يستمرّ إضراب الأطباء في سجني رومية وزحلة منذ الأوّل من شهر تمّوز حتى اليوم بعد أكثر من شهر، ما يزيد الوضع الصحي في السجون سوءًا. فقد تركت وزارة الداخليّة ومن خلفها الحكومة عبء التكاليف الصحيّة على عاتق أهالي السجناء، تذرّعًا بالأزمة الاقتصادية، فباتت صحّة السجين رهينة توفّر هذه الأموال لدى عائلته وإلّا النتيجة تكون الموت البطيء. وأضيف إلى ذلك إضراب الأطباء الّذين كانوا يتقاضون نحو مئتي دولار عن كل زيارة للسجن لمدّة 24 ساعة، وبات بدل زياراتهم اليوم لا يزيد عن 7 دولارات. وبالتالي وجد السجناء أنفسهم اليوم بلا أطباء وبلا طبابة لتتحوّل السجون إلى ما يشبه المقابر بدلًا من مراكز التأهيل. هذا رغم مساهمات المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي التي أحالت عددًا من الأطباء العسكريين إلى السجون لساعتين في اليوم والخدمات التي تقدّمها الجمعيّات غير الحكومية، ولكنها جميعها خدمات لا تصل إلى حد تغطية كافة الاحتياجات الطبية في السجون. وإذ تمتنع المستشفيات عن إدخال المرضى إلّا بعد دفع مبالغ مالية بالدولار الأميركي بعدما تجاوزت الديون المتراكمة لها في ذمّة الدولة اللبنانية مليار ونصف المليار دولار، يبرز تمييز بين سجين وآخر في الحق في الصحّة، فلا يحصل على الطبابة سوى من تتمكّن عائلته من توفير المال له.
والأخطر هي الصورة التي تقدّمها الأرقام عن ارتفاع حالات الوفيّات في السجون المركزية ومراكز الاحتجاز في قصور العدل ومخافر الشرطة، فبحسب تقرير لمنظمة العفو الدولية في حزيران 2023 بعنوان “بدلًا من أن يحظى بإعادة تأهيل، لقي حتفه”، “توفي 34 شخصًا في عام 2022 وحده مقارنة مع عام 2018 حيث توفي 18 شخصًا، و14 شخصًا عام 2015. واعتبرت المنظمة أنّ الزيادة الحادة في الوفيات يجب أن تكون جرس إنذار للحكومة اللبنانية بأنّ السجون اللبنانية بحاجة إلى إصلاح عاجل وهائل”. ولم تربط المنظمة زيادة أعداد الوفيّات بالأزمة الاقتصادية حصًرا، بل وجدت أيضًا حالات تقصير من جانب سلطات السجون والسلطات الصحية في تقديم الطبابة الوافية في الوقت المناسب لنزلاء السجن، بما في ذلك في الحالات الطارئة. وهذا ما نقله سجناء لـ “المفكرة القانونية” في إطار تحقيق من جزئين نشر في تشرين الأول العام الماضي إذ عزوا أسباب موت زملائهم إلى الإهمال الطبّي والتقصير في تأمين الاستشفاء والدواء وتجاهل استغاثة المرضى لنقلهم إلى المستشفيات.
طبيب واحد لآلاف السجناء
منذ مطلع شهر تمّوز يُنفذ الأطباء في سجني رومية (3516 سجينًا) وزحلة (610 سجناء) إضرابًا بهدف الضغط على الحكومة لتحسين بدلات زيارات السجون وشمولهم ضمن المساعدات التي أقرّتها الحكومة للمتعاقدين في القطاع العام. إضراب الأطباء ليس سوى نتيجة إهمال الدولة اللبنانيّة لأزمة السجون منذ زمن، فـ “الوضع كان مزريًا وازداد”، يقول رئيس جمعية عدل ورحمة الأب نجيب بعقليني. ولم تأت الأزمة الاقتصادية على السجون إلّا بكارثة على الصعيد الصحّي، وفي تقريرها أشارت منظمة العفو إلى أنّ ميزانيّة وزارة الداخليّة المخصصة لتقديم الرعاية الصحية إلى السجناء انخفضت قيمتها من 7.3 مليون دولار أميركي في 2019 إلى حوالي 628,000 دولار في 2022. هذا عدا عن أنّ “الدولة مدينة للمستشفيات الخاصة والعامة بملايين الدولارات من المستحقات غير المسدّدة – بما في ذلك لعلاج الأشخاص المسجونين”، بحسب التقرير.
ويُشير التقرير إلى أنه أُدخل 846 محتجزًا إلى المستشفيات في عام 2018، فيما لم ُيدخل إلّا 107 إلى المستشفيات في عام 2022 بحسب الأرقام التي أُطلعت عليها منظمة العفو الدولية، برغم الزيادة الطفيفة في عدد المحتجزين، إذ ارتفع العدد من 9,000 شخص في 2018 إلى 9500 في عام 2022.
قبل الإضراب، وصل الوضع في سجن رومية، إلى أن يتواجد طبيب واحد فقط في السجن المؤلّف من 4 مبانٍ، فيما يؤكد مصدر مطلع لـ “المفكرة” أنّ “عيادات الأسنان تفتقر للصيانة، إذ يوجد كرسي واحد فقط من أصل 5 بعدما تضرّرت خلال احتجاج نفذّه المساجين أواخر عام 2019 ولم يتم إصلاحها منذ حينه”. ويشرح المصدر أنّ الطبيب الذي يُناوب في السجن لا يتمكّن في يوم مناوبته من معاينة جميع المرضى بسبب كثافة الأعداد، فمثلًا يتمكّن طبيب الأسنان في اليوم الواحد من معاينة نحو 5 مرضى فقط في حين تفوق طلبات المرضى خمسين طلبًا في كلّ مبنى عند كلّ مناوبة. ويضطر الأطباء إلى إعطاء المرضى المضادات الحيوية والمسكّنات لعدم قدرتهم على إجراء العمليات الجراحية للأسنان، والأمر نفسه لكافة الحالات المرضية. إذ أبلغ عدد من السجناء والأهالي منظمة العفو الدولية أنّ الأطباء يعطون السجناء المرضى البنادول لكافة الحالات المرضية. والأمر شبيه بالنسبة لأطباء الصحّة العامّة الّذين قلّصوا زياراتهم، حتّى بات أحيانًا ينوب طبيب واحد للمباني الأربعة أو ممرض فقط في غياب الأطباء.
يتحدث نقيب الأطباء في بيروت د. يوسف بخّاش نيابة عن الأطباء المضربين مشيرًا إلى أنّ الطبيب المتعاقد مع وزارة الداخليّة في السجون كان يتقاضى 300 ألف ليرة لبنانية مقابل كل 24 ساعة عمل في السجن (أي 200 دولار أميركي قبل انهيار العملة)، لكنّ هذا المبلغ خسر نحو 90 بالمئة من قيمته. ويلفت بخّاش إلى أنّ وزارة الداخلية رفعت مؤخرًا هذا المبلغ إلى 600 ليرة لبنانيّة لكنّ قيمته لا تتجاوز 7 دولارات.
ويلفت بخّاش إلى أنّ “وزارة الداخليّة والبلديّات تُجدد العقد كلّ سنة مع الأطباء إلّا أنّها باتت مؤخرًا تجدده كلّ ثلاثة أشهر بسبب الأزمة الاقتصاديّة”. ويُضيف: “نسعى في نقابة الأطباء إلى التوصّل إلى حلّ مع وزارة الداخلية لتأمين حقوق الأطباء”.
ومن جهته يشرح الأب بعقليني أنّ مستشفى ضهر الباشق، وهو المستشفى الأقرب إلى سجن رومية، توقّف عن استقبال مرضى من السجون بسبب عدم التوصل إلى اتفاق بين إدارته وبين الوزارة حول تأمين الكلفة التشغيلية للقسم المخصص للسجناء الذي حدّثته اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي قبل عامين. ويلفت بعقليني إلى أنّ جمعيّة “عدل ورحمة” تعمل على تأمين المساعدات القانونية ممّا يُساهم في تخفيف الاكتظاظ، ولا سيّما ملفات تخفيض العقوبة والغرامات المتوجبة على الموقوفين لتتمكن من إطلاق سراحهم، وتمكنت الجمعيّة من تسيير ملفات نحو 100 موقوف هذا العام”.
في المقابل يبرز دور للجنة الدولية للصليب الأحمر في سجن رومية ولكنه يقتصر على الاستجابة لبعض الحالات الطارئة التي تستلزم دخول المرضى إلى المستشفيات. وهذا ما أكدته اللجنة في إجابة على أسئلة “المفكرة” مشيرةً إلى أنّه “يتمّ إحالة المحتجزين إلى المراكز الصحيّة التي تدعمها اللجنة الدولية لتلقي خدمات الولادة، قبل الولادة وبعدها (للمحتجزات الحوامل) والتدخلات الطبية الطارئة (لحالات الطوارئ المنقولة من السجون إلى مشاريع المستشفيات التابعة للجنة الدولية للصليب الأحمر) والأطراف الاصطناعية وتقويم العظام في إطار برنامج إعادة التأهيل البدني التابع للجنة الدولية للصليب الأحمر”.
ومنذ العام 2007 مع تعديل مرسوم السجون رقم 14310/1949 يزور خبراء اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي، المتخصّصون في مجالات متعددة منها الحماية والمياه والسكن والرعاية الصحية، السجون اللبنانيّة وأماكن الاحتجاز التابعة للسلطات المختلفة بهدف دعمها لتحسين ظروف ومعاملة المحتجزين. وبناءً على هذه الزيارات “تقوم اللجنة بتقييم الوضع عبر تنفيذ جولة في السجون والتحدث مع المحتجزين والتحدث إلى سلطات الاحتجاز، وتقوم بتبادل توصيات ونتائج التقييم مباشرة مع السلطات المعنية وبطريقة سرية”. وتعتبر اللجنة أنّ “الأنشطة المشتركة التي تقوم بها الوزارات المختلفة والإدارات العامة والهيئات العامة من أجل توفير حل مشترك للتحديات الصحية في السجون هي مفتاح الاستجابة الناجحة والمستدامة”.
حياة خضر معلّقة على 500 دولار
يقف الوضع الصحّي لـ خضر (31 عامًا) منذ نحو 7 أشهر على تأمين مبلغ 500 دولار أميركي لإجراء عملية في القولون بسبب معاناته من الانسداد جرّاء العوارض الجانبية لأدوية الأعصاب التي يأخذها كونه يعاني من الفصام منذ ولادته. تغصّ أُم خضر من خلف سمّاعة الهاتف وهي تتكلم عن الوضع الذي يعيشه ابنها في المبنى الاحترازي في سجن رومية، وهو المبنى المخصّص لاحتجاز ذوي الإعاقات الذهنية من السجناء، المعروف بـ “البيت الأزرق”. وهو مبنى لا يُشبه ما يدلّ عليه اسمه، فهو مجرّد جدران وقضبان يقيم فيها المحتجزون من دون أي متابعة طبية. خُضر الذي اكتشف والداه وهو في أعوامه الأولى أنّه يُعاني من اضطراب الفصام، لم يعش المستقبل الذي تبتغيه له والدته. دخل السجن قبل 36 شهرًا وأودع في المبنى الاحترازي في سجن رومية، ومنذ 7 أشهر بدأت مُعاناته مع انسداد في المصران جرّاء أدويّة الأعصاب، وفقًا لوالدته. ولا شيء يمنح أُم خضر الأمل هي وعائلات نزلاء السجون اللبنانية بعدما تركت وزارة الداخلية والبلديّات الهمّ الصحّي على عاتق العائلات بشكل غير قانوني، إذ تنص المواد من 52 إلى 55 من قانون تنظيم السجون اللبناني على أن وزارة الداخلية مسؤولة عن تقديم الرعاية الصحية لجميع الأشخاص الذين تحتجزهم. تسعى والدة خضر إلى إخلاء سبيل ابنها لعدم توفّر أدلة على ارتكابه الجرائم التي اتهم بها (تتحفّظ عن ذكرها) إضافة إلى وضعه الصحّي الذي لا يسمح بوجوده في السجن، وفقًا لتعبيرها. وتأمل أن يُخلى سبيله كي تؤمّن له الرعاية الطبية التي يحتاجها.
أمّا أم بسّام التي لديها ابن محتجز في سجن رومية منذ 7 سنوات، فتقول إنّ ابنها يُعاني من حساسية الربو ويتعرّض للاختناق بسبب الاكتظاظ وضيق منافذ الهواء في الغرف. وتشير إلى أنّه “منذ أسبوعين أُصيب بحروق في وجهه وعينه بالزيت حين كان يطبخ الطعام مع زملائه في السجن في ساعات الصباح الأولى”. وتُضيف في حديث مع “المفكرة القانونية”: “أخذه زملاؤه إلى الصيدلية لكنّها كانت مغلقة ولم يكن هناك طبيب”. وتتابع أنّه “مع أنّ الحروق بليغة إلّا أنّه لم تصدر موافقة لخروجه إلى المستشفى، فاكتفى بمرهم للحروق أمّنه له زملاؤه”. وتشعر أمّ بسّام بالقهر ممّا يعانيه ابنها بخاصّة مع تأخر محاكمته وكان القاضي قد أرجأ ملفه، في آخر جلسة حضرها، لستّة أشهر.
تقاعس السلطات يضع مصير السجناء على المحك
منذ بداية الأزمة لم تُظهر السلطات اللبنانية أي نوايا لإنقاذ السجون من ظلمتها، ففي السنوات الأربع الأخيرة رمت إدارة السجون مسؤولية تأمين الكلفة الصحيّة على عاتق عائلات النزلاء. وهذا تصرّف انتقدته منظمة العفو بحدّة قائلة إنّ “الأزمة الاقتصادية ليست عذرًا تسوقه سلطات السجن من أجل حرمان السجناء من الحصول على الأدوية، أو إلقاء كلفة الاستشفاء على كاهل عائلات السجناء، أو تأخير نقل السجناء إلى المستشفيات”. وطالبت منظمة العفو تفسير أسباب الوفيات، والتحقيق فيها من قبل القضاء بعدما سُجّل غياب أي تحقيق فيها.
وعليه، فإنّ ضعف القدرة المادية لأهالي نزلاء السجون له ثمنه، كما أنّ الاكتظاظ الناتج عن بطء المحاكمات والتعسّف في استخدام التوقيف الاحتياطي يُعدّان من الأسباب الرئيسيّة لتفاقم الأزمة. والشاب خضر بحسب ما ترويه والدته خير دليل على هذا الأمر، إذ تُشير الوالدة إلى أنّ ابنها زُجّ اسمه في ملف تعتبر أنّه بريئًا منه، لافتة إلى أنّها سلّمت جميع التقارير الطبيّة لمحكمة الجنايات في بعبدا التي تؤكد أنّ خضر غير مؤهّل ذهنيًا ليُحاكم”. وكان خضر قد مكث في مستشفى دير الصليب للأمراض العقلية والنفسية لنحو 9 أشهر للعلاج من الإدمان لكنّ العائلة فقدت قدرتها على دفع تكاليف بقائه فيها، فتم إخراجه. وتشكو أُم خضر من رفض طلبات إخلاء السبيل المتكررة التي قدّمتها للمحكمة، “لا وضعه الصحّي يحتمل البقاء في السجن ولا حتّى الأدلة تستحق الادعاء عليه بجناية الاتجار”، وفق ما تراه.
من جهتها، تلفت نائبة رئيس جمعية أهالي الموقوفين في السجون اللبنانية رائدة الصلح إلى أنّ “الوضع في السجون يتحوّل إلى الأسوأ خاصّة وأنّ الاستشفاء أصبح على عاتق أهالي السجناء الّذين ما عادوا قادرين على تأمين هذه التكاليف، فيما الوضع ينبئ بالخطر خاصّة في فصل الصيف حيث تنتشر الأمراض الجلدية المعديّة بين السجناء في ظل الاكتظاظ الذي تعانيه السجون”. وتُطالب الصلح بتسريع محاكمات الموقوفين، بخاصّة وأنّ جزءًا كبيرًا منهم قضى سنوات في السجن تتخطى العقوبة المتهم بها”. وتشرح الصلح أنّ تعطّل المحاكم في السنوات الأخيرة أدى إلى تأخير صدور الأحكام، حتّى في قضايا الموقوفين التي من المفترض أن تكون أولوية حتّى في الإضرابات.