أمام أعين الصحافيين وبطريقة مباشرة وفجّة، نسفت دولة الاحتلال الإسرائيلي كافّة “الخطوط الحمراء” التي وضعها المتابعون في تحليلاتهم واستعجلت تحقيق السيناريوهات السوداوية التي وردت في توقّعاتهم حول “الخطوة التالية” والتحذيرات منها. يبدو أن لا أحد يستطيع أو يرغب بكبح جماح بنيامين نتنياهو في توسيع رقعة المعارك وحدّتها فيما لا أفق واضح لكيفية إنهائها، خلصت معظم الآراء الصحافية الغربية المواكبة لتصاعد الأحداث بشكل متسارع خلال الأسبوعين الأخيرين.
هكذا حلّت ذكرى السابع من أكتوبر على الإعلام الدولي محمّلة بالأحداث الكارثية من غزة إلى لبنان، فبُنيت التحليلات الصحافية على وقع تطوّرات ميدانية خطيرة ومتسارعة نقلت المشهد العام من سيّئ إلى أسوأ (ما بعد اغتيال الأمين العام لحزب الله، ما بعد الغزو البري لجنوب لبنان، ما بعد الهجمة الصاروخية الإيرانية…).
ماذا بعد؟ ما الشكل الذي سيتّخذه الصراع؟ ماذا سيحلّ بالمنطقة؟ سأل المحللون الغربيون، وتوزّعت الآراء بين المتشائمة التي لا ترى في التطوّر الحالي للأحداث سوى مخاطر محدقة بالمنطقة وحروب لا نهاية واضحة لها، وبين تلك التي تدعو إلى استغلال الفرصة لاتخاذ خطوات جذرية في الصراع لصالح اسرائيل.
وكما هو متوقّع ومُعتاد، انطلق الإعلام الغربي، في تفكيكه للمشهد الحالي وفي تقديم رؤيته للمستقبل، من زاوية أحادية تتمحور حول حرصه على وجود إسرائيل وأمنها وسلامة مستوطنيها. تغطيات منحازة وتحليلات استعلائية حول مستقبل المنطقة تهمل تاريخ الصراع الطويل وتقصي الرأي العام العربي وتهمّش مصلحة الفلسطينيين واللبنانيين ولا تولي أي اهتمام لرصد الأحوال السيئة والصعبة لمجتمعات المنطقة، وإن سلّطت الضوء عليها تغيّب عمداً أي ربطٍ لتردّي تلك الأوضاع بالسياسات الأميركية والإسرائيلية والغربية الاستعمارية المطبّقة في معظم دول المنطقة.
سباق مفتوح مع متلاعب مهووس بالحرب
كَمَن يُنذِر بكارثة تلوح في الأفق.. فتستعجل إسرائيل ارتكابها في اليوم التالي، هكذا بدا المشهد في تحليلات الإعلام الدولي خلال الأسبوعين الأخيرين. مشهد شكّلته أحداث سريعة عنيفة تصاعدية تقودها من جانب الاحتلال الإسرائيلي “مجموعة مريضة بتعطّشها للحروب والدماء” على رأسها “رجل يلهث وراء مصالحه الشخصية ويخدع الجميع“، كما وُصف بنيامين نتنياهو وحكومته في عدد من المقالات الإسرائيلية والغربية في الأيام الماضية.
فخلال الأسبوع الأخير من شهر أيلول/سبتمبر الماضي وبعد استهداف قائدين بارزين من حزب الله حذّرت بعض التحليلات الغربية من أن التصعيد في الاغتيالات سيدفع الحزب إلى تغيير “ردود فعله المتوازنة حتى الآن” ما لا يصبّ في مصلحة إسرائيل ولا المنطقة… وما هي إلّا أيام قليلة حتى اغتالت إسرائيل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. بعد هذا الاغتيال المدوّي، ارتفعت أصوات كثيرة في الصحافة الغربية والإسرائيلية تقول إن اغتيال نصرالله لن ينُقذ إسرائيل وأن نتنياهو يرى أنّ بإمكانه الاستمرار في التلاعب بقادة واشنطن والمجتمع الدولي كما فعل مؤخراً، “لأن هؤلاء لا يفعلون شيئاً سوى التعبير عن استنكارهم لما يحصل”. وخلصت بعض التحليلات إلى أنه، وعلى مدى أشهر طويلة، كان نتنياهو يردد على مسامع واشنطن ما كانت ترغب في سماعه ثم يفعل ما يحلو له.
وبعد التحذير من تصعيد الاغتيالات، أنذرت الصحافة الدولية من التهديدات الاسرائيلية بـ”التوغّل البرّي” في جنوب لبنان. فحذّر محلّلون مثل توماس فريدمان في “نيويورك تايمز” من “الفخّ” الذي وقعت فيه إسرائيل وجرّت معها واشنطن إليه، موضحاً أن الحكومة الإسرائيلية الحالية تشكّل خطراً على الدولة اليهودية والإسرائيليين من خلال أدائها المتهوّر الذي لم تستطع إدارة جوزف بايدن إيقافه أو تقديم بديل عنه. فريدمان وصف استراتيجية نتنياهو لإدارة الأزمة بـ”الكارثية” لأنها حوّلت العمليات العسكرية إلى “قتل جماعي هدفه القتل فقط”. ومع غياب أي رؤية سياسية واضحة للمستقبل، أضاف فريدمان، “حَبَس نتنياهو إسرائيل داخل دائرة من النار”. من جهته، حذّر الصحافي ديفيد إغناتيوس في صحيفة “واشنطن بوست”، والذي غطّى الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، من تكرار سيناريو الاجتياح وتجاوز اسرائيل الحدود كما فعلت حينها في محاولة لاقتلاع جذور “منظمة التحرير الفلسطينية” فوجدت نفسها تتخبّط في “المستنقع” اللبناني. كما خصّصت “ذي غارديان” افتتاحيّتها لتقول أيضاً إن “التاريخ أظهر لإسرائيل الثمن الذي يمكن أن تدفعه مقابل اجتياحها البرّي للبنان. قد يكون الدخول سهلاً لكن التحدّي هو في كيفية الخروج من هناك (…) خصوصاً أنّ الطرفين مجهّزان بطريقة أفضل بكثير هذه المرّة”. بعد أيام قليلة من نشر التحليلات التحذيرية من التوّغل البرّي، باشرت إسرائيل غزواً برّياً على جبهات مختلفة من الجنوب اللبناني وما زالت تشتبك حتى اليوم مع مقاتلي حزب الله على الجبهة الحدودية.
اللحظات الأخطر في التاريخ الحديث
حول خطورة المرحلة في المدى القريب، ربط المحللون شكل التطوّرات السياسية والميدانية بالانتخابات الأميركية وبشكل الردّ الاسرائيلي على الهجمات الصاروخية الإيرانية وتوقيتها. إذ يرى مقال تحليلي في صحيفة “لوس أنجلس تايمز” أن نتنياهو يدرك جيداً أن الرئيس الأميركي بايدن لن يضغط على إسرائيل في موسم انتخابي، كما يدرك أيضاً أنه من الصعب جداً أن يحصل أيّ تغيير في السياسة الخارجية الأميركية قبيل الانتخابات الرئاسية. لذا، يخلص المقال إلى أن إسرائيل “ستراهن على الفراغ السياسي الأميركي وتستغلّه لتصعّد من هجماتها في لبنان”. خبراء أمنيّون إسرائيليون قالوا لـ”نيويورك تايمز” إنه “لا يبدو أن لدى إسرائيل استراتيجية خروج واضحة من لبنان ما سيضع الجيش الإسرائيلي في حرب استنزاف” ويطوّل أمد المعارك من دون وجود أي حلول سياسية في الأفق. أجواء الغموض والذهاب إلى المجهول نقلها أيضاً توماس فريدمان في فقرة تحليلية في “نيويورك تايمز”، إذ أشار أنه “بعد الردّ الصاروخي الإيراني على إسرائيل، الاحتمالات مفتوحة حول شكل الردّ الإسرائيلي، بدءاً باحتمال ردّ رمزي وصولاً إلى ضرب منشأة نووية”. لذا يقول فريدمان أننا نشهد الآن على “أخطر لحظة يعيشها الشرق الأوسط الحديث”، ويردف أن كلّ أطراف هذا الصراع قد اجتازوا الخطوط الحمراء الموضوعة سابقاً وآخرها الحرب الصاروخية بين إسرائيل وإيران. وهنا يرى الكاتب أنّ أيّ ردّ صاروخي من قبل إسرائيل لن يتحقق من دون دعم ومساعدة أميركية، لذا يقترح على إدارة بايدن أن تعترف بالدولة الفلسطينية وأن يمهّد ضرب قدرات إيران الصاروخية الطريق نحو حلّ أشمل في المنطقة.
يربط تحليل آخر في صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية، الردّ الإسرائيلي على إيران بتطورات الغزو في لبنان، فقد “تمّ تأجيل الردّ على إيران للتركيز على ضرب حزب الله في لبنان على أن يُنفّذ الردّ بعد تحقيق ذلك الهدف”، يشرح المقال. ما الذي سيُضرَب في إيران؟ يقول كاتب المقال إن “لا إجماع في الجيش الإسرائيلي حتى اللحظة حول طبيعة الأهداف التي سيضربها. لكن واشنطن تفضّل أن تشمل الضربات مواقع الصواريخ الباليستية والطائرات الاستطلاعية وبعض المسؤولين عن الهجمات التي طالت إسرائيل أخيراً”.
“أين تنتهي حدود الحرب المشروعة للدفاع عن النفس وتتحوّل إلى هوس بشنّ الحروب؟” تسأل افتتاحية مجلة “لو نوفيل أوبسيرفاتور” الفرنسية ضمن ملف خاص بعنوان “حرب إسرائيل التي لا نهاية لها”. تقول الافتتاحية إن أكثر ما يدعو لليأس هو أنّ هذه الحرب “لا تبدو فقط من دون نهاية إنما أيضاً من دون مخرج واضح”. الافتتاحية تطرح أسئلة مستنكرة كمثل “أين تأخذ هذه الحرب المنطقة بأكملها في حين يدعو الرئيس الإيراني إلى تدمير إسرائيل؟ عن أي سلام يبحث نتنياهو؟ كيف يبدو “اليوم التالي” وسط كل تلك الجثث التي ستبقى في الذاكرة وتحيي الصراعات المقبلة”.
كاتب الافتتاحية انتقد سياسات نتنياهو العنيفة وقال إن “من أكثر الأمور مفارقة وخطورة على مستقبله أن لا يحترم بلد كإسرائيل القانون الدولي الذي أوجده”. وبما أن مطالب وقف إطلاق النار، “تصدح في الفراغ”، كما تصف الافتتاحية، يتمسّك كاتبها ببعض الأمل المعلّق على فوز المرشحة للرئاسة الأميركية كامالا هاريس في الانتخابات “كفرصة لبناء السلام في المنطقة”.
“إسرائيل تبدو معزولة أكثر فأكثر، لا لأنّ العالم لم يشهد رعب أحداث 7 أكتوبر، بل لأنّه لا يمكنه تجاهل معاناة الفلسطينيين”، تقول افتتاحية “ذي غارديان” البريطانية في ذكرى مرور سنة على أحداث 7 أكتوبر وتقترح الضغط أكثر بالوسائل الدبلوماسية من أجل فرض “الإفراج عن الرهائن ووقف إطلاق النار في غزة ولبنان… سعياً لإيجاد حلول أمنية طويلة الأمد من ضمنها حلّ عادل للفلسطينيين”.
من جهته خلص تقرير في “منظمة كارنيغي للسلام الدولي” إلى أن “استمرار الردود الانتقاميّة غير المتكافئة بين إيران وإسرائيل يهدّد بالتحوّل إلى حلقة مفرغة من الضربات الصاروخية الإيرانية والردود الإسرائيلية، حيث سيكشف ذلك عن القيود العسكريّة لطهران في حين يفشل في تغيير التوازن – ما قد يدفع إيران نحو تدابير أكثر تهوّراً لا يمكن التنبؤ بها وذلك في سعيها إلى تحقيق الردع المنشود”.
وحول الأداء الاسرائيلي، عدّدت بعض المقالات الغربية والإسرائيلية الوقائع التي تدلّ على أن لا انتصارات إسرائيلية محقّقة حتى الآن غير اغتيالات قادة حزب الله والتي “لن تدمّر بنية الحزب لا العسكرية ولا الاجتماعية الخدماتية ولن تشكّل عائقاً أمام حزب الله لاستكمال عمليّاته”. ومن بين تلك المقالات بعض ما نُشر في صحيفة “هآرتس” حيث فنّد جدعون ليفي عناصر المأزق الاسرائيلي كما يلي: الضفة الغربية على وشك الانفجار، إسرائيل عالقة في غزة المدمّرة من دون خطة واضحة للخروج من هناك ولا لاستعادة الأسرى، وكالة “موديز” خفّضت التصنيف الاقتصادي الإسرائيلي إلى أدنى درجاته، المذبحة الجماعية التي بدأت في غزة تنتقل إلى لبنان… وأضاف آخرون أن صورة إسرائيل في الحضيض وقادتها مطلوبون أمام المحاكم الدولية وأن إسرائيل تخوض معارك الآن على 6 جبهات في نفس الوقت! لذا قال بعض المحللين إن إسرائيل تحتاج الآن إلى “رجل دولة حقيقي، يعيد الرهائن ويرسي نظاما إقليميا جديدا، ويعيد للحكومة الإسرائيلية رشدها، ويعمل على إعادة بناء العلاقات مع أنظمة المنطقة ومع واشنطن ويبني تحالفاً حقيقياً مع المملكة العربية السعودية”.
شرق أدنى جديد بقيادة إسرائيل؟
حول الحلول وبعض المخارج المقترحة، تناولت بعض المقالات ما سمّته بالفرص التي يمكن استغلالها خلال الأزمة الحالية وبعد انتهائها لحلّ بعض المشاكل الجذرية المتعلقة بالصراع في المنطقة. رئيس تحرير “هآرتس” ألوف بن وفي مقال بعنوان “قبل أن يتحوّل لبنان إلى غزة ثانية، هذا ما يجب أن تفعله إسرائيل” خلص إلى أن إسرائيل “يجب أن تطالب المجتمع الدولي بوضع آلية واضحة لنزع سلاح حزب الله واستعادة سيادة الحكومة اللبنانية على البلد. كما يجب أن تُشرف الأمم المتحدة على تدمير الترسانة الصاروخية للحزب ومصانع إنتاجها” هكذا، يضيف الكاتب “يمكن أن ننهي التصعيد ونتوصّل إلى وقف لإطلاق النار في غزة وإطلاق سراح الرهائن وعودة أهل الجليل إلى منازلهم. وهكذا تكون إسرائيل قد بيّنت لأعدائها أنه من الأفضل ألا يعبثوا معها”.
وتحت عنوان “إنها فرصة الولايات المتحدة في إعادة بناء السيادة اللبنانية”، دعا ديفيد إغناتيوس من خلال “واشنطن بوست” الولايات المتحدة إلى المساهمة في أن “تستعيد السلطات اللبنانية سيادتها وتملأ الفراغ السياسيّ والأمنيّ الذي سيخلقه تدمير إسرائيل لحزب الله”. كيف؟ ينقل إغناتيوس اهتمام المسؤولين الأميركيين بالجيش اللبناني وبدعمه “ليكون بديلاً عن حزب الله”. “إعادة بناء الدولة اللبنانية خلف جيش لبناني قوي ومواطنين سئموا من أداء حزب الله، إن ذلك يتطلب جهداً أميركياً جدّياً وإرادة سياسية، لكنه يستحقّ العناء” يخلص الكاتب.
افتتاحية مجلة “لو بوان” الفرنسية بعنوان “الشرق الأدنى الجديد الذي تخلقه إسرائيل” تقول أيضاً إن إسرائيل تتّجه إلى إرساء نظام إقليمي جديد بعد تدمير حزب الله وتقول إن حلفاء إسرائيل في المنطقة من المملكة السعودية والإمارات العربية والبحرين والأردن ومصر مسرورون بالقضاء على قدرات حزب الله وحماس وبتقليص قوة إيران في المنطقة. ودعت افتتاحية “لو موند” الفرنسية إلى اقتناص الفرص من الأزمة الحالية إذ إنّ “تاريخ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يثبت أن الانتصارات العسكرية لم تكن قادرة قط على الحلول مكان غياب الرؤية، والافتقار إلى الرؤية بات الآن أكثر وضوحاً من أي وقت مضى”. لذا، تشير الافتتاحية إلى أن “فرصة إضعاف الميليشيات التي تهدد أمن اسرائيل يجب أن تأخذ بعين الاعتبار حقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم”، وتدعو حلفاء إسرائيل إلى “التوقّف عن اعتبارها شريكاً لا يمكن أن يُفرَض عليه أي شيء”.