في الثاني من أيار الفائت توفّي عمر، ابن المعاون أوّل والمتقاعد في قوى الأمن الداخلي، محمد حبلص، المصاب بضعف في عضلة القلب بعد معاناةٍ استمرت لأشهرٍ في المستشفيات اللبنانية، تكبّدت خلالها العائلة أموالاً طائلة بدل طبابة بعد أن توقّفت بعض المستشفات المتعاقدة مع القوى الأمنية، عن استقبال المرضى لعجز المديرية عن سداد مستحقاتها. كما لم تتجاوب الأخيرة مع مناشدات الوالد دفع تكاليف زراعة قلب للطفل عمر في الخارج، بحسب الوالد. هذا غيض من فيض ممّا يعانيه الجسم الأمني والعسكري جرّاء الانهيار في البلاد والذي توّج بأكثر من حالة انتحار بحسب تقارير إخبارية.
وفيما تشهد جميع قطاعات ومؤسّسات الدولة حالة من الانهيار نتيجة تأثير الأزمة الاقتصادية على موظفيها وتجهيزاتها، بينما ينفّذ موظفو القطاع العام والعاملون فيه اعتصامات واضرابات متكرّرة، تحافظ المؤسسة العسكرية ومديريات القوى الأمنية على انضباط إيقاع عناصرها وضبّاطها على الرغم من المعاناة التي يعيشونها، ولكن وراء هذا الانضباط معاناة و”موت سريري” على حد وصف أحد عناصر قوى الأمن الداخلي الذي “فرّ” من الخدمة وهاجر إلى البرازيل.
يخوض ضباط وعناصر المؤسسة العسكرية (عديدهم حوالي 70 ألفاً) والأسلاك العسكرية الأخرى: قوى الأمن الداخلي (26 ألفاً)، جهاز أمن الدولة (3000 عنصر) وقوى الأمن العام (نحو 8000 عنصر) معارك يومية ضدّ الجوع والمرض والعوَز، بعدما انهارت قيمة رواتبهم إلى ما يقارب 50 دولاراً شهرياً للعناصر وفقدوا قدرتهم الشرائية.
وعناصر الجيش والقوى الأمنية الأخرى جياع وعطاشى بكلّ ما للكلمة من معنى، يوفّرون حتى في الطعام الذي يتناولونه خلال أوقات الخدمة، وفي كمية الماء الذي عليهم شراءه من جيبهم الخاص. وصار مشهد العسكري الذي يشتري لوح بسكويت أو شوكولا بسعر زهيد مع قارورة ماء، ليسدّ جوعه ريثما يعود إلى منزله، اعتيادياً وموجعاً.
ومع توقّف قيادات الأجهزة عن قبول طلبات التسريح ومأذونيات السفر إلى الخارج، وتسليم العناصر الأوراق الثبوتية مقابل حصولهم على بطاقات عسكرية (في إجراء روتيني لدى التحاق أي مواطن بسلك عسكري)، أصبح هؤلاء أسرى مؤسّساتهم التي تحوّلت إلى “سجن طوعي”، أو مهاجرين غير شرعيين تركوا هويّاتهم تذكارات في أيادي قادتهم وهربوا في قوارب الموت.
ودفع الوضع المأساوي بالعديد من العناصر والضباط إلى الفرار من الخدمة، فبلغ عدد من تركوا جهاز قوى الأمن الداخلي من دون موافقة القيادة حوالي 580 عنصراً وأربعة ضباط، أما عدد من تركوا الجيش والأمن العام بالطريقة نفسها، فبالمئات.
وفي حين عمدت قيادة الجيش إلى اتباع سياسة التحفيز والمساعدات لعناصرها وضبّاطها لتحسين ظروفهم المعيشية (إعانات غذائية، مالية، وبدل مواصلات)، اقتصرت تقديمات مديريات القوى الأمنية الأخرى على بعض الأرز والبقوليات. واقتصر تدخّل الحكومة على صرف مبلغ مليون و400 ألف ليرة لبنانية لعناصر قوى الأمن الداخلي عشية الانتخابات. كذلك بدأت الحكومة، في حزيران الماضي، بصرف “المساعدة الاجتماعية”، التي أقرّتها في آذار الفائت وتأخّرت في صرفها، وبلغت قيمتها حوالي مليون و200 ألف ليرة في الشهر الواحد، إلاّ أنّها بحسب عنصر من قوى أمن الدولة، مساعدة لا تكفي نفقات بدل النقل. وأعرب العميد في الدرك صلاح جبران في حديث لـ”المفكرة القانونية” عن قلقه من “تزايد حالات الفرار في حال لم تتحسّن رواتب القوى الأمنية”.
وبخلاف المواطن العادي، يتحمّل العسكري وعناصر القوى الأمنية وزر الأزمة مرّتين، ففي منازلهم كما في أماكن خدمتهم لم تعد مقوّمات الصمود والأداء الوظيفي السليم، متوفّرة. إذ يعاني عناصر الجيش من نقص في الطعام ورداءة نوعيّته في الثكنات، ما يضطرّهم إلى شراء حاجياتهم من جيبهم الخاص، أما عناصر قوى الأمن الداخلي، وإضافة إلى تكاليف حاجيّاتهم اليومية في الخدمة، يضطرّون لاستخدام سياراتهم الخاصة للخروج إلى مهام خارجية لتسطير المحاضر وضبط المخالفات كون أكثر من 70% من آليات المؤسسة معطّلة، ذلك بحسب ما افاد العميد جبران “المفكرة”.
وأجمع من قابلتهم “المفكرة” من عناصر في الجيش والقوى الأمنية (الذين استعنّا بأسماء مستعارة لهم حفاظاً على خصوصيّتهم)، بأنّ الدافع الأساسي لاستمرارهم في الوظيفة هو الاستفادة ممّا تبقّى من ضمانات كالاستشفاء (رغم ضعف التقديمات والتغطية) والتعليم، التي تخفّف عن كاهل العناصر وعائلاتهم بعض الأعباء.
يحدث هذا على مرأى ومسمع من الحكومة المتقاعسة عن اتخاذ قرارات جذرية لتحسين ظروفهم، فكيف لهؤلاء أن يحموا وطناً ويكافحوا جريمة، وهم عاجزون عن حماية عائلاتهم من العوز؟
في هذا التحقيق سنسلّط الضوء على معاناة عناصر الجيش والقوى الأمنية (أمن داخلي وأمن عام وأمن دولة)، في ظلّ تدنّي قيمة رواتبهم والارتفاع الجنوني لأسعار كل شيء وكيف أثّرت على حياتهم عتمدونها فضلاً عن تجلّيات الأزمة عليهم من بينها “الفرار” من الخدمة، والتقديمات والمحفّزات المقدمة لهم إن وجدت وتأثير غيابها.
وفي حين أجابت قيادة الجيش وقوى الأمن الداخلي وأمن الدولة على أسئلة “المفكرة”، لم تستجب مديرية قوى الأمن العام لطلبنا الذي قدمناه منذ نحو شهر من اليوم.
“الفرار” من الخدمة أبرز تجلّيات الأزمة
محمد الذي ترك وظيفته في قوى الأمن الداخلي من دون موافقة القيادة بعد خدمةٍ استمرّت سبع سنوات، يروي من البرازيل بفخرٍ رحلة “فراره” التي لم تكن “يسيرة”. تقدّم محمد على مدى أشهرٍ بعدد من المأذونيات للسفر إلى الخارج، إلّا أنّها قوبلت بالرفض، كذلك رُفِض طلبه المقدّم للانقطاع عن الخدمة، فلم يبق أمامه “سوى باب التحايل”، كما يقول، فلجأ إلى استخدام طرق ملتوية لاستعادة جواز سفره وهويته المحجوزين لدى القيادة كما ينصّ القانون. تذرّع محمد بضرورة تسوية أوراق ابنه القاصر للسفر مع والدته وحاجته الملحّة إلى أوراقه الثبوتية الأصلية، اقتنعت القيادة بحجّته ومنحته جواز سفره. و”من الوظيفة إلى المطار”، غادر محمد لبنان تاركاً وراءه عائلة تحتاج إلى أموال للمعيشة لم تتمكّن مؤسسة القوى الأمنية والحكومة من توفيرها. محمد سعيد اليوم بما فعل، غير عابئ بتبعات فعلته، “ما تركولنا مجال نتنفّس”. يعتبر أنّه استعاد قدرته على التخطيط لمستقبلٍ أفضل، فالخدمة باتت بالنسبة له أشبه بالموت السريري على حد قوله، “حياتنا كلّها واقفة حتى الأكل والشرب عم نأمّنه بطلوع الروح”.
أما عباس الذي ترك الخدمة في الجيش اللبناني، من دون موافقة القيادة أيضاً، فبقي في لبنان ويعمل اليوم في بيع الفحم. يقول لـ”المفكرة” إنّ دخله اليومي من عمله الجديد يوازي راتبه الشهري في الجيش اللبناني، “كانت خدمتي بحلبا، إطلع من الجنوب وحطّ معاشي عالمواصلات”. خلال أزمة البنزين والانتظار على المحطات لساعاتٍ طويلة “طفح كيل” عباس، فقرّر التزام المنزل وعدم الالتحاق بالخدمة، “حكومتنا مش سائلة لا عن الجيش ولا عن حماية الوطن، ولا عن العسكري كيف عايش”. ولم يتّصل أحد بمحمد من قيادة قطعته إذ لم تنتهِ بعد مدة الشهر التي يعتبر بعدها فاراً من الجيش بحسب المادة 91 من قانون العقوبات العسكري الخاص بالجيش.
لا يكترث المصنّفون بـ “الفارّين” بالعقوبة المترتّبة على فعلتهم، هم يعتبرون أنّ العقوبة تكمن في البقاء في الخدمة وتدمير مستقبلهم. من جهةٍ ثانية تتساهل القيادة مع “الفارّين” كبادرة حسن نيّة لتشجيعهم على العودة إلى الخدمة، فبينما كانت عقوبة “الفار” من قوى الأمن الداخلي، بحسب القانون رقم 17 الخاص بتنظيم قوى الأمن الداخلي، هي السجن من شهر إلى شهرين قبل تحويله إلى المجلس التأديبي ليكون مصيره الطرد، تقتصر اليوم على أيامٍ في السجن العسكري أو كسر رتبة أو دفع مبلغ مالي زهيد، مع السماح له بالعودة إلى الوظيفة إذا أراد. أما المادة 90 من قانون العقوبات العسكري الخاص بالجيش، فتنصّ على أنّ “كل شخص ارتكب جريمة التخلّف المبيّنة في قانون التجنيد، يعاقب في زمن السلم بالسجن من شهر إلى سنة، وفي زمن الحرب بالسجن من سنتين إلى خمس سنوات”. اليوم تتساهل القيادة مع الذين يتخلّفون عن الالتحاق بالخدمة أو يتغيّبون لأيام عدة، بحيث يتمّ التواصل معهم لإبلاغهم إعفاءهم من العقوبة، وغالباً ما تصرف لهم مأذونيات طويلة نسبياً بهدف الراحة، أمّا “الفارّين” فتقتصر العقوبة على دفع مبلغ من المال من دون حبس، ويسلّم أغراضه العسكرية ليمضي في حال سبيله.
وكان عدد حالات ترك الخدمة من دون موافقة تزايد في العامين الماضيين ما دفع بقيادة الأجهزة الأمنية كافة إلى اتخاذ إجراءات عدّة منها: إلغاء المأذونيات للسفر خارج البلاد، إلغاء طلبات الانقطاع عن الخدمة، يحدث هذا وفق القانون رقم 144/2019 الذي يمنع التسريح، ومُدّد من خلاله عدد سنوات الخدمة الفعلية التي تتيح الحق في التقاعد من 18 سنة إلى 23 سنة.
وهذه الإجراءات دفعت العسكري رافي الذي يريد ترك الخدمة، إلى اعتبار نفسه في سجن اسمه “المؤسسة العسكرية”، فهو عاجز عن توفير لقمة العيش لأبنائه، عاجز عن السفر، عاجز عن ترك الخدمة حتى بالفرار، خصوصاً أنّ سنوات خدمته تخطّت 14 عاماً، “بفكر طيب شو؟ بكب كلّ عهالسنين وبفلّ بدون ما آخذ تعويض ومعاش تقاعدي؟”
لؤي (اسم مستعار، 22 عاماً)، وهو عنصر في أمن الدولة، يتمنّى أيضاً لو يستطيع الهرب، خصوصاً أنّه أمّن وظيفة في المكسيك، “أوّل ما قبلوني بالوظيفة انبسطت كثير حسّيت أمّنت مستقبلي، هلّق حاسس حالي آكل الضرب، مزروب ومعاشي ما بيكفيني أجرة طريق”.
ريا، وهي عنصر في قوى الأمن العام، متزوجة من لبناني يحمل الجنسية الألمانية، إلّا أنّها عاجزة هي الأخرى عن السفر وإنقاذ أولادها من تبعات الأزمة الاقتصادية على البلاد “يعني الدولة مش بس عم تظلم عناصرها وكمان عائلاتهم وتأمين مستقبل الأولاد”.
أمام هذا الواقع، يتخوّف العميد المتقاعد جبران، من تكرار حالات الفرار، التي ستجعل المؤسسة “هرمة” حيث الفئات العمرية كبيرة وليست شابة، ما سيؤثر سلباً على الأداء الوظيفي الذي يحتاج إلى الفئة الشابة الفتية، برأيه.
واعتبر وزير الداخلية السابق مروان شربل في اتصالٍ مع “المفكرة”، أنّ عنصر قوى الأمن الداخلي اليوم يدفع ثمن الانهيار من صحته وصحة عائلته ومعيشته اليومية، رافعاً الصوت بوجه السلطة الحاكمة لعدم تقديرها خطورة ما يمر به العناصر والضباط: “الأجهزة الأمنية هنّي الدولة، هيك بيصير فيهم؟”، وأضاف شربل أنه على الرغم من المساعي الحثيثة لوزير الداخلية إلّا أنّ المساعدات لعناصر قوى الأمن الداخلي ما زالت ضئيلة وغير متوفرة بخلاف مؤسسة الجيش “الدول الأجنبية بيحبّوا الجيش وما كثير بيهتموا بالقوى الأمنية”.
قيادة الجيش اعتبرت “أنّه في ظل الأزمة المستفحلة التي ترخي بثقلها على الوطن، ليس غريباً أن تزداد حالات الفرار، لكنّها تبقى محدودة من دون تأثير فعليّ على عديد الجيش”. وبحسب الجيش “فإنّ جزءاً كبيراً من الفارين قرّر العودة إلى المؤسّسة حين اكتشف التسرُّع والمجازفة غير المحسوبة التي ينطوي عليها قراره”.
وقلّل العميد في جهاز أمن الدولة جورج حرب، (وهو جهاز يتبع مباشرة للمجلس الأعلى للدفاع برئاسة رئيس الجمهورية)، في مقابلة مع “المفكرة” من حجم ظاهرة الفرار داخل الجهاز: “الفارّون بالعشرات فقط وأغلبهم هاجروا إلى الخارج، قبل توقيف منح المأذونيات”، ذلك لأنّ من سيبقى داخل البلاد، وفق قوله “سيتمّ إلقاء القبض عليه لا محالة، بخاصّة وأنّ عمل الجهاز قائم على الاستقصاء وجمع المعلومات، ومكافحة الفساد في المؤسسات التجارية والغذائية، إضافة إلى مؤازرة الوزارات الأساسية لقمع المخالفات”.
تداعيات الأزمة وأساليب الصمود
بيع الحصص الغذائية
“بطلوع الروح”، كما يقول بعض العسكريين، تحاول عائلات عناصر وضباط الجيش اللبناني تدبير أمورهم المعيشية.
تقول علا، زوجة أحد العسكريين في الجيش اللبناني لـ”المفكرة”، وهي أم لثلاثة أولاد، إنّ راتب زوجها لا يتجاوز مليون و400 ألف ليرة، في حين أنّ فواتير الكهرباء والمدرسة والأكل والشراب تفوق الراتب بأضعاف. تحاول علا تدبير أمور معيشتها وعائلتها من خلال بيع المساعدات الغذائية “المخفّضة الثمن” التي توفرها المؤسسة العسكرية لعناصرها، بسعر أغلى لتأمين السيولة، “الأعاشة منشتريها من الجيش ب 150 ألف منبيعها برا بشي 300 أو 400 ألف”. وتوضح أنّها تقوم بذلك لحاجتها إلى السيولة، ولولا الحصص الغذائية لمات أطفالها جوعاً، “أي وطن بدو يحمي العسكري، إذا مش قادر يحمي عائلته من البرد ومن الجوع”. فبالنسبة إلى علا “مش كل شي أكل ورز وعدس، بدنا مصاري لنشتري شي ثاني”، علماً أنّ معيشة علا وعائلتها اليوم تقتصر على الأساسيات، فلا رفاهية في الأكل ولا في شراء الملابس أو الألعاب، حتى التلفاز باتوا محرومين منه بعد تخلّيهم عن اشتراك المولد الكهربائي.
تغيير جذري في العادات المعيشية والحياتية
يقول بلال، العسكري في الجيش اللبناني، لـ”المفكرة” إنّ راتبه لا يكفي أجرة مواصلات وحفاضات لابنته الصغيرة، “أرخص كيس حفاضات سعره 150 ألف ليرة ، بدي كيسين بالأسبوع”. من جهةٍ ثانيةٍ لم يعد بلال قادراً على شراء الحليب “بنتي أوقات بتبكي بدها حليب ما قادر جبلها، عم نسّيها الحليب، عم طعميها مثلنا عادي”. بلال الذي التحق بالخدمة قبل 11عاماً، بات أسير المؤسسة لضمان الحصول على تعويضه التقاعدي “ما قادر أهرب بدي اتحمّل كرمال معاشي التقاعدي، حرام 11 سنة يروحوا خسارة”.
من جهتها، باتت رقيّة تعمل في ما تسميه “وظيفتين” الأولى “أخدم في الأمن العام، فيما أعود لتنظيف المنزل والغسيل والطبخ والاهتمام بكل تفاصيل الأولاد. فقد اضطرّت رقية (الأم لثلاثة أولاد) وهي رقيب أوّل في قوى الأمن العام إلى فسخ عقد عمل عاملة المنزل التي كانت تساعدها في الأعمال المنزلية، والاهتمام بأطفالها خلال غيابها في الدوام. اليوم انقلبت حياتي رأساً على عقب “بترك أولادي عند أهلي”، وبات العبء عليها مضاعفاً “وبس إرجع عالبيت بدي نضّف وأطبخ وأغسل واهتم بالأولاد، ما بيخلص نهاري قبل الساعة عشرة المسا، بحس رح موت من التعب”.
حسن، وهو رتيب في الدرك، يقول إنّه بسبب الأزمة الاقتصادية “انهارت كلّ حياته فجأة”. فبعد أن كان هانئ البال، مؤمّناً من ناحية الطبابة وتعليم أولاده، أصبح راتبه لا يكفي أجرة ذهابه وإيابه إلى الوظيفة، وأصبحت المديرية تغطّي بدل التعليم بنسبة لا تتجاوز 50% بعد أن كانت تغطّي 70%. وأفاد مصدر في قوى الأمن الداخلي أنّ بدل التعليم سيُدفع “كمبلغ مقطوع” في السنة، في حين أنّ أجرة نقل الأولاد إلى المدرسة تفوق راتبه الشهري. حسن وجد الحل في الانتقال للعيش في منزل ذويه لتوفير الفواتير خصوصاً فاتورة اشتراك الكهرباء، بالإضافة إلى الأكل والشرب، وعاد لمساعدة والده في الاهتمام بقطيع المواشي: “صرت روح إرعى الغنمات مثل لما كنت صغير، رجّعونا 30 سنة لورا”.
يروي محمود، وهو عنصر في المؤسسة العسكرية، لـ”المفكرة أنّه بسبب تدنّي قيمة راتبه اضطر مؤخراً إلى فسخ خطوبته، “تركت خطيبتي، لأن ما بدي أظلمها، أنا لحالي ما قادر عيش، كيف بدي إعمل عيلة”. راتب محمود لا يتجاوز مليون و400 ألف ليرة، يُقتطع منه تلقائياً مبلغ 700 ألف ليرة كقرض شخصي، ويدفع الـ 700 ألف المتبقية كلفة مواصلات وطعام ومياه في الخدمة. يفسّر محمود حال التخبّط والضياع الذي يعيشه عناصر المؤسسة العسكرية، “نحن مكبّلون مش قادرين نترك منقول وين في شغل بالبلد، بنفس الوقت معاشاتنا ما عم تكفّي لشي”، ليؤكد أنّ ما يدفعه للاستمرار في الخدمة هو الضمان الطبّي العسكري الذي ما زالت المؤسسة العسكرية تؤمّنه “نحن بعدنا بالخدمة بس طمعاً بالتقديمات الصحية وإلّا ما بتلاقي عسكري بالجيش”.
العمل الإضافي: بحصة تسند خابية أحياناً وأحياناً لا تسدّ رمقاً
يضيف محمود الذي يعمل كممرض في المستشفى العسكري، أنّ قرار قيادة الجيش بالسماح للعناصر بالعمل خارج دوام الخدمة، غير مجد، ففي ظل دوامات خدمة متغيّرة وغير ثابتة، لا يمكن للعسكري أن يجد وظيفة ثانية، “أنا بشتغل ممرض، خدمتي كلّ أسبوع بتتغير، ما حدا بيوظّفني بدوام مش محدد وقادر التزم فيه سلفاً”. ويكتفي محمود بمساعدة والده في مصلحته في تقطيع الحطب في إحدى قرى البقاع الشمالي. ويقول إنّ رحلة ذهابه وإيابه إلى الخدمة توجب عليه أن يستقلّ ثلاث حافلات للجيش اللبناني، وغالباً ما ينتظر وقتاً طويلاً عدا عن أنّها تمرّ مزدحمة ما يضطرّه إلى أن يبقى واقفاً في الحافلة من بيروت إلى بعلبك، “أنا من بيروت على بعلبك بطلع بي 3 باصات للجيش بنزل من واحد لواحد، بضلّ واقف كلّ الطريق لأوصل على بعلبك وإلّا بدي أدفع 200 ألف”. وطالما أنّ الحافلات تعبر الطرقات الرئيسية يبقى على العسكري استقلال سيارة أجرة للوصول إلى قريته بتكلفة لا تقلّ عن 30 ألف ليرة.
محمد وهو عنصر في قوى الأمن العام على العكس، تمكّن من إيجاد وظيفة بدوام جزئي، حيث يعمل في أيام مأذونيّته في محل عصير من الساعة السادسة حتى الساعة العاشرة ليلاً، بأجرة 250 ألف ليرة لبنانية يومياً، وهو مبلغ على قلّته إلاّ أنّه يسد بعضاً من التكاليف المتراكمة عليه.
أما ويليام (40 عاماً) الذي لم يتمكّن من إيجاد وظيفة بدوام جزئي، وجد الحل في استعارة سيارة أجرة أحد أقاربه، والعمل عليها ليلاً، “نحن عسكر بدل ما نكون عم نرتاح بأوقات العطل وجاهزين صرنا بدنا نشتغل 100 شغلة لنستر عيلنا”.
وليس العناصر وحدهم من بدأوا يلجأون إلى أعمال إضافي، بل أهلهم أيضاً والذين كانوا يتّكلون عليهم في “كبرتهم”. فيقول المواطن السبعيني بلال، وهو والد أحد عناصر قوى الأمن العام، إنّه عاد للعمل على سيارة الأجرة لإعالة عائلة ابنه. على مقدّمة سيارته يتّكئ بلال، أبو رامي، يمسح عرقه بمنشفة، ينتظر زبائن عابرين، يفضّل المكوث في نقطة ثابتة على التجوال في الطريق للعثور على راكب. يقول لـ”المفكرة” إن لديه ثلاثة أحفاد، ووالدهم عنصر في الأمن العام، ولا يتجاوز راتبه المليوني ليرة لبنانية، لا تكفي ثمن حليب لولد واحد “شو بدنا نعمل الدولة ذلّتنا وذلّت أولادنا، في أولاد بدها حليب وحفاضات، إبني ما عم بيلحّق”.
وبلغ اليأس بعدنان، وهو عنصر في الأمن العام، إلى البحث في القمامة عن أشياء صالحة للبيع مثل البلاستيك أو الكرتون، وحتى هذا العمل مردوده ضئيل في ظلّ غلاء سعر البنزين، “يعني بتعب بتعب كل النهار ليزيد عندي شي 50 ألف أو 100 ألف إن كتّرت”.
يرى العميد جبران مكمن الخطورة في السماح للعسكرين وعناصر قوى الأمن الداخلي بالعمل في مصالح أخرى في أنّه يؤثر على “هيبة الدولة”: “هيبة الدولة عم تروح”. ويعتبر أنّ القرار هو كسر لمعنويات العسكري. لكنه في الوقت نفسه يؤكد على ضرورة تسوية أوضاع العسكر وإلّا من سيتجرأ على ردع الفلتان الأمني؟ “كيف العسكري بدّو يعرّض حياته للخطر وهو جوعان، وعارف إنّه ما في ضمانات لعائلته من بعده إذا استشهد”.
يوضح العميد جورج حرب في جهاز أمن الدولة أنّ التحفيزات والمساعدات، اقتصرت على حصص غذائية مقابل بدلات مالية زهيدة. يقول إنّه تمّ تعديل نظام الخدمة لتصبح يومين إلى ثلاثة أيام متتالية في الأسبوع لتوفير تكاليف المواصلات. كذلك سمحوا للعناصر بالعمل في مهن محدّدة كالزراعة، إضافة إلى الزيادة التي أقرّتها الحكومة على بدل النقل وهي بقيمة مليون ليرة شهرياً، لكنّها لا تصرف شهرياً، بل تتفاوت بحسب الميزانية التي تصرف للجهاز كل شهر”. من جهةٍ ثانية يؤكد حرب أنّ الميزانية الضئيلة أثرت سلباً على عمل الجهاز الذي كان يستعين بمخبرين من عامّة الشعب، كان يتمّ تجنيدهم مقابل بدلات مالية شهرية (غير ثابتة)، اليوم تضاءل عمل هؤلاء بسبب قلّة المردود ،”المخبر بقول ليه بدي انقل معلومات وتعّب حالي ومش طالعلي شي”.
مساعدات ومحفّزات للجيش والقوى الأمنية تتفرّج
فقد سعت قيادة الجيش والأجهزة الأمنية منذ بدء الأزمة إلى اتخاذ عدد من الإجراءات، وتقديم مساعدات ومحفزات من شأنها التخفيف عن كاهل عناصرها.
ورداً على أسئلة “المفكرة” أفادت قيادة الجيش أنّ قائد الجيش العماد جوزف عون شخصيّاً شدّد في أكثر من مناسبةٍ على ضرورة تصحيح أجور العسكريّين عن طريق زيادة رواتبهم بما يكفل لهم مستوى معيشيّاً لائقاً، بعدما تآكلت قيمة رواتبهم الشرائية نتيجة انهيار سعر صرف الليرة بالتزامن مع الارتفاع الهائل في الأسعار.
ومع أنّ الحكومة أقرّت زيادةً على رواتب موظفي القطاع العام مؤخّراً، لكن هذه الزيادة لا تُعتبر حلّاً جذريّاً ولا تسدّ إلّا جزءاً يسيراً من حاجات العسكريّين الإجماليّة. لذا تستمر القيادة في التواصل مع المعنيّين للدفع باتجاه إقرار زيادة عادلة وكافية على الرواتب.
وأوضح عنصر في الجيش اللبناني لـ”المفكرة” أنّهم خلال العام 2022 تقاضوا مساعدة بقيمة 100 دولار على دفعتين. وعلى غرار عناصر القوى الأمنية بدأوا في حزيران بتقاضي المساعدة الاجتماعية التي أقرّتها من الحكومة.
وأشارت قيادة الجيش في جوابها إلى أنّ المساعدات الممنوحة إلى عناصره لمساعدتهم في مواجهة الظروف الاقتصاديّة هي ظرفيّة بالإجمال، وتَعتمد على مدى توافر الموارد اللازمة.
وتنقسم المساعدات إلى نوعين: عينيّة ومادية. تشمل العينية مواد غذائية أساسية بصورة دورية، وتُوَزَّع على العسكريّين إمّا مجّاناً أو بكلفة مخفّضة. وتأتي على شكل هبات من دول صديقة وبعض الجهات اللبنانية الداعمة للجيش.
أما المساعدات المادية، فقد دفعت مرّتين، وهي من المساعدات المالية التي قدّمها ويقدمها داعمون للجيش، على أمل توفير مساعدات أخرى فور الحصول عليها.
ومن ضمن التسهيلات، أفادت قيادة الجيش أنّها عدّلت “خدمة العسكريّين وانتشار الوحدات على نحوٍ يخفّف كلفة الانتقالات وحجم الموارد المستهلَكة قدر الإمكان، من دون أن يمسّ بالجهوزية التي تبقى في أعلى مستوياتها خلال الظروف الاستثنائية التي تشهدها البلاد”. وعلمت “المفكرة” من خلال عدد من المقابلات أنّه تمّ تعديل أيام الخدمة العسكرية لتصبح ثلاثة أيام أو يومين مقابل خمسة أو سبعة أيام إجازة، ممّا يوفّر على العناصر العسكرية والضباط الكثير من تكاليف المواصلات والأكل والشرب وغيرها، ويسهّل عليهم إمكانية إيجاد مصدر رزق جديد، بعدما سمحت قيادة الجيش لعناصرها العمل في مهنٍ أخرى خلال الإجازات.
كذلك وضعت القيادة خطة نقل جديدة تتضمن زيادة المسالك وعدد الحافلات العسكرية التي تنقل العناصر بين مناطق سكنهم ومراكز عملهم، ذهاباً وإياباً. في هذا السياق، تمّ شراء 60 حافلة كبيرة و98 حافلة صغيرة عن طريق برنامج المساعدات الأميركية، على أمل تخفيف فترة انتظار العناصر على الطرقات وتخفيف الازدحام في الحافلات.
وإذا كانت قيادة الجيش قادرة على توفير الدعم لعناصرها، إلّا أنّ مديريات القوى الأمنية لم تتمكّن من مساعدة عناصرها سوى باليسير، واقتصرت على توزيع الأرز لمرة واحدة والسكر لمرة واحدة، بالإضافة إلى توزيع مبلغ مليون و400 ألف ليرة على دفعتين، حتى كلفة المواصلات ذهاباً وإياباً إلى الخدمة لا تزال على عاتق العناصر الخاصة. وتمثّل التسهيل الوحيد التي تمكّنت القوى الأمنية من إحرازه في تخفيف أيام العمل والتساهل في الحضور. وعمدت مديرية جهاز أمن الدولة إلى توقيع اتفاقيات تعاون مع عدد من الجامعات الخاصة، على نحو تقديم حسومات على أقساط أبناء عناصرها.
الطبابة مأزومة لدى الجيش والقوى الأمنية
من ناحية تقديمات الطبابة والاستشفاء، لا تزال قيادة الجيش قادرة على تأمين التغطية الصحية لعناصرها وضباطها بنسبة كبيرة. ويعاني العسكري مثله مثل جميع اللبنانيين من نقص الأدوية، حيث تُفقد أصناف عدة من صيدلية المستشفى العسكري مجاناً أو من الصيدلية البديلة بسعر مخفّض، وما لا يتم إيجاده يمكن شراءه من صيدليات “مدنية” وإحضار الفاتورة لدفع المستحقات. كذلك يعاني العناصر في الجيش من بُعد المسافة بين أماكن سكنهم والمراكز الطبية التابعة للجيش. يقول أحد العناصر لـ “المفكرة” “إذا بدي شي دواء من الصيدلية بدي روح على صيدلية الجيش وأوقات بيطلع مش موجود بيحولونا على الصيدليات المدنية وبضل عم بدفع أجرة طرقات”. عنصر آخر قال “بطرابلس القبة في 5 أدوية فقط في صيدلية الجيش، بروح الصبح بقعد كل النهار ناطر دوري”.
من جهةٍ ثانيةٍ يضطرّ بعض المرضى الذين يعالجون في المستشفيات الخاصة إلى دفع فروقات، كبدل مستلزمات طبية تتقاضى المستشفيات سعرها وفق دولار المنصة، وفي كثير من الأحيان يكون المبلغ كبيراً جداً.
ويقصد عدد من عائلات العسكر مراكز الرعاية الصحية الأوّلية المخصّصة للمدنيين، كونها منتشرة في كثير من المناطق اللبنانية ما يسهّل الوصول إليها، كما تتوفّر بعض أصناف الأدوية بكلفة قليلة. تقول فداء، زوجة أحد العسكريين، إنّها باتت تفضّل الذهاب إلى مركز الرعاية الصحية الأوّلية القريب من منزلها لتحصل على أدويتها وأحياناً علاجها، “ما حدا بيسألني إذا مدنية أو عسكرية، بتعالج وبجيب أدوية بدل ما إدفع مواصلات لأوصل ع المستشفى العسكري”.
وتقرّ قيادة الجيش في ردّها على كتاب “المفكرة” “بتأثّر الخدمات الأساسيّة لدى المؤسسة العسكرية وعلى رأسها الطبابة التي ترتبط بالعائلات، لأنّ أفراد أُسَرِهم يحتاجون إلى الرعاية الصحيّة الدائمة”. من هنا “اضطرّت القيادة إلى التقشُّفٍ في هاتين الخدمتين، وهي تعمل على تعويض النقص بفضل حُسْن الإدارة والشفافية. مع إبقاء الجهود منصبّةً على ألّا يؤثّر التقشُّف في جودة الخدمات الطبيّة التي تَمَكنّت القيادة من الحفاظ عليها إلى حدّ بعيدٍ”، وفق رد قيادة الجيش.
أما عناصر القوى الأمنية فقد تدهورت التأمينات الصحية التي لطالما كانت متوفّرة لديهم إلى حدٍّ كبير، وأصبحوا محرومين من التأمين الصحي اللائق، حيث ترفض المستشفيات التي تتعاقد معها مؤسسة قوى الأمن الداخلي والأمن العام استقبال المرضى، ما يضطر العناصر إلى دفع بدل استشفاء من جيبهم الخاص.
ويعتبرنقيب أصحاب المستشفيات الخاصة، سليمان هارون، أنّه بخلاف مؤسسة الجيش التي تسدّد فواتير طبابتها بشكلٍ دوري، تواجه المستشفيات المتعاقدة مع قوى الأمن الداخلي صعوبات في تحصيل أموالها العالقة منذ أكثر من سنة، حيث تتراكم الفواتير المتوجبة على المديرية، إضافة إلى سدادها على سعر صرف أدنى من سعر المنصة، من هنا فسخت الكثير من المستشفيات عقودها مع مؤسسات القوى الأمنية، ومن بقي متعاقداً فيتقاضى فروقات من المرضى.
يشير حسن وهو عنصر في الأمن الداخلي لـ”المفكرة”، إلى أنّه، في ظل الأزمة الراهنة، بات على العناصر والضباط دفع فواتير المستشفيات بحسب فرق سعر الصرف”، فيما معظم أصناف الأدوية مفقودة من المراكز الطبية التابعة لقوى الأمن الداخلي، وفي حال شرائها من الخارج، تغطي المديرية جزءاً قليلاً منها، “أنا أولادي بس آخذهم عند الدكتور بقدم فواتير بقيمة مليون بيرجعلي منهم 200 ألف”.
ويروي وزير الداخلية الأسبق مروان شربل، أن أحد العناصر اضطر لدفع مبلغ 180 مليون للمستشفى بدل طبابة بعدما رفضت القوى الأمنية تغطية كامل النفقات.
الحال في مراكز الخدمة والثكنات العسكرية بالويل
طاول تأثير الأزمة الاقتصادية حتى التقديمات واللوجستيات في الثكنات ومراكز الوظيفة، وقد ذكرت الوكالة الوطنية للإعلام أنّه “بسبب الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعانيها لبنان، ألغت المؤسسة العسكرية، التي تعاني من الأوضاع الاقتصادية الصعبة نفسها، اللحم كلياً من الوجبات التي تُقدم للعسكريين أثناء وجودهم في الخدمة”. يقول خالد (عسكري) إنّه لا يمكن تحمّل تناول طعام الجيش الذي بات خليطاً من أصناف غير متجانسة بلا لحوم أو دجاج لا طعم لها ولا رائحة، “عم يعفّسولنا فاصوليا مع برغل، شو ما كان بيسلقولنا إياه وبدنا ناكل”. أما بالنسبة للمعلبات فقد تضاءل عددها كثيراً، فقبل الأزمة كانت المعلبات من أجبان ومارتديلا وسمك التونة متوافرة بكثرة، أما اليوم فغالباً ما يضطرّ اثنان أو ثلاثة إلى تقاسم العلبة الواحدة في حال توفّرها. ويشرح خالد أنّه قلّص كمية المياه التي يشربها إلى قنينة واحدة في النهار، ويعمد إلى تناول منقوشة زعتر صباحاً ثمنها 25 ألف ليرة، يقول إنه غالباً ما يضطر إلى تحمّل العطش والجوع، على الرغم من اضطراره للوقوف على الحاجز لساعات.
أما عدي فيجبر نفسه على تناول طعام “الجيش”، كونه لا يستطيع دفع ثمن منقوشة واحدة، وهو يكتفي بشراء الماء لعدم توفره في مراكز الخدمة، “شو ما جابولي أكل بدي آكل، ما بقدر إدفع حق منقوشة أو سندويشة، معاشي ما بيكفي”. ولكن حتى هذا الطعام في المؤسسة العسكرية على قلّته وسوئه غير متوفّر لعناصر القوى الأمنية.
واعتبرت قيادة الجيش في ردّها “أنّها تواجه صعوبة في تأمين الجهيزات والأعتدة اللازمة للوحدات كي تبقى قادرةً على القيام بواجباتها ومهماتها العملانيّة. أبرزها قطع البدل والذخائر والمحروقات والزيوت والعتاد الفرديّ من أسلحةٍ وغيرها”. وأضافت أنّ أسعار تلك المقوّمات تضاعفت مع التدهور المتواصل في سعر الليرة اللبنانيّة وتقليص ميزانيّة الجيش بهدف الاقتصاد في النفقات ضمن مختلف الوزارات. يعني ذلك أنّ مساندة وحداتنا لوجستيّاً باتت أكثر صعوبةً، وأنّ الجيش يبذل جهوداً أكبر لتأمينها”.
خطورة ما يجري يمكن لحظها في المخافر حيث معظم الآليات معطّلة، ويروي العميد جبران أنّ أغلب الآليات في المخافر معطّلة، ما يضطر عناصر الدرك إلى الذهاب بسياراتهم الخاصة لأداء واجبهم الوظيفي ما يفتح الباب للرشى، “صار يللي بدو يعمل محضر سرقة أو تعدّي بيقلّه للعنصر تعا بسيارتك وبعطيك 100 دولار”، معتبراً أنّ أمن الدولة وهيبتها مهددان بالانهيار والتدهور.
المتقاعدون “فنينا حياتنا بخدمة الوطن ومؤسسات الوطن خذلتنا”
يتشارك المتقاعدون في الجيش والدرك المعاناة وخيبة الأمل الواحدة، جميعهم حرموا من الاستفادة من رواتبهم التقاعدية، نتيجة انهيار قيمتها، بعدما فرضت عليهم المصارف سحب مبالغ محددة منها شهرياً.
يعجز الكلام عن وصف غصّة سعاد وهي زوجة عقيد متقاعد في الجيش اللبناني، وأم لولدين، بعدما اضطر زوجها البالغ من العمر 60 عاماً العمل كسائق لنقل الخضار في أحد المحال التجارية، براتب 100 ألف ليرة في اليوم الواحد، “عقيد بالجيش بيشتغل بنقل الخضرا، الشغل مش عيب بس زلمي تعب كل هالسنين ليرتاح بالآخر”. أما تعويض زوجها التقاعدي الذي حاولوا الحفاظ عليه لحين تخرّج ابنها، تضطرّ سعاد اليوم لسحبه بالتقسيط لتأمين لقمة عيش عائلتها. وفي حين هاجر ابنها البكر للعمل في الخارج، يعمل ابنها الأصغر بدوامٍ ليلي في أحد المطاعم ليدفع قسط جامعته، “30 سنة عم ندبّر أمورنا ومنخطط ومنحرم حالنا كرمال نأمن عيشة كريمة لأولادنا، فجاة كل شي خططنا له ضاع”.
يروي أحد العمداء المتقاعدين في القوى الأمنية كيف “تبخّر” تعويض نهاية الخدمة الذي كان يعوّل عليه في سنوات التقاعد، “اليوم شو بيعملي معاشي التقاعدي، مضطر بعد كل سنين التعب روح دور على وظيفة جديدة”. ففي حين كان تعويض نهاية الخدمة يتجاوز 700 مليون ليرة (حوالي 460 ألف دولار أيام الـ” 1500″) بات اليوم يوازي 24 ألف دولار على سعر صرف 29000. “كانوا قبل يشترولي بيت هلق ما بيشترولي سيارة، والبنك بيعطيني اياها بالتقسيط”. هذا ويبلغ عدد المتقاعدين في القوى الأمن الداخلي حوالي 10 آلاف عنصر وضابط.
لكن دمعة باسل، ملازم أول متقاعد من قوى الأمن، سقطت حين قال إنّ شقيقه، وهو متفرغ في أحد الأحزاب، يساعده في دفع قسط ابنه الجامعي “هو بيقبض دولار وأنا معاشي ما بيلغ 150 دولاراً، كتّر خيره عم يعينّي بعد 30 سنة قضيتها بخدمة الدولة والوطن”. يقول باسل إن الدخول إلى المدرسة الحربية، أو مؤسسة الجيش أو قوى الأمن الداخلي والعام والدولة كان حلم كل شاب حسب مستواه التعليمي، اليوم صار الشبان يفضلون الأحزاب لأنها تدفع لهم بالدولار، هنا بات الولاء للحزب وليس للوطن”.