الأمن العام يحدّ من حرية تنقّل اللبنانيين: جواز السفر لم يعد حقّاً مكتسباً؟


2022-03-11    |   

الأمن العام يحدّ من حرية تنقّل اللبنانيين: جواز السفر لم يعد حقّاً مكتسباً؟

فرضت المديرية العامة للأمن العام في نهاية شهر شباط الماضي شروطاً جديدة على المواطنين الراغبين في إصدار جواز سفر جديد أو تجديد جوازهم القديم أدّت إلى حرمان فئة من اللبنانيين من إمكانية الحصول على جواز سفر صالح، كما بدت الشروط المفروضة “تعجيزية” إذ ربطت إصدار جواز السفر بإجراءات لا يمكن للمواطن استكمالها أصلاً من دون جواز سفر كوجود إقامة أو تأشيرة (فيزا)، الأمر الذي يهدد فرص المواطنين في العمل أو الدراسة في الخارج ويشعرهم و”كأنّهم رهائن محتجزون أو تحت الإقامة الجبرية” في مخالفة واضحة للدستور اللبناني الذي يضمن حرية التنقّل والذهاب والإياب حسب ما توضح المحامية غيدة فرنجية من “المفكّرة القانونية”. 

وكان سبق التعميم وبيوم واحد، قرار مجلس الوزراء بتعديل الرسوم المتوجبة على إصدار جواز السفر اللبناني اتخذته الحكومة في جلسة لمجلس الوزراء عقدت في 23 شباط 2022 برئاسة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وصدرت بموجب المرسوم رقم 8839 تاريخ 25/2/2022 القاضي بزيادة رسم إصدار جواز السفر من 300 ألف ليرة إلى 600 ألف ليرة (خمس سنوات) ومن 500 ألف ليرة إلى مليون و200 ألف ليرة (عشر سنوات).

الشروط تعجيزيّة: “إذا جواز السفر يحتاج إلى إقامة والإقامة تحتاج إلى جواز، فما الحلّ؟”   

وكانت المديرية العامة للأمن العام أصدرت في تاريخ ٢٠٢٢/٢/٢٤ تعميماً أعلنت فيه أنّها تستقبل طلبات المواطنين للحصول أو إبدال جوازات السفر في دائرة العلاقات العامة وكافة المراكز الإقليمية، المسجّلين على المنصة الإلكترونية لحجز موعد أو الذين لديهم مواعيد مسبقة، فقط في حال عدم حيازة مقدّم الطلب جواز سفر صالح أو في حال كانت صلاحية جواز سفره أقلّ من سنة ونصف لدى تقديم الطلب. إلّا أنّها لم تكتف بهذا الشرط بل أضافت ضرورة إستيفائه واحداً من ستة شروط، هي التالية: حيازة إقامة صالحة في الخارج، أو سمة (تأشيرة أو فيزا) صالحة ملصقة على جواز السفر، أو موعد سفارة مثبتاً ضمن شهر من تاريخ تقديم الطلب، متابعة الدراسة في الخارج على أن يتمّ ضم ما يثبت متابعته تحصيله العلمي في الخارج أو طلب تسجيل، متابعة علاج طبي في الخارج على أن يتمّ ضمّ التقارير اللازمة، أو قبول للعمل في الخارج على أن يتمّ ضمّ عقد عمل موقّع والمستندات اللازمة.

تواصلت “المفكرة” مع عدد من المواطنين الذين يحاولون الاستحصال على جواز سفر أو تجديد جوازهم القديم، للوقوف على الصعوبات والمشاكل التي واجهتهم أثناء ذلك، وقد رفضوا ذكر أسمائهم خوفاً من أي تداعيات.  

يقول أحد هؤلاء الذي يريد تجديد جواز سفره بهدف السفر إلى إحدى الدول الخليجية لتوقيع عقد عمل وإصدار إقامة فيها لـ “المفكرة” إنّ هذه الشروط “”تفتقد إلى أي نوع من المنطق”، شارحاً أنّ جواز سفره ينتهي بعد 7 أشهر ولإصدار إقامة لا بدّ من أن يكون الجواز صالحاً لمدة أقلها سنة كون الإقامة تصدر لسنة واحدة. “إذا جواز السفر يحتاج إلى إقامة والإقامة تحتاج إلى جواز، فما الحلّ؟” يسأل المواطن لافتاً إلى أنّه حتى لو سافر بجوازه الحالي وأحضر عقد العمل (وفق الشروط) فإنّ أقرب موعد على المنصة ليس قبل 5 أشهر، وبالتالي باتت فرصة عمله مهدّدة.

وما ينطبق على موضوع الإقامة ينطبق أيضاً على شرط حيازة تأشيرة سفر أو موعد من سفارة و، إذ تقول إحدى السيّدات لـ “المفكرة” إنّ جواز سفرها صالح لأقل من عام، وتريد أن تقدّم للحصول على تأشيرة أوروبيّة ولكن للحصول على التأشيرة أو طلب الموعد لا بدّ أن يكون جواز سفرها صالحاً لأكثر من عام، بخاصة إذا كانت تأمل بتأشيرة لمدة ستة أشهر، مضيفة أنّها تشعر بأنّ حريّتها مقيّدة وبأنّ الدولة تعاقبها.

وعلى الرغم من أنّ شروط الحصول على جواز السفر أخذت بعين الاعتبار موضوع الدراسة في الخارج إلّا أنّ هذا الأمر لا يعني أنّ الطلاب لا يواجهون مشكلة في إصدار الجواز، إذ تروي مواطنة لـ “المفكرة” أنّ ابنتها تريد أن تقدّم طلباً لإحدى الجامعات في الخارج والقبول يشترط وجود جواز سفر صالح لمدة عام، وفيما باب القبول في الجامعة التي تريد ابنتها التسجيل فيها يقفل في آذار، لا يوجد موعد على المنصة قبل شهر آب. وتضيف السيّدة أنّها اتصلت بالرقم 1717 المخصّص للأمن العام فجاءها الردّ بأنّهم لا يستطيعون فعل أي شيء في حالتها ونصحوها بتقديم شكوى، فما كان منها إلّا أنْ توجّهت بكتاب رسمي إلى إدارة الأمن العام تخبرهم بأنّ مستقبل ابنتها العلمي بخطر فجاءها الردّ بأنّ المديرية العامة ستتابع الموضوع، على أن يُحدد موعد لابنتها في الأيام القليلة المقبلة.

هذا وتأذّى من هذه الإجراءات الأشخاص الذين حجزوا مواعيد للاستحصال على جواز سفر قبل صدور التعميم وصادف موعدهم بعده، إذ يقول أحد المواطنين إنّه وبعد انتظاره قرابة شهرين ذهب إلى موعده للأمن العام حيث أخبره الموظفون أنّ الإجراءات تغيّرت في اليوم نفسه وأنّه لم يعد بإمكانه تقديم طلب للحصول على الجواز وفق الشروط القديمة، فقدّم شكوى بهذا الخصوص ولم يأته الردّ بعد.

لم تتطرّق الشروط الجديدة التي فرضها الأمن العام إلى إجراءات تجديد جوازات السفر للأشخاص الراغبين في السفر إلى بلدان لا يتطلّب دخولها تأشيرة سفر،  كالتجّار الذين يذهبون إلى تركيا بشكل روتيني بهدف إحضار بضائع، أو أولئك الذين يريدون زيارة عائلاتهم ولاسيّما أنّ عدداً من اللبنانيين استقرّوا في تركيا خلال العامين الماضيين نتيجة الأزمات الاقتصادية. إلّا أنّ إحدى المواطنات المعنيّات أخبرتنا بأنّها اتصلت بالأمن العام فأخبروها أنّه إذا أرادت السفر إلى أي بلد لا يتطلّب تأشيرة عليها فقط أن تحجز تذكرة سفر وإقامة في فندق غير قابلين للاسترداد.

وهنا يشير عدد من أصحاب شركات السفر إلى أنّ هذا الطلب أيضاً شبه تعجيزي لأنّه على سبيل المثال لا الحصر لا تتيح شركة “ميدل إيست” و”الخطوط الجويّة التركية” تذاكر سفر غير قابلة للاسترداد إلّا في موسم الشتاء وضمن عروض تشجيعية إذ يكون سعر هذا النوع من التذاكر أقل.

ويشير أحد أصحاب وكالات السفر إلى أنّه يمكن أن يعطي أي مكتب سفر تذكرة سفر وحجزاً فندقي غير قابلين للاسترداد وهميين، ويمكن أن يتحوّل الأمر إلى تجارة، مضيفاً في حديث مع “المفكرة” أنّه على سبيل المثال من يحتاج جواز سفر لتقديم طلب فيزا يمكن أن يلجأ إلى حجز تذكرة حقيقية إلى دولة لا تحتاج تأشيرة فيكلّفه الأمر 500 دولار على الأقل، ومن لا يستطيع دفع هذا المبلغ قد يلجأ إلى شراء تذكرة وهميّة بمبلغ 50 دولاراً.   

تبرير الأمن العام غير مقنّع: عقاب جماعي للمواطنين؟  

وأمام اعتراض الرأي العام لهذه الإجراءات الجديدة القاسية، أوضحت المديرية العامة للأمن العام في بيان صادر في 27 شباط أنّها عمدت إلى اتخاذ سلسلة إجراءات تنظيمية متعلّقة بإصدار جواز السفر لأنّها شهدت منذ أكثر من سنة ونصف السنة ازدياداً كبيراً في أعداد المواطنين الراغبين في الاستحصال على جوازات سفر لبنانية ما أدّى إلى تعذّر تسيير كافة طلبات المواطنين وتسليمهم جوازات السفر ضمن المهل المحددة وذلك لأسباب إدارية وتقنية ولوجستية.

وأوضحت المديرية العامة في بيانها  أنّه وعلى الرغم من سلسلة الإجراءات التنظيمية خلال تلك الفترة وصولاً إلى إطلاق المنصة الإلكترونية لحجز مواعيد محددة مسبقاً لتقديم طلبات جوازات السفر، استمرت شكاوى المواطنين عن تعذّر استحصالهم على جوازات سفر، هم بحاجة ملّحة إليها وأسبابهم محقة.

وأشارت المديرية العامة إلى أنّ أجرت دراسة للأرقام وتحليلها فتبيّن لها أنّ 69% من المواطنين استحصلت على جوازات سفر من دون استعمالها، وإن حوالي 20,000 مواطن أقدموا على تجديد جوازات سفرهم في العام 2021، وكانت صلاحية الجواز الذي تم تجديده تتخطى السنتين، فضلاً عن أنّ أعداداً كبيرة تفوق 15,000 جواز سفر قد تم إنجازها في مراكز الأمن العام ولم تُستلم من قبل أصحابها.

وشدّدت المديرية العامة على أنّها اتخذت الإجراءات الجديدة المتعلقة بشروط الاستحصال على جواز سفر وبصفتها سلطة إنفاذ القوانين وتضمن الحريات العامة للأفراد، من أجل المحافظة “على حرية تنقل المواطنين الراغبين بالسفر ومساعدتهم عبر إعطائهم الأفضلية للحصول على جوازات سفر أمام هذا الكمّ الكبير من الطلبات”.

إلّا أنّ كلّ هذه الأسباب لا تبرّر القيود التي وضعها الأمن العام بحسب المحامية غيدة فرنجية من “المفكّرة” كونه “لم يكتف بإعطاء الأفضلية للأشخاص الذين يعتبرهم الأكثر حاجة إلى جوازات السفر، بل حرم الآخرين من إمكانية تقديم طلبات للحصول على جوازات سفر بالمطلق”. وتؤكّد أنّ “الحرمان من جواز السفر يؤدّي بداية إلى منعنا من مغادرة لبنان والحدّ من حريّتنا في التنقّل وهي من الحريّات الدستورية الأساسية التي لا يجوز تقييدها إلّا وفقاً للقانون ولمقتضيات الضرورة القصوى وبشكل متناسب”. وتوضح أن إجراءات الحصول على جوازات السفر والمستندات الواجب تقديمها “تحدد بمرسوم يصدر عن مجلس الوزراء ولا يجير القانون للأمن العام تحديدها بشكل منفرد، فيشكّل هذا التعميم الجديد تجاوزا لحدود سلطته”. وتذكّر فرنجية في هذا الإطار بالأحكام الصادرة عن القضاء المستعجل في قضايا العمال الأجانب التي اعتبرت بوضوح كلي أنّ عدم الحصول على جواز سفر هو تقييد لحرية التنقل المكرّسة في العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية، منها قرار أصدره قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد معلوف في العام 2014 والذي اعتبر فيه أنّ احتفاظ أصحاب العمل بجوازات سفر عاملات المنازل يخلّ بحقوق أساسيّة مضمونة في الاتفاقيات الدوليّة التي أقرّها لبنان، وفي مقدمتها حريّة التنقّل.

كما تشدّد فرنجية أنّ “جواز السفر ليس فقط الوثيقة التي تمكّن الشخص من التنقّل ومغادرة لبنان، بل هي المستند الذي يثبت هويتنا تجاه السلطات الأجنبية فيؤدّي حرماننا من حيازة جواز سفر صالح إلى إعاقة ممارستنا للعديد من حقوقنا ونشاطاتنا أبعد من حريّة التنقّل”. وتتوقف في هذا الإطار أمام تبرير المديرية بأنّ 69% ممن أصدروا جوازات سفر لم يستخدموها، طارحة السؤال حول المنهجية المتبعة للوصول إلى هذا الرقم: “إذا استند هذا الرقم حصراً على حركة الدخول والخروج التي يملكها الأمن العام، يكون تجاهل أنّ لجواز السفر استخدامات أخرى غير السفر تتعلّق بإثبات هويتنا”. فهو شرط أساسي مثلاً لحجز موعد في سفارة لطلب تأشيرة، كما للتواصل مع أو لتقديم طلبات لدول أو مؤسسات أجنبية بهدف الدراسة أو العمل أو إبرام عقود أو للقيام بأيّ نشاط آخر، وهي استخدامات لا يمكن للأمن العام معرفتها أو رصدها، وتالياً  لا يستطيع الاستنتاج بأن الأشخاص الذين لم يغادروا لبنان لم يستخدموا جواز سفرهم. 

وتشير فرنجية أنّ استناد الأمن العام إلى عدد الذين لم يستلموا جوازاتهم المنجزة لتبرير حرمان آخرين من حقّه في طلب جوازات أعطى التعميم طابع العقوبة الجماعية حيث يحاسب مواطنين على ما ارتكبه مواطنون آخرون. واعتبرت أنّ “أي آلية لتنظيم إجراءات الحصول على جوازات السفر لا يمكنها أن تؤدّي إلى حرمان المواطنين من تقديم الطلبات بالمطلق”.

وفي حين يكرّر عدد من المواطنين الذين تواصلت معهم “المفكرة” أنّهم يحاولون إيجاد مخرج يمكّنهم من إصدار جواز سفر في إشارة إلى اللجوء إلى وسطاء (“الواسطة”)، تعتبر فرنجية أنّه من التداعيات السلبية لمثل هذه القرارات أنّها تفتح المجال أمام تكريس العلاقات الزبائنية، إذ عندما تحرم الدولة عبر مؤسساتها المواطن من حقّ أساسي يجب أن يكون ممنوحاً للجميع دون تمييز، فهي ترغمه إلى اللجوء إلى أساليب أخرى غير مؤسساتية، ومنها ما يعزز العلاقات الزبائنية ويضرب مفهوم الدولة والمساواة في الحقوق.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أجهزة أمنية ، مؤسسات عامة ، حرية التنقل ، الحق في الحياة ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني