أصدرت الدائرة الجنائية المختصة في قضايا الفساد المالي حكما بـ8 سنوات سجن مع النفاذ العاجل ضد سامي الفهري صاحب قناة الحوار التونسي، كما قررت دائرة الاتهام بالقطب القضائي المالي نقض قرار الإفراج بضمان مالي عن نبيل القروي مالك قناة نسمة، بسبب تهم متعلقة بتبييض الأموال والتهرب الضريبي.
يشير عالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو، في تحليله للبنية العلائقية التي تشكل المجال الإعلامي إلى أنه “عندما يتعلق الأمر بإحدى القنوات التلفزيونية، إذا لم نعرف اسم المالك ونصيب كل من المعلنين في الميزانية وقيمة الدعم الذي تقدمه الدولة، لا يمكن فهم شيء كثير”. وفي السياق التونسي كانت قصص النجاح المالي والإعلامي تخفي وراءها “ثروات كريهة” كوّنها أباطرة الإعلام الخاص في الخفاء عبر التحايل على القوانين أو من خلال مواقعهم القريبة من مراكز الحكم والنفوذ. لقد استفاد صاحب قناة الحوار التونسي سامي الفهري، من شراكة ذهبية مع صهر الرئيس السابق بلحسن الطرابلسي، ليحصد أموالا طائلة على حساب دافعي الضرائب، قدَّرتها الاختبارات العدلية بأكثر من 21 مليون دينار، وقد تدفقت هذه الأموال إلى حسابات سامي الفهري في السنوات الفاصلة بين 2003 و2010 من خلال صفقات أبرمتها شركة “كاكتوس برود” (وكيلها القانوني سامي الفهري) مع التلفزة الوطنية العمومية. وقد تخللت الصفقات إخلالات قانونية ومالية، جسدتها أساسا مساحات الإشهار غير القانونية وعقود الإنتاج الباهضة والاستعمال المجاني لخدمات وتجهيزات عامة تسببت في عجز مالي للتلفزيون العمومي. وقد ساهمت هذه التركة المالية الموروثة عن حقبة الاستبداد في صناعة المجد الإعلامي لقناة الحوار التونسي بعد سنة 2011، التي استفادت خلال فترة ما بعد-الثورة من إبرام عقود حصرية وغير قانونية مع شركة “كاكتوس برود” التي أصبحت الدولة تمتلك أكثر من نصفها بمقتضى المصادرة.
لم يكن الطريق إلى نسب المشاهدة العالية والحصول على حصة ضخمة من سوق الإعلانات محفوفا بالشفافية واحترام القوانين، لقد كان مرفوقا في معظم الأحيان بجرائم مالية واقتصادية. كانت قناة نسمة، التي تعود ملكيتها لنبيل القروي، تُخفي وراء إنتاجاتها الدرامية ودبلجة المسلسلات التركية وبرامجها السياسية شبكة مُعقدة من عمليات التهرب الضريبي والإفلات من دفع مستحقات البنوك التونسية وإدارة الجباية والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. وهذا ما كشفته في سنة 2016 تحقيقات منظمة “أنا يقظ”، وأيّدتها تقارير مراقب الحسابات التي نُشرت في فترة لاحقة. فقد أثبتت تلك التقارير حقيقة التهرب الضريبي رغم حملات المناصرة التي نظمتها قناة نسمة للدفاع عن مالكها وشيطنة خصومه عبر حملات دعاية مضادة.
الاشتباك بين الإعلام والسلطة
أن تملك محطة تلفزية “ناجحة” من وجهة نظر المنطق الحسابي لمنظومة “الأوديمات”، بإمكانك أيضا امتلاك شيء من السلطة، وبإمكانك أيضا استدراج فاعلين سياسيين كبار في الحكم وخارجه، والترويج الدعائي لمشاريع ومواقف بعينها وإسقاط وجهات نظر أخرى مخالفة. وعادة ما تشكّل الانتخابات في تونس سوقا للإشهار السياسي التلفزي. إذ جاءت التقارير الرسمية المتابعة لدور وسائل الإعلام في الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2019، لتكشف جزءاً من شبكة المصالح السياسية التي تربط قناتي نسمة والحوار التونسي ببعض المترشحين للانتخابات.
كانت قناة الحوار التونسي تُواكب المشهد الانتخابي الأخير من خلال تعاطيها مع ملفات الفساد، وخاصة ملف مالكها سامي الفهري، الذي كان يبحث عن مخارج سياسية تُعفيه من الملاحقة القضائية. لذلك سعت القناة إلى الدفع بمُرشحين مناوئين لرئيس الحكومة آنذاك يوسف الشاهد الذي لم ينجح في الحفاظ على صداقته القديمة مع قناة الحوار التونسي. وقد كان وزير الدفاع الأسبق عبد الكريم الزبيدي ورجل الأعمال سليم الرياحي على رأس المنتفعين بخدمات الإشهار السياسي لقناة الحوار التونسي. وهو ما لاحظه تقرير محكمة المحاسبات الصادر في أكتوبر 2020 في فقرته القائلة: “حظي مترشحون بأفضلية في النفاذ إلى برامج قناة الحوار وهما عبد الكريم زبيدي ومساندوه وسليم الرياحي، حيث حظيا بحوار خاص بكل واحد منهما أمّنه ممثل عن القناة والذي تنقل بخصوص المترشح سليم الرياحي إلى فرنسا لمحاورته في منزله. وتجاوزت نسبة تغطية القناة للمترشحين عبد الكريم زبيدي وسليم الرياحي على التوالي 13% و11% من المدة الإجمالية للبث في حين لم تتجاوز هذه النسبة بخصوص 17 مترشحا 2 بالمائة من المدة الاجمالية للبث”.
كانت قناة نسمة أكثر ارتباطا بالمشروع السياسي لمالكها نبيل القروي، الذي يترأس حزب “قلب تونس” ويعد أبرز المترشحين للانتخابات الرئاسية ببلوغه الدور الثاني كمنافس وحيد للرئيس الحالي قيس سعيد. وقد ساهمت المساحات الدعائية الواسعة التي خصّصتها قناة نسمة للمشروع السياسي لمالكها في الصعود الذي حققه حزب قلب تونس حديث التأسيس، الذي حصد 38 مقعدا في البرلمان التونسي، مسجّلا المرتبة الثانية بعد حزب حركة النهضة الإسلامي. وخلال الحملة الانتخابية نوّهت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري بعدم قانونية قناة نسمة نظرا إلى عدم حصولها على الإجازة القانونية، مشيرة في تقرير لها: “خصصت قناة نسمة حوالي 24 ساعة ونصف من البث خلال الحملة الانتخابية للدعاية لحزب قلب تونس ورئيسه المترشح للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها عبر أشكال مختلفة، فقد خصصت ما يقارب 06 ساعات ونصف من البث، للدعاية المباشرة للحزب المذكور ورئيسه، كما خصصت حوالي 18 ساعة لأشكال أخرى من الدعاية للحزب المشار إليه ورئيسه من خلال البث المتواتر لومضة وبرنامج “خليل تونس” والذي سبق أن اتخذت الهيئة في شأنه قرارات على اعتبار محتواه الذي تضمن دعاية وترويجا لشخص “نبيل القروي” من خلال ظهوره وتعهده الشخصي بإيجاد حلول للوضعيات الاجتماعية المعروضة في مخالفات للقوانين والتراتيب الجاري بها العمل”.
السيطرة على المجتمع باسم “نشر الخير”
يذهب عالم الألسنيات والفيلسوف الأمريكي، نعوم تشومسكي، في تحليله لأثر “البروباغاندا” على حياة الناس وميولاتهم، إلى أن “الدعاية في النظام الديمقراطي هي بمثابة الهراوات في الدولة الشمولية”. وفي بعض الأحيان تأخذ الدعاية السياسية وجها جميلا ينضح بالخير والسلام، ويبلغ أثر الدعاية في بعض الأحيان حُدودا تنتفي فيها الفوارق بين اللصوص والقدّيسين. طيلة أكثر من ثلاث سنوات مضت، ساهمت موائد الإفطار المجانية والمساعدات الاجتماعية للفقراء التي نظمتها جمعية “خليل تونس” في إنتاج سردية وردية عن مؤسسها نبيل القروي صاحب قناة نسمة، وكان لها دور كبير في تحديد ميولات الكثير من الناخبات والناخبين في زمن سياسي انسحبت فيه دولة الرعاية وتركت فقراءها للعراء والتوظيف الرخيص.
ولكن للحكاية وجه آخر توارَى عن الأنظار وسط صخب التعبئة الانتخابية وشراء الأصوات والذمم، وانكشفت بعض ملامحه في تقرير محكمة المحاسبات المذكور سابقا. فقد خلصت هذه المحكمة إلى أن جمعية “خليل تونس” كانت واجهة للخير والفساد وكانت أداة مالية لدعم حزب قلب تونس ورئيسه نبيل القروي في الانتخابات الفارطة، رغم أن المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المتعلق بتنظيم الجمعيات يحجّر في فصله الرابع على الجمعيات القيام بجمع الأموال من أجل تمويل أحزاب سياسية. وقد ورد في تقرير محكمة المحاسبات حول الحسابات المالية لجمعية خليل تونس: “مكّن فحص أنشطة ومشاريع الجمعيات الممولة بتمويلات أجنبية ومقاربتها مع كشوفاتها البنكية والبريدية خلال السنوات 2017 و2018 و2019 من الوقوف على تحصل جمعية “خليل تونس” على تمويلات أجنبية مجهولة المصدر تم تحويلها إلى الجمعية عن طريق منصة “Eurogiro” وذلك في غياب أي تنصيصات تتعلق بهوية المانح. وبلغت هذه التمويلات خلال سنوات 2017 و2018 و2019 ما قدره على التوالي 21.097 أ.د و57.955 أ.د و20.587 أ.د، وفي ذلك مخالفة لأحكام الفصل 99 من قانون مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال عدد 26 لسنة 2015 المؤرخ في 17 أوت 2015 الذي ينص على أنه يجب على الذوات المعنوية الامتناع عن قبول أي تبرعات أو مساعدات مالية مجهولة المصدر. وفي هذا الإطار لم تمكّن المعلومات التي أفادت بها الجمعية المحكمة في إجابتها الواردة على المحكمة من تحديد مصدر كل التمويلات المذكورة، حيث ظل ما قدره 5144.792 د بعنوان سنة 2018 و3160.400 بعنوان سنة 2019 مجهول المصدر”.
جاءت ملاحظات محكمة الحسابات لتُعيد النظر في ارتباطات الإعلام بالمال والسياسة، ومواقعه داخل شبكات النفوذ والهيمنة، في الوقت الذي كانت فيه ثورة 2011 تُحفّز الاعلام التونسي على القيام بأدوار سياسية وقيَمية جديدة، تجعل منه مدخلا لتأسيس مواطنة عادلة وحرة، ومنصّة واسعة تحترم حق المجتمع في النفاذ إلى المعلومات والوقائع دون فبركة وتضليل، وتلتزم بمبادئ التعددية والاختلاف.