام 2014 على سبيل المثال). وهذا يعني عادةً تجاهل آراء هؤلاء الأشخاص أنفسهم في القضايا الجوهرية. وهذا يُسهم في الإحباط، ويحدّ في المحصلة من حجم الإسهامات الحقيقية التي تُدرج في الدستور. ومجموع كل ما سبق سيؤدي بالضرورة إلى إضعاف الدستور النهائي بشكل جوهريّ، وسيُقلل من شرعيته كوثيقة لا تقتصر على تنظيم السلطة وإنشاء إطار لحل الخلافات السياسيّة فحسب، بل تُساعد أيضاً في توحيد الهويّة السوريّة الجمعيّة.
لا يوجد سوى حلّ واحد لهذا التحدّي، وهو بناء آلية متماسكة للتشاور تتجسّد في قواعد إجرائيّة مفصّلة وعلنيّة. وهذه القواعد يجب أن تُحفّز الخبراء ومنظمات المجتمع المدني وغيرهم على صياغة مقترحات تفصيلية ومدروسة، من خلال ضمان أنهم سيمنحون، إذا استوفوا شروطاً إجرائيّة معيّنة، فرصة طرح آرائهم أمام المفاوضين المنخرطين في العملية الدستورية. وينبغي أن تنصّ هذه القواعد أيضاً على ضرورة درس جميع المقترحات المقدّمة ومناقشتها بشكلٍ مناسب، وأنه سيجري متابعتها والردّ عليها. ولضمان عدم إرهاق المفاوضين بالمقترحات، ينبغي تخصيص موارد كافية من خلال تشكيل أمانة سر (سكرتاريا) تعمل بكفاءة. هذه العملية أصعب مما تبدو عليه للوهلة الأولى – فقد حاولت دول أخرى كانت ظروفها أحسن حالا تحقيق هذا الهدف وفشلت (اليمن في الفترة 2013-2014 مثلاً). وتحقيق ذلك في سوريا خطوة بالغة الأهمية، نظراً لضخامة عدد السوريين النازحين واللاجئين – وبالتالي فإن إيجاد طرق سليمة لإشراكهم باتباع قواعد شفافة هي عامل حاسم لضمان شرعية العملية وعدم استئثار طرف بها.
التوافق/الإجماع
تضمّنت جميع عمليات التفاوض في المنطقة العربية منذ عام 2011 قواعد تُمكّن المتفاوضين من استكمال صياغة الدستور حتى في حال تعذّر التوصل إلى توافق كامل ضمن عملية التفاوض. وتُشير القواعد الإجرائية عادة إلى تفضيل التوصل إلى إجماع، ولكن إذا تعذّر ذلك، بإمكان أغلبية الأعضاء المضي قدماً بمفردهم. والنتيجة هي إضعاف حافز أعضاء الأغلبية عن التفاوض بحسن نيّة، لعلمهم بإمكانية المضي قدماً بمفردهم في نهاية المطاف. وهذا النوع من الترتيبات يُمكن أن يُقوّض جدوى عملية التفاوض.
وسبق لهذا النهج أن سبّب كوارث في تجارب عديدة، كما حدث في اليمن ومصر عام 2012. ففي بعض الحالات (كاليمن عام 2014 والعراق عام 2005)، قررت فئات معينة شعرت بالتهميش أثناء العملية الدستورية دعم التمرد المسلح ضد الدولة. لذا، فإن النهج الأفضل هو اشتراط الإجماع في محاولة لتقليل مخاطر التنازع. تكمن الصعوبة بالطبع في أن اشتراط الإجماع يُصعّب التوصل إلى اتفاق وقد يُطيل أمد المفاوضات على الدستور. ولتخفيف هذا الخطر، ينبغي، طوال العملية، دعم جهود الحوار والوساطة على مستويات متعددة.
ومما لا شكّ فيه أنّ التوافق يكتسب أهمية خاصة في الحالة السورية الراهنة نظرا لتعدد الأمور الخلافية من حيث المضمون والتي ستحتاج العملية الدستورية لتناولها واتخاذ القرارات بشأنها أو بشأن حل الخلافات حولها، بما ذلك طابع الدولة، وإذا كانت ستكون دولة مدنية أم لا، وما معنى الطموح إلى “دولة المواطنة”، كما ورد في ديباجة الإعلان الدستوري، في موازاة تحديد دين رئيس الجمهورية وعددّ الفقه الإسلامي المصدر الرئيسي للتشريع، مما ينتقص من مبدأ المواطنة المتساوية والتعددية. وهذا ما كان محلّ اعتراض واسع من بعض الأطراف الكردية والسريانية. ولا يخفى على القارئ أن الإعلان الدستوري قام بتغيير النص الوارد سابقا في الدستور السوري لعام 2012 من “مصدر رئيسي للتشريع” إلى “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع”.
هيكلية المفاوضات الدستورية
في جميع دول المنطقة، جرى التفاوض على الدساتير وصياغتها إما من قِبل هيئات مُعيّنة أو لجان برلمانية. بيد أن لكلا النهجين مثالبه. فاللجان البرلمانية هي الخيار الأكثر ديمقراطية، لكن صلاحياتها التمثيلية تتوقف على القواعد الانتخابية والمناخ السياسي. كما أنها تفتقر عادة إلى المعرفة التخصصية الكافية، وتفترض أنها تتمتع بشرعية كافية للمضي قدماً من دون إجراء مشاورات واسعة مع الأطراف الفاعلة في المجتمع المدني (مثلاً، العراق عام 2005 ومصر عام 2012). بالمقابل، تكون الهيئات المُعيّنة منفصلة غالباً عن الديناميات والاحتياجات السياسية للقاعدة الشعبية، وقد تُسفر عن نتائج لا تُحدث أي تغيير ذي أهمية في النظام السياسي، بل تسعى بدلاً من ذلك إلى إعادة إنتاج الوضع الراهن قبل المطالبات بالتغيير والدمقرطة (المغرب والجزائر والأردن مثلا). علاوة على ذلك، كانت عملية صياغة الدستور مُتسرّعة في كثير من البلدان (كالمغرب مثلاً) ولم تُتح الوقت الكافي أو الحرية المطلوبة للتعبير لإجراء نقاشات عامة غنيّة حول جوهر الدستور.
في الواقع، تُظهر التجارب السابقة لبلدان أخرى من العالم (كينيا على سبيل المثال) أن النهج الأفضل هو إنشاء لجانٍ متعدّدة تعمل معاً لصياغة المسودة النهائية. يجب على أقل تقدير أن يكون هناك لجنة تضمّ خبراء متخصصين في الدستور، وأخرى تضمّ ممثّلين عن القوى السياسيّة. فإنشاء لجان متعدّدة خصّيصاً لهذا الغرض يضمن بالضرورة إشراك مزيد من دوائر الناخبين في المفاوضات على الدستور، وهذا يترك آثاراً إيجابية جداً على النتيجة النهائية. والأهمّ من ذلك، ولكي يكون هذا الترتيب فعالاً، لا يجوز تمكين أيّ لجنة بعينها من المضيّ قدماً بمفردها، وإلا سيشكّل ذلك حافزاً لها على عدم التوصل إلى اتفاق والتفاوض بسوء نية. ومرة أخرى، قد يزيد هذا النوع من الترتيبات صعوبة التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن صياغة الدستور، ولكنه يزيد أيضاً احتمالات الاستفادة من مساهمات حقيقية في وضع الدستور من مختلف فئات الشعب. ويمكن بعد ذلك إخضاع هذا النصّ النهائيّ لمناقشات عامّة في عملية برلمانية وإجراء استفتاء شعبيّ للمصادقة على الدستور. ففي حالة دستور كينيا لعام 2010 مثلا عملت لجنة الخبراء على دراسة مقترحات وتعليقات من الجمهور وتعديل مقترحاتها بناء على ذلك، ثم القيام بتعديلات بناء على ملاحظات اللجنة البرلمانية، ثم قدّمت المسودة الدستورية لإقرار الجمعية الوطنية (أو المجلس التشريعي) وبعد ذلك للمصادقة الشعبية في الاستفتاء.
ولكن هذه الحالة تختلف عن الوضع الحالي في سوريا بعد الإعلان الدستوري، لأن المجلس التشريعي المزمع عقده، والذي سيتولى السلطة التشريعية “حتى اعتماد دستور دائم”، ليس منتخبًا تماما ولا مستقلا تماما عن الرئيس. وذلك لأنّ الإعلان يخوّل الرئيس المؤقت (وغير المنتخب) صلاحية تعيين اللجنة التي تقوم بتنظيم عملية انتخاب ثلثي أعضاء المجلس، كما يقوم الرئيس بتعيين ثلث أعضائه. مثل هذا المجلس لن يحظى في اغلب الظن بالقبول الشعبي اللازم لشرعنة الدستور الدائم، ومن المرجّح أن يكون تأثير الرئيس المؤقت عليه (وبالتالي على العملية الدستورية) كبيرًا، ولا سيما أنّ للرئيس حق اقتراح تعديل الاعلان الدستوري على المجلس التشريعي وله حق الاعتراض على القوانين. وإذا كانت الأنظمة الرئاسية في دول أخرى تعطي صلاحيات مشابهة للاعتراض على القوانين، علينا التذكير مرة أخرى أنّ الرئيس في هذه الحالة غير منتخب وبالتالي لا مسوّغ لمنحه هذا الحق وخصوصا في ظلّ سلطة تشريعية سيقوم بتعيين ثلث أعضائها.
وحدة جهاز الدولة
شهدنا في حالة ليبيا في العقد الأخير أن الخلافات السياسية أدّت إلى الانقسام بين حكومتين وبرلمانين وإلى الاحتكام إلى العنف. من أجل تجنب مثل هذا المآل، على هيئة تحرير الشام وكل الجماعات الأخرى الساعية إلى اتفاق تجنب استخدام العنف السياسي لتسوية الخلافات السياسية حول مستقبل سوريا، مهما كلف الأمر. وفي هذا الإطار، فإن الاتفاق الأخير بين هيئة تحرير الشام وقوات سوريا الديمقراطية الكردية يبدو خطوة في الاتجاه الصحيح لدمج مختلف الجماعات في النظام الوليد على أساس مبدأ المواطنة المتساوية. وينبغي توسيع هذا النهج ليشمل العملية الدستورية: على هيئة تحرير الشام والقوى الأخرى أن تصر على نهج توافقي في اعتماد النظام الدستوري المناسب، وأن تحافظ على المرونة في المفاوضات الدستورية، للسماح بإجراء تعديلات كلما تغيرت الظروف. وسيكون من المؤسف أن تسعى جماعات مختلفة إلى الاستقواء بجهات خارجية، أو إلى فرض آرائها باستخدام القوة أو التهديد باستخدامها.
عملياً، هذا يعني أنّ على الجماعات السياسيّة وغير السياسيّة التعامل مع المفاوضات بعقلية منفتحة. وبوضوح أكبر، على المفاوضين تحديد ترتيبات جوهرية تضمن لجميع الجماعات السورية المشاركة في العملية الانتقالية والراغبة في المشاركة في سوريا الجديدة قدرتها على البقاء في ظل النظام الجديد وعدم إقصائها، لا سيما بسبب آرائها السياسية أو انتماءاتها الدينية. ويمثل هذا تحدياً لدول مثل سوريا، حيث لا توجد قيود مؤسسية تُذكر على السلطتين التنفيذية والعسكرية.
لذا، ينبغي ألا تسمح الترتيبات الدستورية، سواء أكانت مؤقتة أم دائمة، لأي فرد بممارسة سلطة سياسية مفرطة. وعلى وجه الخصوص، فإن الشفافية والضمانات في عملية إعداد الموازنة، من خلال صيغ واضحة لتوزيع الإيرادات، تُحسّن القدرة على التنبؤ وتُخفف التوترات السياسية. علاوة على ذلك، ونظراً لعقود من حكم الطوارئ والصلاحيات اللامحدودة للأجهزة الأمنية، على الترتيبات الدستورية، الانتقالية والنهائية، أن ترسي ترتيبات مؤسسية تحمي الحريات الفردية وتمنع أي جماعة أو فرد من استخدام السلطات القسرية في الدولة الجديدة لترسيخ حكم استبدادي جديد بذريعة الأمن أو الاستقرار أو الضرورة.
مع بدء السوريين عمليتهم الانتقالية في ظروف تتسم بعدم اليقين، من المستحسن تجنُّب الأخطاء التي ارتكبتها بلدان أخرى في تجاربها الدستورية الانتقالية. وإذا استطاعت سوريا تبنّي هذه العبر والتعلم من أخطاء الدول الأخرى، فستكون أول دولة في المنطقة تفعل ذلك. وفي هذه الحالة ستكون تجربتها مصدر إلهام للدول الأخرى كي تحذو حذوها في المستقبل. إلا أنّ الإعلان الدستوري الحالي يثير العديد من المخاوف التي يؤمل أن يتم تداركها.