نفّذ المحامون التونسيون، الاثنين 13 ماي 2024، إضرابا عامّا احتجاجًا على مداهمة مقرّ “دار المحامي” بالقوّة العامّة واعتقال زميلتهم المحامية والإعلاميّة سنية الدهماني، ليلة السبت، بطريقة عنيفة واستعراضيّة. وجاء اعتقال الدهماني تنفيذا لبطاقة جلب، من أجل تعليق في برنامج تلفزي يتهكّم على الفكرة العنصريّة التي تردّدها أبواق السلطة حول مخططات “الاستبدال العظيم” الذي سيغيّر التركيبة الديمغرافية في تونس. وقد تزامن إيقاف الدهماني مع إيقاف الإعلاميّين في إذاعة IFM مراد الزغيدي وبرهان بسيّس من أجل مضامين إعلاميّة ومنشورات على صفحاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي. وقد تمّ تمديد الاحتفاظ بهذين الأخيرين صباح الاثنين ليومين إضافيّين. كما تمّ الاثنين استدعاء الممثل القانوني لإذاعة الديوان للمثول أمام باحث البداية في قضيّة أخرى لم تتّضح تفاصيلها بعد.
وفي حين تقدّم مئات المحامين لنيابة زميلتهم سنية الدهماني، برز غياب العميد حاتم المزيو كمؤشر على تخبّط الهيئة الوطنية للمحامين وعدم حسم تموقعها إزاء السلطة، على الرغم من إقرارها سلسلة من التحرّكات الاحتجاجيّة. ولم تمنع التعبئة وسط المحامين ولا تفاهة الأفعال المنسوبة للدهماني، قاضية التحقيق بالمكتب عدد 29 في المحكمة الابتدائية بتونس من إصدار بطاقة إيداع في حقّها بعد ما اعتبرته القاضية “تعذّر الاستماع لها”. وقد تجمهر مئات المحامين في بهو المحكمة مساندة لزميلتهم، رافعين شعارات تطالب بالحريات وتندّد بقضاء التعليمات، وشعار “هايلة البلاد” الذي يحيل إلى التصريح التلفزي للدهماني والذي تحوّل إلى رمز جديد لعبثيّة الاستبداد الناشئ وتوسّع دائرة الانتهاكات واستخدام السلطة معجم الوطنية لتشويه وملاحقة كلّ خصومها ومُنتقديها.
لا مكان في الإعلام إلا لأبواق السلطة؟
تأتي هذه الانتهاكات، وبالتحديد قضيّة سنية الدهماني، ضمن سياق الحرب التي تشنّها السلطة بأذرعها الإعلامية والأمنية والقضائيّة ضدّ المنظّمات الناشطة في مجال الهجرة، والخطاب العنصري الذي تروّج له أبواقها حول “مخططات التوطين” المزعومة، والتي تهدف لإخفاء فشل السلطة في إدارة ملفّ الهجرة وانتهاكاتها الخطيرة ضدّ المهاجرين وقبولها بلعب دور حارس الحدود الأوروبية مقابل تمويلات زهيدة. وإذ تتعلق الأفعال المنسوبة للمحامية والإعلامية، بتعليق على سؤال طرحه الإعلامي برهان بسيّس في برنامجه الّّذي يُبثّ على إحدى القنوات التلفزية الخاصة: “هل يريدون (يقصد المهاجرين) الاستيلاء على تونس؟”، لتجيب الدهماني: “شو هاك البلاد الهايلة عاد” (طريقة ساخرة لقول “ما أطيب العيش في هذا البلد”).
سرعان ما انتشر هذا المقطع، وألصقت بالمحامية شبهات اللاوطنية والخيانة في حملات على صفحات مساندة للسلطة على وسائل التواصل الاجتماعي، تطوّرت فيما بعد لملاحقة قضائية على معنى الفصل 24 من المرسوم 54، المجرّم “للأخبار الزائفة” بعقوبات قاسية والذي تستعمل السلطة لتكميم الأفواه. رفضت قاضية التحقيق، الجمعة 10 ماي، تأجيل الاستماع لسنية الدهماني وأصدرت في حقّها بطاقة جلب، لليتمّ اعتقالها ليلة السبت 11 ماي بطريقة استعراضية من “دار المحامي” التي اعتصمت داخلها.
وبالتزامن مع اعتقال المحامية، تمّ الاعتداء على مصوّر قناة فرانس 24 التي كانت حاضرة هناك وتهشيم معدّات عمله وتمّ اقتياده بدوره من قبل قوات الشرطة الحاضرة هناك، ليُطلق سراحه بعد تدخّل نقابة الصحفيين لدى وزارة الداخلية، وفق بيانها.
وتزامنت ليلة مداهمة دار المحامي واعتقال سنية الدهماني مع اقتياد الإعلاميَّيْن برهان بسيّس ومراد الزغيدي إلى فرقة مكافحة الإجرام بالقرجاني. إذ تمّ الاستماع إليهما على خلفيّة تعليقهما على الأحداث السياسيّة الجارية في البرامج الإذاعية أو على صفحاتهما في وسائل التواصل الاجتماعي، والتحقيق معهما منذ ليلة السبت 11 ماي إلى حدود الساعات الأولى من صباح يوم الأحد 12 ماي. وتمّ الاحتفاظ بالإعلاميّين لمدّة 48 ساعة تمّ تمديدها الاثنين 13 ماي ليومين إضافيّين، من أجل جريمة استعمال أنظمة معلومات لنشر وإشاعة أخبار تتضمن معطيات شخصية ونسبة أمور غير حقيقية بهدف التشهير بالغير وتشويه سمعته، وفق ما ذكره الناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائية بتونس، محمد زيتونة.
ولا تشكّل الاستهدافات الأخيرة للإعلاميين حدثًَا معزولا، بل تأتي ضمن سياق انتهاكات متواصلة ومتسارعة منذ 25 جويلية 2021. فبعد غلق مكتب الجزيرة والملاحقات العسكريّة ضدّ الصحفي عامر عياد من أجل إلقاء قصيدة، والحكم السجني ضدّ الصحفي خليفة القاسمي وإيداع الصحفية شذى الحاج مبارك، تسارع نسق الملاحقات والإيقافات، خصوصا ضدّ المعلّقين الإذاعيين الذين لا يوافق خطابهم هوى السلطة. إذ احتفظت النيابة العمومية، في 20 جوان 2023، بالصحافي والمعلّق السياسي زياد الهاني على خلفية تفسيره للفعل الموحش ضدّ رئيس الدولة المُجرَّم بالمجلّة الجزائية، وأُطلق سراحه بعد يومَين، ليتمّ استدعاؤه في مناسبة أخرى، في 28 ديسمبر 2023 من طرف النيابة العمومية، بسبب تصريح إذاعي انتقد فيه وزيرة التجارة، ليُطلق سراحه يوم 10 جانفي من هذه السنة. فيما يقضي الصحافي والمعلّق السياسي محمّد بوغلاب عقوبة سجنيّة بستّة أشهر منذ 17 أفريل الماضي بتهمة التشهير بموظّفة عمومية، وكان أيضا محلّ شكوى من وزارة الشؤون الدينيّة العام الماضي، على معنى المرسوم 54، إثر حديثه عن استفادة الوزير من سيارة محجوزة لدى الديوانة بطريقة غير قانونية. كما تمّ الاستماع إلى المذيعة خلود المبروك أمام الفرقة المختصّة للحرس الوطنيّ بثكنة العوينة يوم 24 أفريل 2024، على خلفيّة إجرائها حوارين أحدهما مع سمير ديلو، عضو لجنة الدفاع عن المتهمين في ملفّ ما يُعرف بالتآمر على أمن الدولة، والثاني مع مبروك كورشيد، الوزير الأسبق لأملاك الدولة والمُلاحق قضائيّا في عدد من الملفات. وتتواصل، بالتوازي مع ذلك، الهرسلة القضائيّة للإعلاميّين في موزاييك اف ام هيثم المكي وإلياس الغربي، على الرغم من التغيير الحاصل في هيكلة برنامج ميدي شو لتقليل حضور المكي وزياد كريشان، اللذين يزعج خطابهما السلطة، وعلى الرغم من تغيير القناة الإذاعيّة خطّها التحريري، بعد إطلاق سراح مديرها نور الدين بوطار بكفالة.
يأتي استهداف الزغيدي وبسيّس والدهماني ليوسّع أكثر فأكثر دائرة القمع وليشمل حتى أصواتا لا تتموقع بوضوح في المعارضة. في المقابل، يُستثنى من التتبعات والمضايقات المعلّقون السياسيّون الموالون للسلطة، الّذين يشحذون سيوفهم أمام من يعارض الرئيس، سواءً من السياسيّين أو من الحقوقيين.
نقابة الصحفيين وعمادة المحامين: منعرج في العلاقة مع السلطة؟
أثارت الإيقافات الأخيرة ومداهمة “دار المحامي” انتقادات واسعة في صفوف منظمات وجمعيات المجتمع المدني، المعرّضة هي الأخرى لهجمة السلطة القمعيّة. من جهته، اكتفى الاتحاد العامّ التونسي للشغل بزيارات تضامنيّة لدار المحامي من بعض أعضاء مكتبه التنفيذي، ثمّ ببيان مقتضب عن الهيكل ذاته، يتضمن “مساندة غير مشروطة” للمحامين في إضرابهم.
من جهتها، أصدرت نقابة الصحفيين التونسيين الأحد 12 ماي بيانا يدين بشدّة هذه الانتهاكات، معلنة رفضها “توظيف القضاء التونسي لفرض الوصاية على المضامين الإعلامية لإخماد كلّ صوت حرّ وناقد للسياسات العمومية، قصد التنكيل بالصحفيين والإعلاميين وبث الرعب والخوف في نفوسهم”. أمّا الهيئة الوطنية للمحامين، فأصدرت هي الأخرى بيانا في اليوم ذاته، بعد اجتماع دام خمس ساعات، لإدانة ما وصفته “الاعتداء السافر”، وإعلان جملة من التحركات، بدءا بالإضراب العامّ الحضوري الاثنين، مرورا بمقاطعة النيابة أمام باحث البداية والفرق الأمنية ثلاثة أيام ابتداء من الثلاثاء، وصولا إلى يوم غضب وطني أمام قصر العدالة الخميس. وكان العميد قد تفادى الحضور مباشرة بعد المداهمة ليلة السبت، على الرغم من تجمّع المحامين والنشطاء بأعداد غفيرة في مقرّ دار المحامي بمجرّد سماعهم بما حصل. دفع ذلك فرع تونس الذي يمثّل أكثر من نصف المحامين المباشرين إلى الأخذ بزمام المبادرة، حين أعلن ليلة السبت إضرابا عامّا ابتداءً من الاثنين، وهي صياغة فُهم منها إعلان إضراب مفتوح، وأدّت عمليا إلى تضييق هامش القرارات الممكنة أمام مجلس الهيئة الوطنية.
ولعلّ ما يجمع بين نقابة الصحفيين والهيئة الوطنية للمحامين التونسيّين، فضلا عن أنّهما يمثّلان منظمات تاريخية وقطاعيّة ذات وزن سياسي هامّ في البلاد، هو انخراطهما ضمن سقف مسار 25 جويلية. فقد خفّضت نقابة الصحفيّين كثيرا من السقف السياسي لخطابها منذ تغيّر تركيبتها بعد المؤتمر المنعقد في أكتوبر 2023، وفضّلت نهج تفادي التصادم مع السلطة، والتحاور مع مختلف مؤسساتها والتركيز على المطالب القطاعيّة. أمّا عمادة المحامين، فلم تقطع تماما مع نهج العميد السابق والرئيس الحالي للبرلمان ابراهيم بودربالة، على الرغم مما ظهر في بيان 21 مارس 2024 من تصعيد للهجة إزاء السلطة واسترجاع دور المحاماة في الدفاع عن الديمقراطية والحريات. إذ لم يتبع البيان المذكور خطوات عملية قويّة وصريحة، على الرغم من تتالي الملاحقات ضدّ حقّ الدفاع، إلى غاية مداهمة “دار المحامي”.
ربما يساهم التصعيد غير المسبوق من جانب السلطة إزاء أجسام وسيطة لم تكن تصنّف في خانة المعارضة الصريحة لها، في توسيع دائرة المعارضين وعزل النظام أكثر فأكثر. وذلك في سنة يفترض أن تجري فيها الانتخابات الرئاسيّة التي لا يزال الرئيس متردّدا في تحديد موعد لها، ولم يتبقّ سوى خمسة أشهر قبل انتهاء العهدة الرئاسية. لكنّ حالة الوعي بالمنعرج الاستبدادي ليست فقط هشّة، بل جاءت متأخّرة، بعد مضيّ النظام في تفكيك المكاسب الديمقراطيّة ونجاحه في تطويع القضاء، بعد مقاومة لم تجد ما يكفي من المساندة من المجتمع الحقوقي و”القوى الديمقراطية”. وتبقى “استفاقة الأجسام الوسيطة” بفعل تتالي هجمات السلطة المباشرة، رهينة حسم الرؤية السياسيّة والاضطلاع بالمسؤولية الوطنية والديمقراطية، وتحدي حاجز الخوف الذي تسعى السلطة لفرضه على الجميع.