عندما أفصَحَ رئيس هيئة الانتخابات فاروق بوعسكر عن النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية في نقطة إعلامية نُقِلَت مُباشرة على القناة الوطنية الرسمية والإذاعة التونسية، في 10 أكتوبر 2024، كانت القاعة على عكس المحطّات الانتخابية السّابقة خالية من وسائل الإعلام المحلية والدّولية والصحفيين في أهم حدَث سياسي تَعرِفه البلاد. لم تكُن تلك المرّة الأولى التي تَعتَمد فيها الهيئة على “خطّة” النّقطة الإعلامية دون صحافة، وعلى الإعلام العمومي كي يكون مجرّد “وسيط” دون صُداع أسئلة أو قلق ملء فراغات الإجابات المحرِجة، فقد توختها أيضا عند الإعلان عن المترشحين للانتخابات بشكل نهائي -مع استثناء حضور صُوري لوسائل إعلام عمومية- لكن الدرس وصل إلى الصحفيين بمَا يُشبه استخدامهم “دروعًا إعلامية” لتغطية بلا أجوبة.
ومن البديهي العودة إلى أبسَط تعريفات النقطة الإعلامية: هي موعد إعلامي مُختَصَر، يتحدّث فيه ناطق أو جملة ناطقين رسميين حول حدثٍ ما أو مسألة خاصة، ويوضّحون عبرها نقاطًا يرونها جوهرية قبل الإجابة عن عدد محدود من أسئلة الصحفيين. ومؤدى ذلك أننا كنّا في هذه الحالة أمام وضع مخصوص انتفَت فيه أهم قيمة في المهنة الصحفية وهي المساءلة في الانتخابات. ويَطرح هذا مرة أخرى السؤال الكبير: أي دور للإعلام في الانتخابات وخصوصا العمومي الممّول من دافعي الضرائب المحمول عليه قيادة القاطرة الإعلامية عند تغطية المواعيد الانتخابية؟
ويُحيل السؤال بدوره إلى تفكيك المساحة التي تحرّكَ فيها هذا الإعلام العمومي طيلة الانتخابات، فالقاعدة المهنية المُتّفق حولها هي أن الانتخابات ليست وضع ورقة في الصندوق، بل هي إجابة عن حلقة مترابطة من الأسئلة: كيف وَصلَت الورقة إلى الصندوق؟ بأي طريقة تَمَّ تحريك السلوك الانتخابي؟ لماذا انتخب الناس هكذا؟ ويَقودنا ذلك إلى ضرورة استقراء صنف مهني إعلامي مستقل، وهو الإعلام السياسي أو الصحافة السياسية في الإعلام العمومي، ومنها يَنبَع القرار الانتخابي أو تتمّ صناعته.
الصحافة السياسية العمومية وعطالة الحركة
أن تصل متأخرا فليس في الانتخابات، لكن من الأفضل أن تتدارك. ذلك ما سعت إليه بعض “الجيوب” المهنية التي تُكافح في مؤسسات الإعلام العمومي من أجل مرفق عام رغم الصعوبات ودوّامَة الممنوعات. ففي الإذاعة والتلفزة، مركزيا وجهويا، َيشير عدد من الصحفيين ممن توجّهَت إليهم المفكرة القانونية بالسّؤال عن تقييمهم للتغطية الإعلامية العمومية للانتخابات -وطلبوا عدم الكشف عن هوياتهم- إلى أنهم تمكّنوا بجهد خاصّ من تمرير ما يعتبرونه أخبارًا “مُقلقة” للجسم الإداري والتحريري المسؤول في غرف الأخبار والإنتاج. وقد ذَهبَ صحفيون في وكالة تونس إفريقيا للأنباء (وكالة عمومية) إلى رفع الشارة الحمراء، في 24 سبتمبر 2024، وتحدّي آلة الرقيب التي تحرّكت بلا هوادة لمنع نشر برقيات تتعلق بالترشحات أو الحملة الانتخابية أو أنشطة حزبية معارضة.
يَبقى هذا المجهود مطلوبا ومحمودا، لكنه غير كاف أمام تيار “العودة إلى الوراء ” حسب إجاباتهم. إذ استبق نقيب الصحفيين زياد دبّار بدوره كل التقارير التقييمية حول أداء الإعلام العمومي أثناء الفترة الانتخابية بالقول “إن وضع الإعلام العمومي اليوم غير سليم وسيّئ جدا”. أما إحصاءات استبيان أجراه مجلس الصحافة على عينة من 133 صحفي -جُلّهم ينتمون إلى وسائل إعلام عمومية- فقد خلُصَت إلى أن 60 بالمائة منهم توقّعوا مواجهة صعوبات في التغطية الصحفية للانتخابات الرئاسية ما يعني استبطانًا مسبقا لتغطية مبتورة في العقل المهني الصحفي العمومي والخاص على حد السواء.
وعلى عكس المحطات الانتخابات الفارطة، لم تَدُر “سجَالات كلامية” سمعية بصرية بين المترشحين في الحلبة الحوارية للقنوات التلفزيونية والإذاعية الخاصة أو في صفحات الجرائد والمواقع، بقدر ما جرَت بشكل واضح في الفضاء الافتراضي. ومَسكت وسائل إعلام في أغلبها عصا التغطية من الوَسط وفق محاذير حدّدتها مسبقا، في حين اختارت أخرى هجرة كل حديث في السياسة من باب عثرة القدم أسلم من عثرة اللسان.
هذا “الجوّ الهادئ” تَم تعميمه قبل ذلك بكثير على الإعلام العُمومي الذي لَعبَ في كل المحطات الانتخابية السابقة دور المُنظّم للفضاء الحِجاجي والتّداولي طيلة المسار الانتخابي، فلم نَعثر لأول مرة منذ انتخابات 2014 على حوارات خاصة مع المترشحين أو على التعبير المباشر الذي يتوجّه به كل مترشح بكلمة إلى الجمهور الانتخابي، وأخيرا و-هذا هو الأهم- فقدان أهم اختبار ديمقراطي بين المترشحين للرئاسية أمام ملايين المشاهدين والمستمعين، وهي المناظرة الرئاسية التي مَيّزَت السلوك الانتخابي التونسي في 2019، ولكن تم إلغاؤها في انتخابات 2024 من دون سابق إنذار أو معلومة رسمية. وقد أفقد هذا وسائل الإعلام العمومية أهم سلاح في رأسمالها الرمزي المُتراكم وهي ثقة الجمهور الانتخابي والسياسي والحزبي الذي “طَبّعَ” مع المناظرات الرئاسية في دورتي الانتخابات الرئاسية للعام 2019 ثم الانتخابات التشريعية في السنة نفسها، وهو ما يَقطَع العهد مع عُرف إعلامي محدّد في السلوك الانتخابي.
لم تكن هذه السياسة الإعلامية الرسمية وليدة الفترة الانتخابية، وهي المدة التي تضمّ مرحلة ما قبل الحملة الانتخابية أو ما قبل حملة الاستفتاء والحملة وفترة الصمت وتمتدّ حتى الإعلان عن النتائج النهائية وفق التعريف القانوني الانتخابي، بل ظلت وسائل الإعلام العمومية بكل محاملها (تلفزة وإذاعة ووكالة أنباء) تعتمد سياسة ممنهجة تمثلت في احتكار خطاب إعلاميّ إخباري “لا سياسي” في حدث هو سياسي بالأساس، وهي مفارقة قَلّ نَظيرها في المشهد الإعلامي الحديث.
وبدا أن غلق التلفزة والإذاعة العموميتين أمام السياسيين والأحزاب واضحا للعيان، ولا يستدعي رصدًا أو اطّلاعا على بيانات الأحزاب والمنظمات والهياكل المهنية، ممّا أخلَّ بأهم رافعة للإعلام السياسي وهي إنتاج المعنى السياسي وامتحان الأفكار والمشاريع والآراء والوصول إلى مسّ الشارع السياسي والانتخابي وهو أم الاختبارات للفعالية التوعوية الانتخابية السمعية والبصرية.
البيئة المهنية العمومية وأسيجَة القانون والرقابة
تُحدّد البيئة المهنية في كل وسائل الإعلام وخارجها مكامن القوة والضعف ومسارات التحرك. فحين تكون هذه البيئة “متوترة ” يُصبح اشتغالها في ظرف غير عادي أمرًا طبيعيا. وإن تم وضع دساتير مهنية وأخلاقية في الإذاعة والتلفزة ووكالة الأنباء والصحف عبر مواثيق تحرير ومدونات سلوك، فإن كل ذلك بقي في الرفوف. ذلك ما أكدّته الملاحظات الحرة للصحفيين في استبيان مجلس الصحافة الأخير حيث أشار هؤلاء إلى أن “هناك المُعلن والخفيّ في التغطية الإعلامية للانتخابات إذ تَحضر الرقابة والصّنصرة مقابل غياب أي أرضية مهنية وأخلاقية يمكن اعتمادها مرجعية للتحكيم”.
وفي غياب أي غطاء تعديلي بالنظر إلى تجميد عمل الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري وغياب القرار المشترك الذي تضعه مع هيئة الانتخابات للتغطية الإعلامية قبل كل محطة انتخابية، عَملَت مؤسسات الإعلام العموميّة على مستوى الشكل وفقا لمرجعية دليل التغطية الإعلامية الذي وضَعته هيئة الانتخابات. لكن على مستوى المضمون كانت “الغريزة الصحفية” تُحاول بكل الطرق التّخلص من كوابيس تنبيهات الهيئة وعقوباتها وما تعتبره جرائم انتخابية، وفي الآن نفسه حاولت الإفلات من عصا الرقيب التحريرية والإدارية. وإذا اعتمدنا ما ورد في الاستبيان نفسه من أن نسبة 96 بالمائة من الصحفيين قد اعتبروا أن المرسوم 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بأنظمة المعلومات والاتصال شَكّلَ عاملا مؤثرا في التغطية الخاصة بالانتخابات الرئاسية بشكل مطلق أو جزئي، فإننا لا نُجانب الحقيقة حين نستنتج أن البيئة الصحفية العمومية بذلك تُصبح متجرّدة من أهم عنصر مهني فيها وهو السعي إلى الحقيقة الذي لا يُمكن أن يتم بأي حال فوق فخاخ القانون المسلّط على الأقلام والمَصادح.
وبما أن المناخ السياسي الذي يَعمل كنظام ديناميكي بقنوات متعددة وآراء متنافرة يُمكن أن يخلق بيئة إعلامية متحركة ومؤثرة في سلوك الفرد والناخب والمتابع، فإننا في الحالة الانتخابية التونسية وعبر ثلاثة مترشحين فقط أحدهم سجين (العياشي زمال)، وثان مقاطع للإعلام التقليدي (قيس سعيد)، وثالث شبه محاصر إعلاميا (زهير المغزاوي)، يُمكن التوصّل إلى نتيجة مفادها أن انتشار الرسائل الإعلامية في الحملة الانتخابية كان شبه مبتور إن لم نقل مفقودا في وسائل الإعلام العمومية. نخلص هنا أيضا إلى أن “التراجع التكتيكي” الذي قامت به المؤسسات الإعلامية العمومية أحيانا عبر تغطية أنشطة المعارضة بروافدها المختلفة ليس سوى ضرورة أملتها ضغوطات نقابية ورقابية وحقوقية عابرة، عملت ظرفيا على “أن لا يكون الإعلام بوق دعاية للسلطة الحاكمة مهما كان لونها” استنادا إلى أحد بيانات نقابة الصحفيين التونسيين، أو لأنه لم يكن ممكنا التعتيم عنها مهمَا كانت الكلفة الإعلامية.
ورغم وضع هياكل المهنة والتعديل وثيقة توجيهية تُحدد مسارات التغطية الإعلامية للانتخابات في محاولة لـ”تحييد” هيئة الانتخابات عن المساحة الإعلامية وأشكالها الصحفية المختلفة، فإن نوعا من “التآكل الإعلامي” حدث قبل البدء أصلا، بسبب تعدد المرجعيات المهنية والقانونية والانتخابية وتقييمات الرصد، ما جعل هذه الوسائل وخصوصا العمومية، تَجنَح إلى اللعب في منطقة “الرفاهية الإعلامية” حسب التسميات المتداولة في العرف المهني، فضلا عن وجود العقيدة المهنية الجاهزة لدى صانع القرار التحريري والإداري لخدمة الطرف الأقوى في معادلة الحكم.
أما الأمر اللافت للانتباه أيضا إحصائيا فهو ما يمكن توصيفه بشبه الغياب للفعل العقلاني الإعلامي عند التغطية الانتخابية. إذ أن 63 بالمائة من المؤسسات الإعلامية لم تضع مخططا تفصيليا لتغطية المحطة الانتخابية الرئاسية وفق دراسة مجلس الصحافة. وهو رقم خطير مهنيا، يبيّن استسهال غياب ثقافة التعديل والتعديل الذاتي، والدخول في منطق السيولة الإعلامية اليومية التي تشتغل حسب الآنية أو التغطية من أجل التغطية وملء مساحات البث، وهنا يصبح الإعلام العمومي خصوصا يسير عكس الاتجاه العادي.