الأمومة والعنصرية: عن صعود خطاب تحديد النّسل القسّري في تونس


2025-03-06    |   

الأمومة والعنصرية: عن صعود خطاب تحديد النّسل القسّري في تونس
رسم عثمان سلمي

هناك شغفُ تونسي خلال السنوات الأخيرة، ولاسيما منذ أن أعلن الرئيس قيس سعيد عن “وجود ترتيبٍ إجرامي تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس” بإعادة إنتاج مقولات اليمين المتطرف الأوروبي، وحتى إعادة تدوير نظريات موغلة في العنصرية والفاشية عن العرق ورُهاب الأجانب، ظهرت في سياقاتٍ استعمارية قبل عقودٍ طويلةٍ، وصارت مثاراً للسخرية حتى في البيئات التي نشأت وانتشرت فيها مثل الهوس الأمني بوجود المهاجرين بوصفهم في ذاتهم تهديداً للنظام العام، أو ذرائع الاستبدال في مواقع العمل بحجة أن هؤلاء المهاجرين الأجانب يفتكّون مواقع العمّال المحليين لأنهم يد عاملة رخيصة، وكذلك ذرائع رُهاب التقاليد كون بعضهم من دين مختلفٍ وثقافةٍ أقل شأنًا، أو ذرائع المحاذير الصحية، وهي حجّة تنتمي إلى معجم شديد البدائيّة في كره الأجانب من خلال تصويرهم على أنهم ناقلون للأمراض الخطيرة. 

وقد وصلنا اليوم إلى ذريعة جديدةٍ تتعلق بالأمومة، وهي إحدى الحجج الأساسية في الخطابات العنصرية الأوروبية منذ القرن التاسع عشر، والتي تعيد النائبة في مجلس النواب فاطمة المسدي الترويج لها، بزعم الخوف من أن تكاثر المهاجرين المفرط “يهدد مستقبلاً بتغيير التركيبة الاجتماعية للتونسيين”. وطالبت السلطات بإيجاد “حلّ جذريّ لإيقاف نزف الولادات في صفوف الأمهات المهاجرات غير النظاميات”. وأضافت: “ربما بعد عشرين عاماً نجد نائباً في مجلس نواب الشعب من أفريقيا جنوب الصحراء، وهذا الأمر مخطط يهدد المجتمع التونسي”. مشيرةً في الوقت نفسه إلى أن أعداد المهاجرين في البلاد “متضاربة وربما تصل إلى 60 ألف مهاجرٍ، وهذا الوضع غير طبيعي”. وفي مقطعٍ نشرته لاحقاً على الإنترنت، قدّمت النائبة التونسية توضيحات بشأن تصريحاتها، أضافات فيها بأن ما تعنيه بالحلّ الجذري لإيقاف نزف الولادات في صفوف الأمهات المهاجرات تعني “برامج تحديد النّسل”، كالتي كانت الدولة تقوم بها مع النساء التونسيات منذ الاستقلال.

العنصرية الإنجابية وإرثها القديم 

يَبدو خطاب المسدّي مُتماسِكاً للوهلة الأولى، سيما وأنها تدعمه بحججٍ تاريخية تُشير فيها إلى النساء المهاجرات لسن أقل من النساء التونسيات لكي يرفضن برامج تحديد النّسل التي تقترحها لإيقاف ما تسميه بـ”نزيف الولادات”. لكن منذ البداية تقع النائبة في فخ العنصرية معتبرةً أن أمومة غير التونسيات نزيف، وخطر “يهدد بتغيير التركيبة الاجتماعية للتونسيين”، رغم أن هذه الحجة يسقطها قولها بوجود حوالي 60 ألف مهاجرٍ في بلد تعداده حوالي عشرة ملايين نسمة، فضلاً عن أن قوانين الجنسية فيه لا تعترف بـ”حق الأرض”، الذي يمنح الجنسية للمواليد في البلاد. لكن الأساس العنصري لكل هذا الخطاب المغلف بذرائع السيادة الوطنية هو فكرة “الإكراه”، التي تنطلق منها فاطمة المسدي. من خلال المطالبة بـ “حلٍٍ جذري لإيقاف نزف الولادات”، أي فرض عمليات تحديد النسلّ على النساء المهاجرات غير النظاميات. ثم تحاول تبرير ذلك ببرامج تحديد النسل التي شجّعتها الدولة بعد الاستقلال، رغم أن هذه البرامج كانت قائمة على فكرة التشجيع وليس الإكراه، وكانت ذات توجه عامٍ لكل المواطنات وليس ضد فئة معينةً أو نساء من لون خاص أو عرقٍ محددّ.

يشير مفهوم “تحديد النسلّ القسّري” إلى فرض تدابير منع الحمل على الأفراد من دون موافقتهم الطوعية والواعية. ويشمل ذلك التعقيم القسري، والاستخدام الإجباري لوسائل منع الحمل، وإدارة عمليات الإجهاض القسري، وعمليات استئصال الرحم وقطع القناة المنوية للرجال عن طريق وسائل جراحية أو كيميائية. وكذلك السياسات التي تضغط على الأفراد للتحكم في الإنجاب ضد إرادتهم. وغالبًا ما يتمّ تبرير هذه الممارسات تحت ذريعة السيطرة على السكان، أو الاستقرار الاقتصادي، أو الصحة العامة. ورغم العواقب القانونية والأخلاقية إلا أن النهج القسري في تحديد النسلّ أو منعه أو تحسينه ظل سارياً في تاريخ العالم المعاصر والراهن. آخرها ما جرى في الولايات المتحدة الأمريكية في مركز احتجاز تابع لدائرة الهجرة والجمارك عندما تم فرض إجراءات التعقيم القسري على النساء المهاجرات في عام 2020. وهي حادثة تعكس نمطًا طويلًا من التعقيم القسري للسكان المهمشين، وخاصة السود واللاتينيين والشعوب الأصلية في الولايات المتحدة. وبدافع من حركة تحسين النسل التي كانت أفكارها شائعة في مطلع القرن العشرين، أصدرت السلطات الأمريكية الكثير من القوانين بدءًا من عام 1907 سمحت بتعقيم “الضعفاء”. وتمّ إجراء أكثر من 60 ألف عملية تعقيم قسرية في جميع أنحاء الولايات المتحدة بموجب هذه القوانين، حَظيت بمباركة المحكمة العليا. وقد ألهم النموذج الأمريكي النظام النازي في ألمانيا الذي مارس عمليات التعقيم القسري على نحو واسع ضد الأعراق التي يعتبرها أقل شأناً من الجنس الآري مثل اليهود والغجر، وكذلك ضد الفئات الضعيفة صحياً في المجتمع الألماني.

وتجد هذه السياسات العنصرية جذورها في حركات تحسين النسل، التي ازدهرت بين 1850 و1930، وروّجت لفكرة تحسين الجودة الوراثية للسكّان من خلال منع مجموعات معينة من الإنجاب، حيث ظهرت في تلك الفترة أسئلة الطبيعة والعرق والبيولوجيا والوراثة باعتبارها أسئلة مركزية من وجهة نظر تاريخ المعرفة والخطاب السياسي. وقد أعطت اكتشافات تشارلز داروين (1809-1882)، في منتصف القرن التاسع عشر، من خلال نظرية الانتقاء الطبيعي، دَفعاً لهذه الحركات. حيث امتدت منهجية العلوم الطبيعية إلى جميع فروع المعرفة الأخرى، فقد نقل هربرت سبنسر (1820-1903) الداروينية إلى المجال الاجتماعي، معتبراً المجتمع جزءاً من التطور الكوني والعضوي، زاعماً أن الصراع يُمثل النمط العالمي للعلاقة بين الكائن وبيئته، ومدافعاً عن فكرة أن الانتقاء الطبيعي يجب أن يلعب دورًا في المجتمع ويسمح بالقضاء على الأعضاء الأقل “لياقة”. وقد انتشر هذا الفكر على نطاق واسعٍ، بخاصة في أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية حيث أثرت التيارات الوضعية والداروينية والتطورية على جزء من النخب الفكرية منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، وشكلت الأساس الأيديولوجي للأحزاب الجديدة التي توصف بالليبرالية، والتي تولت السلطة في نهاية القرن التاسع عشر.

وفي التاريخ المعاصر، فرضت الصين سياسة الطفل الواحد بين 1979 و2015، في محاولة للحد من النمو السكاني، والتي تضمّنت عمليات إجهاض قسرية وتعقيم وغيرها من التدابير القسرية. حيث خضعت ملايين النساء لعمليات تعقيم إجبارية، وتعَرّض من خالفوا السياسة لعقوبات صارمة مثل الغرامات الباهظة وفقدان الوظائف. وعلى الرغم من تخفيف السياسة في عام 2015 لا تزال آثارها قائمة مثل الاختلالات بين الجنسين والأزمات الديموغرافية. كما تعرضت المجتمعات الأصلية في كندا والولايات المتحدة وأستراليا لتعقيم قسري وإجراءات أخرى لمنع الحمل. وكشفت التقارير عن أن نساء السكان الأصليين في الولايات المتحدة تعرّضن للتعقيم القسري في الستينيات والسبعينيات دون علمهن أو موافقتهن. وظهرت حالات مماثلة في أمريكا اللاتينية حيث استُهدفت النساء الأصليات في برامج الصحة الإنجابية التي تديرها الدولة، لاسيما في البيرو في عهد الشعبوي ألبرتو فوجوموري. وخلال فترة الطوارئ (1975-1977) أطلقت الحكومة الهندية حملة تعقيم جماعية استهدفت بشكل أساسي الفئات الفقيرة وذوي الطبقات الدنيا، حيث تمّ إجبار الرجال والنساء على الخضوع لعمليات تعقيم ممّا أدّى إلى وفاة الآلاف بسبب الإجراءات الطبية غير الآمنة. كما نفّذَت بعض الدول الاسكندنافية برامج تعقيم واسعة النطاق أثرت بشكل غير متناسب على الأشخاص ذوي الإعاقة والأمراض العقلية والأقليات العرقية.

القمع الإنجابي والآثار النفسية والصحية

تتراوح تأثيرات هذا “القمع الإنجابي” بحسب قوة الإكراه ونوعية الوسائل المستعمَلَة فيه، وكذلك طبيعة غاياته: أولاً يُشكل انتهاكاً لحرمة الجسد كحق أساسي يضمن للأفراد التحكم في خياراتهم الإنجابية. إذ يُجرد “تحديد النسلّ القسّري” الأفراد، وبخاصة النساء، من القدرة على اتخاذ قرارات تتعلق بمستقبلهم الإنجابي. ثانياً يكرس السياسات التمييزية والعنصرية القمعية، حيث تستهدف هذه البرامج مجموعات عرقية أو اجتماعية معينة، مما يعزز التمييز المنهجي. وغالبًا ما يتم تبرير هذه السياسات تحت ذريعة “مساعدة” الفئات المحرومة، بينما تهدف في الواقع إلى الحد من نموها والسيطرة عليها. فضلاً عن العواقب الصحية والنفسية، حيث يمكن أن تؤدي -بخاصة في حالات الاستخدام غير المناسب للوسائل- إلى مشاكل صحية واضطرابات هرمونية وآلام مزمنة، وكذلك العقم. كما يُعاني الضحايا من ضغوط نفسية شديدة، مثل الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة. علاوة على العواقب الاجتماعية تؤدي هذه الممارسة إلى فقدان الثقة تجاه المهنيين الطبيين وبرامج الحكومة، مما يؤدي إلى انخفاض المشاركة في خدمات الرعاية الصحية الأساسية.

 كما يمكن أن تقود هذه البرامج إلى مشاكل طويلة الأمد على المستوى القانوني، حيث تُواجه الدول والمنظمات التي تمارس منع الحمل القسري انتقادات قانونية وعالمية. ومن غير المستبعد أن تتعرض للمساءلة، فضلاً عن إمكانية مطالبة الضحايا ومنظمات حقوق الإنسان بالعدالة والتعويضات المالية. لذلك فإن فرضية انجراف مؤسسات الدولة وراء دعوات النائبة فاطمة المسدي، فضلاً عن تداعياته الأخلاقية، فإنه يمكن أن يكلّف صورة البلاد باهضاً ويؤدي بها إلى صراعات قانونية، سيما وأن الذرائع التي تزعمها النائبة غير متحققةٍ في الواقع، بسبب الحواجز التي يفرضها قانون الجنسية في تونس.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مساواة ، مقالات ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية ، تونس ، لا مساواة وتمييز وتهميش



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني