في أواخر شهر آذار الماضي، تسنّى للبنانيّين أن يعاينوا عن كثب فعل الإتجار بالبشر. فزهاء 75 امرأة وقعْنَ ضحايا شبكة استغلّتْ أحوالهن من ضعف وعوز، لتفرض عليهن شروط استغلال ليس لهن أيّ امكانية للتحرّر منها. ومجال الاستغلال هو مجال الدعارة، حيث سيتسنّى لأعداد كبيرة من الزبائن أن ينعموا بما وفرت هذه الشبكة لهم وأن يتواطؤوا في أحيان كثيرة لغضّ الطرف عن روابط الاستغلال السائدة في هذا المكان أو لإبقائها خفيّة. إلى حين الكشف عن هذه الشبكة، بدتْ مسألة الإتجار بالبشر وكأنها مسألةً نظرية وبأحسن الأحوال مسألة فرضتها ضغوط أميركية. وتبعاً لفضح مسألة الشبكة، بدا الجمهور اللبناني (ومعه أعيان في الطبقة السياسية) وكأنه صُدم بوقع المآسي التي تعرضت لها هؤلاء النساء من جراء الإتجار بهن. وهي صدمة تعبّر بالواقع عن جهل كبير، ليس فقط بالأنظمة الاجتماعية السائدة والتي تؤسس لممارسات الإتجار بالبشر أو على الأقل تسهلها. إنما أيضاً بالواقع المعيوش في ظل تكاثر حالات التهميش والاستغلال على أنواعها. وهذا ما أسميناه في مكان آخر ب “صناعة الهشاشة”[1]. ومن هذه الزاوية، يصحّ القول بأن الصدمة الحاصلة هي في عمقها صدمة من يتفاجأ برؤية ملامحه الحقيقية في المرآة. وأمام هذه الفضيحة- الصدمة، يجدر تسجيل ثلاث ملاحظات أساسية:
1- أنّ الجهل بأوضاع ضحايا الإتجار بالبشر بدا ثابتاً رغم صدور قانون بتجريمه منذ زهاء خمس سنوات. ولعل السبب الرئيسي لذلك هو أن القانون وُضع بنتيجة ضغوط أجنبية ودولية وجاء منقطعاً عن أي نقاش أو مطلب اجتماعي. وهذا ما نقرؤه بوضوح في الأسباب الموجبة للقانون وتصريح وزير العدل آنذاك شكيب قرطباوي خلال المناقشات النيابية. فنحن “نمر بظروف قاسية والعين علينا… وهذه (أي إقرار القانون) رسالة مهمة جداً للمجتمع الدولي”. بالمقابل، خلت مداخلتهتلك من أي إشارة إلى أوضاع ضحايا الإتجار بالبشر الحالية في لبنان. علاوةً على ذلك، أكد لنا أحد وزراء الحكومة التي تبنّت مشروع القانون في حديث خاص، أنّ معظمهم كانوا قانعين آنذاك أن هذا القانون حاجة لصدّ ضغوط دولية وأنه لن يشهد أي تطبيق على أرض الواقع. وبذلك، ورغم أهمية هذا القانون الذي أدخل للمرة الأولى تجريم روابط الاستغلال في قانون العقوبات، فإن وجه الضحية بقي محجوباً بالكامل. وقد بدت إذ ذاك ظروف إقرار هذا القانون مختلفة تماما عن ظروف إقرار قانون الحماية من العنف الأسري والتي تميزت بنقاش عام واسع. وكان من الطبيعي إذ ذاك أن يبقى تطبيق قانوننا هذا نادراً، فيما أن قانون العنف ضد المرأة أوجد مادة غنية للاجتهاد القضائي فور صدوره.
2- أنه لم تجرِ أي مراجعة للتشريعات الأخرى التي تؤسس للإتجار بالبشر أو تسهله، رغم توجيه انتقادات دولية قاسية للبنان في هذا الخصوص. وعليه، باتت المنظومة القانونية اللبنانية في حال تناقض: فمن جهة، قانون يجرم الاتجار بالبشر ومن جهة أخرى، مراسيم وتنظيمات إدارية تشرع الأبواب لانتهاجه وتشكل إلى حدّ كبير جزءاً من السياسات السياحية في لبنان. ولعلّ أهم هذه الحالات هو المرسوم الخاص بشروط دخول الفنانين والفنانات الأجانب إلى لبنان وإقامتهم فيه والصادر في 6-8-1962 معطوفاً على التعليمات الداخلية التي وضعتها المديرية العامة للأمن العام لتنظيم مهن الفنانات. وهذه التعليمات تستهدف بشكل خاص زهاء 3000 فنانة يدخلن إلى لبنان سنوياً ويعملن في super nightclubs. وكنا شرحنا في مكان آخر كيف أن هذه التعليمات آلت إلى إخضاع إقامة الفنانات للمراقبة لحظة فلحظة (ساعات الرقص، ساعات النوم، ساعات “النزهة” مع زبائن مفترضين) مع تقييد حريتهن بالكامل حتى بالتجول في طابق الفندق[2]. ومن المعلوم أن هؤلاء الفنانات يمكثن في لبنان لستة أشهر كحد أقصى، وهي الفترة الضرورية للتمكن من تسديد الديون الناتجة عن معاملات السفر والإقامة إلى ومن لبنان، الأمر الذي يبقيهم غالبا ضمن شبكة الاستغلال نفسها ويحتّم عليهن الانتقال معها للعمل في دولة أخرى[3].
ومن جهة ثانية، نجد نظام الكفالة وخاصة في مجال العمل المنزليّ[4]. ويتميز هذا النظام بربط علاقة العمل لدى شخص معيّن بشرعية الإقامة في لبنان. فهذا النظام لا يؤدي فقط إلى تسهيل الإتجار بالبشرولكن أيضا إلى إخفاء معالمه. ومرد ذلك هو أن العاملة في لبنان تصبح في وضع غير نظامي فور تركها العمل. وهذا الأمر يقلل بالواقع من خياراتها ويرغمها عملياً على الرضوخ لشروط العمل مهما قست، ومنها العمل القسري (وهو يشكّل أحد أشكال الاستغلال المكونة للإتجار بالبشر) وما يرافقه من حد لحريتها، وذلك حفاظا على حظها في البقاء في لبنان. والأدهى من ذلك هو أن نظام الكفالة غالبا ما يدفعها إلى إجراء مقايضة غير أخلاقية بين حقها بالعدالة كضحية اتجار بالبشر وامتياز الكفالة العائد لصاحب العمل من أجل البقاء في لبنان. وهذا ما يحصل حين تتنازل عن دعواها ضده في قضية عدم تسديد أجور أو استغلال جنسي أو ضرب مقابل تنازله عن حقه ككفيل لصاحب عمل جديد. وبالطبع، تحصل هذه التسوية تحت رقابة أجهزة أمنية وقضائية من دون أن يستتبع ذلك أي ردّ فعل منها.
3- القصور في عمل أجهزة التتبع الأمنية والقضائية. ويسجل هنا بداية أن اختصاص تتبع جرائم الإتجار بالبشر من قبل الضابطة العدلية محصور بجهاز أمنيّ واحد هو مكتب الإتجار بالبشر وحماية الآداب العامة. وهذا الأمر يسهّل طبعا ضبط قرارات الملاحقة مراعاةً لمصالح معينة أو بفعل الفساد. وهذا ما عبرت عنه تقارير عدة[5].وقد تكررذلك بعد افتضاح الشبكة الأخيرة، لا سيما بعدما تبيّن أن الفتيات قررن اللجوء بعد هربهن إلى حزب الله تفاديا لفساد الأجهزة الأمنية التي كانت انتهت عند هروبهن من قبل إلى إعادة تسليمهن إلى أصحاب الشبكة[6]. ولعلّ خير دليل على هذا القصور هو العدد القليل لملفات الإتجار بالبشر العالقة اليوم أمام محاكم جنايات بيروت وجبل لبنان، والذي لا يتجاوز 18 ملفاً، رغم انقضاء خمس سنوات على إصدار القانون. وتظهر ملفات قضايا الإتجار التي تسنّى لنا معاينتها في محاكم جنايات بيروت وجبل لبنان، حالات استغلال عائلي أو فردي (زوج يشغّل زوجته بالدعارة، أو أمّ تحثّ أبناءها على التسوّل…). أما ملاحقة الإتجار الجماعي كحال شبكات الدعارة، فتبقى جدّ استثنائيّة، حيث نجدها في حالة واحدة من أصل 13 حالة تمّت معاينتها. وإذا حصلت المداهمة، فإنها تنتهي إلى ملاحقة الضحايا بجرم الدّعارة أو الإقامة غير الشرعية، فيما يلوذ في الغالب مدير الشبكة بالفرار. وهذا يؤشر على ضعف الاستقصاء والتتبع لشبكات الاستغلال الكبرى.
يؤمل أن تؤول فظائع القضية الأخيرة إلى إعادة الضحية إلى واجهة هذا القانون، فتشكل محركاً لتفعيله. فكما شكلت قضية “رلى يعقوب” حافزاً أساسياً لإقرار قانون العنف ضد المرأة، يؤمل أن تشكل قضية النساء ال75 حافزاً لإخراج قانون الإتجار بالبشر من قمقمه.
نشر هذا المقال في العدد | 38 | نيسان/أبريل 2016، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
[1] نزار صاغية، صناعة الهشاشة، العدد 25، شباط 2015.
[2] نزار صاغية ونائلة جعجع، قراءة قانونية لوضعية عاملات الجنس إزاء مخاطر انتقال فيروس نقص المناعة، كانون الثاني 2009، بالتعاون مع جمعية العناية الصحية، غير منشور.
[4]عن هذا الأمر، رلى أبو مرشد وغادة جبور، لبنان، بلد الاستعباد المنزلي، من جديد تحت الأضواء، المفكرة القانونية، العدد السادس، تشرين الأول 2012.وهذا المقال هو تعليق على التقرير الصادر في 13-9-2012 عن المقررة الخاصة لدى الأمم المتحدة المعنية بأشكال الرق المعاصرة، غولنارا شاهينيان، في أعقاب زيارتها إلى لبنان.
[5] كريم نمور، “أساليب التعذيب ضد الفئات المستضعفة في تقرير هيومن رايتس ووتش: الهشاشة كمدخل للتعذيب، أي توصيات للحد من هذه الهشاشة؟”، منشور على الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية بتاريخ 5 آب 2013.
[6] رانيا حمزة، هذه قصة الفتيات اللواتي وقعن ضحايا شبكة للاتجار بالبشر في لبنان، منشور على الموقع الالكتروني للمفكرة القانونية بتاريخ 1 نيسان 2016.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.