بدعوة من تنسيقية اعتصام الكامور والإتحاد الجهوي للشغل في محافظة تطاوين، انطلق الإضراب العام المفتوح بمؤسسات الوظيفة العمومية والقطاع العام وكافة الشركات المنتصبة بالجهة اليوم 03 جويلية 2020، قبل الإنتقال إلى الخطوة اللاحقة يوم 04 جويلية الجاري والذي سيؤدي إلى إضراب عام في قطاع النفط والخدمات وشركات الإنشاء إضافة إلى قطع الإنتاج. ويأتي هذا التصعيد عقب إعلان التنسيقية والمكتب الجهوي لإتحاد الشغل في تطاوين رفضهم لمخرجات المجلس الوزاري الخاص بالجهة الذي انعقد اليوم الإربعاء 01 جويلية 2020 بإشراف رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ كمحاولة لاحتواء موجة الإحتجاجات التي شهدتها المحافظة والتي بلغت ذروتها عبر مواجهات عنيفة بين قوات الأمن والمحتجين طيلة يومي 21 و22 جوان.
لهجة التصعيد التي تضمنها بيان الإضراب العام في تطاوين، تنذر بتكرار مشاهد ربيع وصائفة سنة 2017 فيما يعرف لدى الرأي العام التونسي بإعتصام الكامور ‘الرخّ لا‘ الذي بلغت حدّة المواجهات خلاله بين المعتصمين والسلطة إلى حدّ وفاة أحد المحتجين دهسا ونزول الجيش لحماية المنشآت النفطية قبل توقيع اتفاق ظلّ معظم محتواه حتى الآن حبرا على ورق.
الذكرى الثالثة لتوقيع اتفاق الكامور تشعل محافظة تطاوين
بينما كان الرأي العام منشغلا بزيارة رئيس الجمهورية قيس سعيّد إلى فرنسا، أدارت محافظة تطاوين الرقاب نحوها معلنة عن منعرج جديد فيما يعرف باعتصام الكامور.
قبل ليلة الواحد والعشرين من شهر جوان المنقضي، لم يكن أهالي هذه المحافظة التي يُستخرج منها أكثر من ثلث إنتاج البلاد من النفط يتوقعون أن تفيق مدينتهم على وقع احتجاجات هي الأعنف منذ ربيع 2017. فمع نهاية شهر ماي من سنة 2020، بدأ مسار الحراك الاحتجاجيّ بشكل سلمي، حيث نصب المعتصمون الخيام في قلب مدينة تطاوين لتنتشر الإعتصامات المماثلة في مختلف بلدات المحافظة بالإضافة إلى منع شاحنات البترول من التنقل بين مواقع الشركات النفطية وميناء مدينة جرجيس، رافعين شعارا موحّدا وهو تطبيق اتفاق الكامور الذي تم توقيعه بين تنسيقية الإعتصام وحكومة يوسف الشاهد في 16 جوان 2017 وبضمان من الإتحاد العام التونسي للشغل.
استمرت الإعتصامات طيلة 20 يوما تقريبا حتى 20 جوان 2020. حين اقتحمت قوات الأمن مساء ذلك اليوم تجمّعا للمعتصمين من شباب تطاوين وتقوم بإيقاف 11 فردا من بينهم الناطق الرسمي باسم الاعتصام طارق الحداد إضافة إلى تحطيم خيامهم. التدخّل الأمني مثّل الشرارة التي أشعلت حريق المواجهات في تطاوين للأيام الثلاثة اللاحقة، حيث غصّت شوارعها بالتعزيزات الأمنية وبالمحتجين من شباب تطاوين لتغرق المدينة طيلة يومين في الغاز المسيل للدموع ودخان الإطارات المحترقة التي أغلق بها المحتجون الشوارع.
حجم العنف الذي انفجر في المحافظة، دفع الحكومة إثر فشل الخيار الأمني وتتالي بيانات التنديد الصادرة عن عدد من الأحزاب والمنظمات، إلى إعلان نيتها عقد مجلس وزاري خاص بالجهة، وهو ما تمّ في غرّة شهر جويلية الجاري، بإشراف مباشر من رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، والذي انتهى إلى جملة من القرارات. أوّل هذه القرارات انتداب 500 عون قبل نهاية سنة 2020 موزعين بين مشروع محطة الضخ بتطاوين، مشروع محطة إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية برج بورقيبة ومشروع دعم قدرات السلطة المحلية لتوفير موارد بشرية لولاية تطاوين. كما تعهد المجلس برفع العراقيل المتعلقة بصندوق التنمية بالجهة وحل إشكالية الحصول على التمويل البنكي للمشاريع وتيسير الإجراءات ومرافقة المنتفعين، مع الإنطلاق فورا بالمشاريع الجاهزة والمتحصّلة على الموافقات والتي يناهز عددها الـ 60 مشروعا. وأخيرا، تمت دعوة البنك التونسي للتضامن إلى التسريع في تحويل اعتماد إضافي قدره 1.2 مليون دينار لفائدة جمعيات القروض الصغرى بالمحافظة.
هذه القرارات لم تلق قبولا من تنسيقية اعتصام الكامور التي أعلنت رفضها لمخرجات الإجتماع الوزاري مطالبة بالتطبيق الحرفي لبنود اتفاق الكامور، قبل أن يلتحق بها الإتحاد الجهوي للشغل بتطاوين ويتم الاتفاق بين الطرفين على إعلان إضراب عام مفتوح في مختلف المرافق العمومية عدا الحيوية منها، بداية من يوم الجمعة 03 جويلية 2020، وإضراب عام في قطاع النفط والخدمات وشركات الإنشاء وقطع الإنتاج بداية من يوم 04 جويلية الجاري.
اتفاق الكامور؛ عودة على مسار الإتفاق الهشّ
لم تكن الأحداث التي تشهدها محافظة تطاوين اليوم، سوى استكمال لمسار امتدّ على 3 سنوات. حيث بدأ كلّ شيء بمجموعة من التحركات الاحتجاجية غير المنظمة في منتصف شهر مارس 2017 للمطالبة بالحق في التشغيل وفي المساواة بين الجهات وتمكين المحافظة من نصيبها في الثروات النفطية. ليتطور هذا الحراك من مجرّد وقفات احتجاجية في مدينة تطاوين إلى تأسيس تنسيقية عُرفت لاحقا باسم تنسيقية اعتصام الكامور. وبداية من 23 أفريل 2017، حشدت التنسيقية الشباب المحتج من مختلف معتمديات المحافظة ونظّمت قوافل نحو منطقة الكامور، التي تمثّل نقطة العبور الرئيسيّة للنفط المستخرج من الآبار البتروليّة في عمق الصحراء، حيث تمّ نصب خيام الإعتصام هناك. حراك شكل تحديا من الحجم الثقيل أمام رئيس الحكومة آنذاك يوسف الشاهد، الذي قوبل رفقة الوفد الوزاري الذي رافقه بهتافات الطرد “Dégage” عندما زار المحافظة في 27 أفريل 2017. زيارة أعلن خلالها عن 64 قرارا خاصا بإحداث مشاريع وتحسين بنى تحتية وتشغيل عدد محدود من المعطّلين في الجهة ضمن آلية عقد الكرامة. إلا أن أهالي المحافظة اعتبروا قراراته تقزيما لمطالبهم وضحكا على الذقون.
وكردّ على قرارات رئيس الحكومة، قام المحتجون يوم 8 ماي 2017 بصياغة وثيقة تلخص مطالبهم التي كان أبرزها توفير 1500 موطن شغل للأهالي في الشركات البترولية المنتصبة في الجهة، إضافة إلى توظيف 3 ألاف مواطن في شركة البستنة والبيئة، وتخصيص 80 مليون دينار سنويا لفائدة لصندوق التنمية بالجهة.
وصول مسار المفاوضات بين الحكومة والمحتجين إلى طريق مسدودة، دفع رئيس الجمهورية الراحل، الباجي قائد السبسي إلى التدخل مباشرة لإنقاذ يوسف الشاهد الذي وجد نفسه محاصرا بتنامي الإحتجاجات المطلبية وتوتر العلاقة مع الإتحاد العام التونسي للشغل وتزايد الدعوات بإقالته وفريقه الوزاري. فيعلن خلال خطاب بتاريخ 10 ماي 2017، عن قراره بتكليف الجيش بحماية مصادر إنتاج الثروات الباطنيّة. الرئيس لم يكتف بهذا حينها، بل مضى ليهدّد المحتجّين بعواقب وخيمة في حال الدخول في مواجهة مع المؤسسة العسكريّة التي “تختلف في تعاملها مع الاحتجاجات عن المؤسّسة الأمنية” بحسب تعبيره آنذاك. خطاب السبسي لم يوقف الاحتجاجات، بل ساهم في تأجيجها لتتسارع الأحداث لاحقا باقتحام المعتصمين في منطقة الكامور محطة لضخ النفط واغلاق أحد المضخات في 20 ماي 2017، بعد انسحاب قوات الجيش منها والذي فضل عدم التصدي بالقوة للمحتجين.
لكن المنعرج الحاسم في مسار اعتصام الكامور، سيأتي بعد 48 ساعة، حين تدخّلت الوحدات الأمنية المتواجدة في المكان لفض الإعتصام بالقوة، وهو ما أدى إلى وفاة الشاب أنور السكرافي الذي كان ضمن المحتجين، دهسا بسيارة تابعة للحرس الوطني، وجرح العشرات. ردّة فعل الأهالي العنيفة والتي تمثلت في مهاجمة مراكز الحرس الوطني والأمن العمومي، إضافة إلى تصاعد المظاهرات المنددة بقمع اعتصام الكامور في مختلف محافظات البلاد وخصوصا في العاصمة تونس، أجبرت محافظ تطاوين على الاستقالة في 24 ماي 2017، وأرغمت الحكومة على الدخول في مفاوضات جديدة مع تنسيقية الاعتصام لتنتهي بخضوعها للمطالب التي رفعها المحتجون وامضاء اتفاق الكامور في 16 جوان 2017، يمثلها وزير التكوين المهني والتشغيل عماد الحمامي وبحضور الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي كضامن للاتفاق.
بعد ثلاث سنوات، وكما كان اتفاق الكامور المخرج لإنهاء ذلك التحرك الإحتجاجي الهائل في محافظة تطاوين، فإنه عاد ليكون الشرارة التي قد تنسف كل ذلك المسار وتشعل فصلا جديدا من المواجهات والدماء. فالإتفاق الذي أبرم منذ سنة 2017 ظل حبرا على ورق، ولم يتمّ تنفيذ سوى جزء صغير منه، حيث ماطلت حكومة الشاهد في إقرار أهم بنوده وهي الإنتدابات في الشركات النفطية وشركات البيئة والبستنة. مناورة لم تختلف في جوهرها عن سياسة متواصلة لمختلف الحكومات السابقة في معالجة الحراك الاجتماعي والتي تعتمد الهروب إلى الأمام وامتصاص الأزمات بالوعود والإتفاقيات الفضفاضة. أزمات يتلقفها لاحقوها من حكّام القصبة إرثا حارقا وشرخا يتسع في كلّ مرة على مستوى ثقة الناس بتعهدات الدولة ووعودها.