يُعرف القضاء المالي حاليًّا بديوان المحاسبة، وهي تسمية ورثها لبنان عن السلطنة العثمانية على غرار العديد من دول المنطقة، علمًا أنّ السلطنة كانت ذكرت “ديوان المحاسبات” في دستورها المؤرَّخ في العام 1876. وفيما يعود تأسيس ديوان المحاسبة اللبناني إلى العام 1953، فإنّه هو الآخر قد ورد ذكره في الدستور الأساسي للبلاد الذي يعود إلى العام 1926 (المادّة 87). وبالرغم من أهمِّيَّة الدور المنوط بالديوان، يكاد ينحصر الاهتمام به في التعليق على القرارات التي قد تصدر عنه في قضايا تعني الشأن العام، أو كذلك في التذرُّع بنقص موارده لتبرير التوقُّف عن إنجاز قطوعات الحساب منذ العام 1994، وهو مُعطى يتكرّر بصورة دائمة منذ العام 2012، من دون أن يُبذَل أيّ جهد لمعالجته.
أمّا على الصعيد التشريعي، فقد سُجِّلت محاولات عدّة لإدخال عدد من الإصلاحات على تنظيم ديوان المحاسبة، تمثّل أبرزها في مشروع القانون الذي أحالَته الحكومة على ديوان المحاسبة بموجب المرسوم رقم 9458 في تاريخ 2012/4/12، وقد أنجزت لجنة الإدارة والعدل النيابية دراسة هذا المشروع في تاريخ 2016/5/9، ليُحال من ثمّ إلى لجنة المال والموازنة النيابية، حيث ما يزال عالقًا.
وفيما تضمّنت الأولويّات التشريعيّة، مؤخَّرًا، دراسة اقتراحات قانون في القضاء العدلي والقضاء الإداري، أُعِدَّت في الغالب بمبادرات مجتمعية وضمن رؤية مُوحَّدة عن دور القضاء في بناء الدولة وضمان الحقوق والحرِّيّات، فإنّه بدا مُهمًّا استكمالُ هذه الورشة بإضافة اقتراح قانون ينبع من الرؤية نفسها بشأن القضاء المالي (ديوان المحاسبة). وقد استفدنا طبعًا، في سياق وضع هذا الاقتراح، من زخم النقاشات الجارية مُؤخَّرًا بشأن القضاءَين العدلي والإداري، كما استفدنا من الرأيَين الاستشاريَّين للجنة البندقية بشأن هذَين القضاءَين والمُؤرَّخَين في 20 حزيران 2022 و19 آذار 2024، وكذلك من تطوّر المبادئ والمعايير الدولية بشأن القضاء المالي في إطار المنظّمة الدولية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة (الأنتوساي)، والتي ينتمي ديوان المحاسبة إليها. وفي هذا السياق، سعى واضعو الاقتراح إلى مُواءَمة مضمونه مع المبادئ الأساسية التي أقرَّتها هذه المنظّمة، ومنها إعلان ليما حول التوجيهات المُتعلِّقة بالمبادئ الرقابية (1977)، وإعلان مكسيكو بشأن الاستقلالية (2007)، فضلًا عن الوثيقة الأحدث وهي وثيقة “المبدأ 50: مبادئ مُمارسة المهامّ القضائية من طرف الأجهزة العليا للرقابة” (2019). كما سعى الاقتراح إلى مواكبة الإصلاحات الحاصلة في المنطقة العربية، وأهمّها قانون محكمة المحاسبات في تونس (2019).
انطلاقًا من ذلك، انبنى الاقتراح على اسبابٍ عدّة، أمكن تصنيفها ضمن ستّ فئات أساسية هي الآتية:
أوّلًا، ضرورة مُواءَمة تنظيم القضاء المالي مع معايير استقلالية القضاء؛
ثانيًا، ضرورة مُواءَمة تنظيم القضاء المالي وصلاحياته وإجراءاته مع المعايير الدولية لضمان استقلاليته وجودة عمل محاكم المحاسبة الماليّة وأجهزتها؛
ثالثًا، ضرورة مُواءَمة إجراءات المحاكمة أمام محكمة المحاسبات مع معايير المحاكمة العادلة؛
رابعًا، ضرورة وضع قواعد ضامنة لمعالجة الشغور في ملاك القضاء المالي؛
خامسًا، ضرورة وضع قواعد لتوضيح أدوار المُراقِبين ومُدقِّقي الحسابات؛
سادسًا، إصلاحات مُتفرِّقة.
وقبل المضيّ في ذلك، تجدر الإشارة إلى أنّ الاقتراح أدخل تعديلًا على تسمية ديوان المحاسبة ليصبح محكمة المحاسبات، وذلك تيمُّنًا بالتجربة التونسية، وكذلك بتجارب العديد من الدول (ومنها تركيا التي كنّا ورثنا معها عن السلطنة العثمانية تسمية الديوان) التي أرادت من خلال تعديل التسمية التشديد على كونها محكمة قبل أن تكون هيئة رقابية.
أوّلًا، ضرورة مُواءَمة تنظيم القضاء المالي مع معايير استقلالية القضاء
تؤكّد مبادئ مُنظّمة إنتوساي ضرورةَ تحصين استقلالية الأجهزة العليا للرقابة على نحو يُخوِّلها الاضطلاع بمهامِّها بصورة موضوعية وفعّالة، وفي مأمن من التأثير الخارجي. كما تؤكّد مبادئ المُنظّمة، وبخاصّة المبدأ 50، على ضرورة منح أعضاء الأجهزة القضائيّة ضمانات الاستقلالية في كلّ ما يتّصل بمساراتهم المهنية، وذلك أسوة بالقضاة من الفروع الأخرى. ومن هنا، وإذ عمل الاقتراح على تكريس مبادئ الاستقلالية فيما يتّصل بتنظيم القضاء المالي والمسارات المهنية لقُضاتِه، فإنّه استمدّ من هذه المبادئ الأسباب المُوجِبة الآتية:
السبب المُوْجِب الأوّل: فكّ الارتباط برئاسة مجلس الوزراء إداريًّا وماليًّا
بحسب قانون تنظيم ديوان المحاسبة الحالي، يرتبط ديوان المحاسبة إداريًّا برئيس مجلس الوزراء. وفي حين تقتصر هذه المادّة على الأمور الإدارية، فإنّ من شأن هذا الارتباط أن يؤثّر معنويًّا في عمل الديوان وفي عدد من قُضاته ومُوظَّفيه. وبنتيجة ذلك، تُدرج الموازنة السنوية للدولة على الموازنة المُخصَّصة لديوان المحاسبة في أحد بنود الموازنة المُخصَّصة لرئاسة مجلس الوزراء.
يتعارض هذا الربط مع المبادئ التأسيسية لمُنظّمة إنتوساي، حيث يؤكّد إعلان ليما عدم إمكانية الأجهزة العليا للرقابة الاضطلاع بمهامّها بصورة موضوعية وفعّالة إلّا إذا كانت مُستقِلّة عن الجهات الخاضعة للرقابة، وفي مأمن من التأثير الخارجي. كذلك، يتعارض هذا الربط مع إعلان ليما لجهة ضرورة أن تمنح الأجهزة العليا للرقابة الإمكانيات المالية التي تكفل لها القيام بمهمّتها، وأن تكون الأجهزة العليا للرقابة، إن اقتضى الأمر ذلك، قادرةً على أن تطلب الموارد المالية التي تحتاج إليها مباشرةً من الجهاز المسؤول عن الميزانية الوطنية، وعلى أن تستخدم الأموال المُسنَدة إليها ضمن فصل مُميَّز من فصول الميزانية بحسب ما تراه صالحًا (أي ميزانية خاصّة ومُنفصِلة وغير تابعة لأيّ سلطة أخرى). كما يضيف المبدأ الثامن لإعلان مكسيكو أنّه “يحقّ للأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة أن تلجأ مباشرة إلى السلطة التشريعية إذا كانت الموارد المُتاحة غير كافية ولا تسمح لها بالقيام بالمهامّ المنوطة بها”، بعد تأكيد مسؤولية السلطة التشريعية أو إحدى لجانها عن ضمان توفير الموارد اللازمة للأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة، لكي تتمكّن من القيام بالمهامّ المنوطة بها.
من هنا، يهدف الاقتراح إلى فكّ الارتباط بين القضاء المالي ورأس السلطة التنفيذية، أي السلطة التي انوَجَدَ لمراقبة أعمالها، إداريًّا وماليًّا، وإلى تمكينه من وضع مشروع موازنته ومناقشتها كما هي أمام اللجنة النيابية المُختصَّة، مع تأكيد استقلاليته المالية والإدارية. في الاتّجاه نفسه، يهدف الاقتراح إلى نقل صلاحية تحديد عدد القضاة المنوي تعيينهم في القضاء المالي من رئاسة مجلس الوزراء إلى مجلس القضاء المالي.
ويعزّز الاقتراح فكّ الارتباط من خلال إلغاء الصلاحية التي يمنحها القانون الحالي لمجلس الوزراء بتجاوز قرار القضاء المالي بحجب الموافقة المُسبَقة عن إبرام معاملة إدارية، ونقل هذه الصلاحية إلى مرجع قضائي آخر (مجلس شورى الدولة).
السبب المُوْجِب الثاني: الاستقلالية الوظيفية للقضاء المالي
يعلّق القانون الحالي اختصاص ديوان المحاسبة في العديد من الحالات، وبخاصّة في ما يتّصل بالبلديّات، واتّحادات البلديّات، والمُؤسَّسات العامة، والجمعيّات التي تتلقّى دعمًا من الدولة، وحسابات الامتيازات على صدور مرسوم يتّخذ في مجلس الوزراء، بما يجرّد الديوان من اختصاصه العام لِيَحصره في المجالات التي تُقرّر السلطة التنفيذية منحه إيّاها. وهذا ما يتحصَّل من المادّة 2 من قانون تنظيم ديوان المحاسبة.
ولمّا كان إعلان مكسيكو (المبدأ الثالث) أكّد وجوب منح الأجهزة العليا للرقابة السلطة الكافية لتحقيق أهدافها في النظر في:
– استعمال الأموال والموارد أو الموجودات العامة من قبل جهة مُستلِمة أو مُنتفِعة، بغضّ النظر عن طبيعتها القانونية؛
– تحصيل الإيرادات المُستحَقَّة للحكومة أو الجهات الحكومية؛
– قانونية ونظامية الحسابات الحكومية أو حسابات الجهات الحكومية؛
– الوقوف على جودة الإدارة المالية وإعداد التقارير؛
– العمليات الحكومية أو عمليات الجهات الحكومية من منظور العناصر الاقتصادية والكفاءة والفعالية.
وعليه، أكّد الاقتراح الصلاحية الشاملة المُحدَّدة قانونًا لمحكمة المحاسبات في كلّ ما يتّصل بالرقابة القضائية.
السبب المُوْجِب الثالث: تقليص مجالات التدخُّل في اختصاصات القضاء المالي، صونًا لاستقلاليّته ولمبدأ فصل السلطات (إلغاء صلاحية إبداء الرأي في المسائل المالية)
ينوط القانون الحالي بديوان المحاسبة صلاحيّات إدارية، أهمّها إبداء الرأي في المسائل المالية والرقابة المُسبَقة على إبرام العقود والمعاملات؛ في هذا الإطار، تُظهر أرقام معاملات ديوان المحاسبة أنّ جزءًا هامًّا من نشاطه وموارده تُخصَّص للقيام بهذه الوظائف. وعليه، كثيرًا ما أبدى الديوان رأيه في معاملات إدارية، تُوجِب عليه من ثمَّ النظر في مدى قانونيتها، سواء في إطار الرقابة المُسبَقة أو اللاحقة أو في إطار الرقابة القضائية.
ولمّا كان إعلان مكسيكو (المبدأ الثالث) قد أكّد أنّ من المُتطلِّبات الضرورية لاستقلالية الأجهزة العليا للرقابة عدمَ قيامها برقابة سياسة الجهات الحكومية، بل يقتصر عملها فقط على رقابة تنفيذ السياسات، إلّا في الحالات التي يطلب منها القانون فعل ذلك. أضِف إلى هذه المُتطلِّبات الهامّة ضرورة امتناع الأجهزة العليا للرقابة، بأيّ شكل من الأشكال، عن أن تتدخّل أو تعطي الانطباع بأنّها تتدخّل في إدارة الجهات الخاضعة لرقابتها. ومن حيث الممارسة، فإنّ إبداء الرأي حول سياسة الجهات الحكومية وتصرُّفها بصِفَة قبلية أو مُتزامِنة (الرقابة المُسبَقة والمُتزامِنة) يُعَدّ تدخُّلًا في قرارات هذه الجهات بحسب إطار معايير الإنتوساي، والاستثناء الوحيد الذي أقرّه الإطار هو القانون، أي مُتطلّبات قانونية تفرض على الجهاز ذلك (أي إنّه غير مُطابِق لمعايير الاستقلالية، ولكن يمكن القيام به فقط حينما يفرض القانون ذلك). وبنتيجة ذلك، فإنّ قلّة من الأجهزة العليا للرقابة في العالم تبدي رأيها بشكل مُسبَق في السياسات الحكومية، لأنّ ذلك قد يمنعها ببساطة من رفضها أو التعليق على مشروعيتها لاحقًا.
وعليه، ذهب الاقتراح في اتجاه إلغاء اختصاص إبداء الرأي في المسائل المالية، طالما أنّ للإدارة إمكانية اللجوء إلى هيئات استشارية عدّة (مجلس شورى الدولة وهيئة الاستشارات والتشريع)، فضلًا عمّا لها من موارد لتعيين مُستشارين.
السبب الموجب الرابع: استبعاد إمكانية تجاوز قرارات ديوان المحاسبة بقرار من الحكومة
إذ يسعى القانون إلى تقليص مجالات تدخل القضاء الإداري في الرقابة اللاحقة عملا بمبادئ وتوجهات منظمة الإنتوساي وفق ما أوضحْناه تحت السبب الثالث، إلا أنه يتبدّى من المُفيد في ظلّ الظروف الحاضرة، وتحديدًا صعوبة إعمال المُحاسَبة اللاحقة بصورة فاعلة، وعدم وجود نظام مراقبة عمومية فاعلة داخل الإدارات، استبقاء الرقابة المُسبَقة. يجدر أن يحدد الاستثناء بموجب نصّ قانوني، كما ينبغي أن تتوافر المحاذير اللازمة للقيام به وفق مُتطلِّبات الشرعية، وأن يتمّ التنصيص صراحة بالقانون على أنّ ذلك لا يمنع الجهاز لاحقًا من الرقابة على هذا المجال.
وعليه، انتهى الاقتراح إلى إجراء 3 تعديلات على نظام الرقابة المسبقة: أوّلًا، رفع قيمة المعاملات الخاضعة للرقابة المُسبَقة؛ وثانيًا، التنصيص صراحةً في القانون بأنّ ذلك لا يمنع محكمة المحاسبات من ممارسة الرقابة القضائية على المعاملات المذكورة، من دون التقيُّد برأيها المُسبَق؛ وثالثًا، استبعاد إمكانية مراجعة قرارات محكمة المحاسبات المُتعلِّقة بالرقابة المُسبَقة أمام مجلس الوزراء، وحصر المراجعة في محكمة عليا هي مجلس شورى الدولة دون سواه، بما يتماشى مع المبادئ التأسيسية لإعلان ليما الذي ينصّ على أنّه “ينبغي بالخصوص أن توجد محكمة عليا تضمن الحماية القانونية المُناسِبة ضدّ كلّ تدخُّل من شأنه أن يمسّ باستقلالية الجهاز الأعلى للرقابة وسلطاته الرقابية”.
السبب المُوْجِب الخامس: تكوين مجلس قضاء مُستقِلّ وفق المعايير الدولية لاستقلال القضاء
يتكوّن مجلس ديوان المحاسبة حاليًّا من: رئيس الديوان، والمُدّعي العام لدى الديوان، و3 قضاة الأعلى رتبة (الرتبة الأعلى هي رئيس غرفة، علمًا أنّ هنالك 8 غُرَف، ممّا يعني اختيار الأعلى رتبة والأقدم درجة). وعليه، تتمتّع السلطة التنفيذية بهامش كبير في تعيين هؤلاء طالما أنّ رئيس الديوان، والمُدّعي العام، ورؤساء الغُرَف، كلُّهم يُعيَّنون بمراسيم تُتَّخَذ في مجلس الوزراء.
يعمل الاقتراح على إعادة تسمية المجلس ليصبح المجلس الأعلى للقضاء المالي، بحيث يكون بالنسبة إلى القضاء المالي مُرادِفًا لمجلس القضاء الأعلى (العدلي). والأهمّ، يقتضي وضع قواعد تشكيله على نَحوٍ يراعي مبادئ تكوين المجالس القضائية المُستقِلّة، وأهمّها تمكين فئات القضاة في مختلف درجاتهم من انتخاب مُمثِّلين عنهم فيه، والحؤول دون تفرُّد السلطة التنفيذية في تعيين هؤلاء. وعليه، ينصّ الاقتراح على إنشاء المجلس الأعلى للقضاة المالي، في هيئته المُختصَّة في تنظيم المسارات المهنية للقضاة الماليين، من قاضيَين حكميَين (رئيس محكمة المحاسبات والنائب العام لديها) فضلًا عن 4 قضاة مُنتخَبين، 2 من كلٍّ من فئتَي القضاة وفق درجاتهم، يُضاف إليهم 2 يعيّنهما القاضيان الحكميّان والقضاة المُنتخَبون من بين رؤساء الغرف. وتهدف إضافة هذَين العضوَين إلى تمكين أعضاء المجلس من تحصينه من خلال ضمان تمثيل جميع فئات القضاة. تضمن آليّة التعيين تمثيل النساء من خلال اشتراط تصويت القضاة المدعوّيين لانتخاب قاضيَين قاضيًا من كِلا الجنسَين.
السبب المُوْجِب السادس: منح صلاحيات واضحة لمجلس القضاء المالي تشمل تنظيم شؤونه المالية والإدارية والوظيفية وإدارة المسارات المهنية للقضاة، على أن تمارَس هذه الصلاحيات بصورة جماعية
وفق القانون الحالي، يُمارس مجلس الديوان صلاحيات مجلس القضاء الأعلى (العدلي). وفي الواقع، لا تكفي الإحالة إلى صلاحيات هذا المجلس لضمان قيام المجلس بدوره في ضمان استقلالية القضاء المالي وحسن سير عمله، بفعل عدم اشتمالها على مُجمَل المجالات المُؤثِّرة في المسارات المهنية للقضاة، وكذلك بفعل مَنْح صلاحيات واسعة في هذا المجال لكلٍّ من رئيس الديوان كما نبيّن أدناه، والسلطة التنفيذية.
من هنا، يهدف الاقتراح إلى منح مجلس القضاء المالي المُزمَع إنشاؤه صلاحية شاملة في إدارة المسارات المهنية للقضاة، على أن تُمارَس هذه الصلاحيات بصورة جماعية. ومن أهمّ ما ذهب إليه الاقتراح في هذا المجال، نقل صلاحية تسمية رؤساء الغُرَف من السلطة التنفيذية إليه، وكذلك حصر صلاحية السلطة التنفيذية في تعيين رئيس محكمة المحاسبات (الديوان)، والنائب العام لديها ضمن قائمة أسماء مُقدَّمة منه. في الاتِّجاه نفسه، نُقِلَت السلطة التقريرية، في العديد من المسائل التنظيمية للمسارات المهنية للقضاة، من رئيس المجلس إليه، بما يضمن اتِّخاذ القرارات جماعيًّا، من دون أن يكون لرئيس الديوان أيّ سلطة اعتراضية (فيتو).
السبب المُوْجِب السابع: إشراك أشخاص غير قضاة في المسائل غير المُتَّصِلة بالمسارات المهنية للقضاة
يتكوّن مجلس ديوان المحاسبة حاليًّا من قضاةٍ حصرًا، ولا يضمّ أيّ شخص من خارج القضاء، وذلك خلافًا للمعايير الدولية التي تنصّ على وجوب انفتاح المجالس القضائية، درءًا للفئوية النقابية، وانطلاقًا من كون القضاء مرفقًا عامًّا وشأنًا عامًّا يعني جميع شرائح المجتمع وليس القضاة فقط.
إلّا أنّ الاقتراح، بالنظر إلى حجم التدخُّلات الحاصلة داخل القضاء، وفي انتظار انتظام مُؤسَّسات الدولة، ذهب إلى حصر مشاركة الأعضاء غير القضاة في هيئة مُوسَّعة تكون مُختصَّة بالنظر في ما يتَّصل بشؤون القضاء المالي، باستثناء كلّ ما يتّصل بالمسارات المهنية للقضاة. ومُؤدَّى ذلك هو الاستفادة من وجود هؤلاء لتعزيز استقلالية القضاء المالي وحسن سيره، من دون أن يترتّب على ذلك مفاعيل سلبية من قبيل التأثير في المسارات المهنية للقضاة.
تضمّ الهيئة المُوسَّعة، إلى جانب أعضاء الهيئة المحصورة للمجلس، مُدقِّقَي حسابات، ومُراِقبَين من العاملين في القضاء المالي، بالإضافة إلى أستاذَين جامعيَّين في مجال اختصاص مُتّصِل بالقضاء المالي أو الإداري.
السبب المُوْجِب الثامن: تقليص صلاحيات “الرئيس” منعًا للشخْصَنَة وتعزيزًا للاستقلالية الداخلية
من الواضح أنّ القانون الحالي اعتمد النظام الرئاسي في الديوان على غرار النظام الرئاسي المَعمول به في مجلس شورى الدولة، وذلك بخلاف الحال في القضاء العدلي حيث تُناط السلطة التقريرية الأهمّ بمجلس القضاء الأعلى مُجتمِعًا. وكانت لجنة البندقية قد لفتت النظر في رأيها بشأن إصلاح القضاء الإداري في تاريخ 2024/3/19 إلى خطورة اعتماد نظام رئاسي، لتُوصي بضرورة تقليص صلاحيات رئيس مجلس شورى الدولة. وقد اعتبرتْ اللجنة، صراحةً في متن رأيها، أنّ رئيس مجلس شورى الدولة يتمتّع بصلاحيات/نفوذ واسعة النطاق Far reaching powers، إذ إنّه “يتصرّف وكأنّه القاضي الأسمى Supreme judge في جميع المسائل الإدارية والمالية والتأديبية”. كما رأت أنّ من شأن تعزيز هذه الهرمية أن تمسّ بالاستقلالية الداخلية، وكذلك بالاستقلاليّة الخارجيّة.
وبمراجعة القانون الحالي لديوان المحاسبة، تُسجَّل الأمور الآتية:
- إنّ الرئيس يحتفظ بسلطة تقريرية في العديد من شؤون تنظيم المسارات القضائية. مثال على ذلك، القرار الذي يصدر عن رئيس الديوان فيما يتّصل بتوزيع الأعمال وتشكيل الغرف ووضع نظام داخلي للمُوظَّفين، وإن حصل بموافقة مجلس الديوان؛
- إنّ جميع المعاملات، باستثناء معاملات النيابة العامة لدى الديوان، المُتَّصلة بالمهامّ الرقابية كما القضائية، تصدر وتَرِد من ديوان المحاسبة وإليه، من خلال قلم مركزي للديوان يخضع لإشراف رئاسة رئيس الديوان، ممّا يؤدّي إلى التحكُّم في توجيه المُراسَلات وتوقيته؛
- إنّ رئيس الديوان يرأس حُكمًا المجلس التأديبي لرؤساء غرف ومُستشاري الديوان، وهو يقترح على مجلس الديوان، وفق القانون الحالي، إحالة القاضي إلى المجلس التأديبي. وعليه، فإنّه يجمع بين يدَيه سلطات المُلاحَقة والتحقيق والحكم؛
- إنّه يحتكر إمكانية الدعوة إلى مجلس الديوان والجمعية العمومية؛
- إنّه يوافق على تعيين جميع المُوظَّفين الإداريين في الديوان؛
- إنّه ينظّم الإدارة الداخلية للديوان وكيفيَّة مُمارَسة عمله؛
- إنّه يتمتّع بكلّ ما يتّصل بالإدارة الداخلية للديوان؛
- إنّه يتمتّع بصلاحية مالية وإدارية شاملة كالوزير (المادّة 18 من قانون تنظيم الديوان).
وعليه، أدخل الاقتراح عددًا من الأحكام الهادفة إلى التخفيف من الهرمية، وأهمّها نقل الصلاحيات التقريرية إلى مجلس القضاء المالي، والفصل بين سُلطة المُلاحَقة والتحقيق وسُلطة التأديب، وفتح إمكانية دعوة المجلس والجمعية العمومية إلى نسبة من أعضائهما، فضلًا عن إنشاء قلم خاص في كلّ غرفة.
السبب المُوْجِب التاسع: إشراك الجمعية العمومية للقضاة في إقرار بَرْمَجَة عمل القضاء المالي تحسينًا لإنتاجيته، وفي إقرار التقارير السنوية والخاصة
تتولّى الجمعية العمومية للقضاة، التي تضمّ مجموع القضاة، إقرار التقارير السنوية. في المقابل، يخلو القانون الحالي من أيّ ذكر لبَرْمَجَة أعمال الرقابة، كما أنّه لا ينصّ صراحةً على وجوب إقرار الجمعية العمومية التقارير الخاصة. كذلك، ذهبت المُمارَسة إلى إصدار الغُرَف تقارير خاصة، وذلك بعد الحصول على موافقة رئيس ديوان المحاسبة.
وعليه، وانطلاقًا ممّا تُشكِّله الجمعيّات العمومية للقضاة من ضمانة إضافية لاستقلالية المحاكم في أدائها، ذهب الاقتراح إلى إناطة مسؤولية إقرار التقارير والبَرْمَجَة التي تعدّها غُرَف وأجهزة محكمة المُحاسَبات، بالجمعية العمومية.
السبب المُوْجِب العاشر: اعتماد المساواة والشفافية في تعيين القضاة الماليين المُتدرِّجين والأصيلين
يخلو القانون الحالي من أيّ ضمانات لتعيين القضاة الماليين المُتدرِّجين والأصيلين بناءً على معايير النزاهة والكفاءة وعلى قدم المساواة.
وعليه، يحول الاقتراح دون إمكانية استبعاد أيّ من المُرشَّحين لدخول معهد الدروس القضائية (القسم المالي) أو القضاء المالي لأسباب غير موضوعية أو غير مُبرَّرة بمُقتضَيات وظيفته.
السبب الموجب الحادي عشر: الحدّ من ظاهرة تعيين قضاة عدليين أو إداريين بالباراشوت في أعلى الهرم
يعمل الاقتراح على الحدّ من ظاهرة تعيين قضاة عدليين أو إداريين من خارج القضاء المالي في قمّة هرمه، على نَحوٍ يعزّز هامش تدخُّل السلطة التنفيذية للسيطرة على القضاء المالي من خلال هؤلاء، فضلًا عمّا تسبّبه هذه الظاهرة من إحباط لدى القضاة الماليين وشعورهم بمحدودية ارتقائهم مهنيًّا لإشغال أعلى المناصب في القضاء المالي. وعليه، وإذ يُبقي الاقتراح على إمكانية نقل القاضي من الملاك العدلي أو الإداري إلى ملاك القضاء المالي، في ظلّ الشغور الكبير فيه، فإنّه ينصّ على إلغاء هذه الإمكانية بعد فترة انتقالية، فضلًا عن أنّه يحول دون تولّي هؤلاء مراكز في رأس هرم الديوان لفترة خمس سنوات.
السبب المُوْجِب الثاني عشر: ضمانات شخصية لاستقلالية القضاة
يخلو القانون الحالي من ضمانات شخصية لاستقلالية القضاة، وذلك خلافًا للمعايير الدولية لاستقلالية القضاء. ومن أهمّ الضمانات التي ينصّ عليها الاقتراح، تكريس مبدأ عدم نقل القاضي إلّا برضاه، وتكريس الحقّ في الترشُّح للمناصب الهامَّة، والحقّ في عدم التمييز والتمتُّع بحُرِّيَّة التعبير وإنشاء جمعيّات، والحقّ في المحاكمة العادلة، والحقّ في الطعن في جميع القرارات الفردية المُتَّصِلة بمساراتهم المهنية.
السبب الموجب الثالث عشر: حظر تكليف القضاة الماليين بالقيام بأعمال استشارية لدى الإدارات العامة
وقد سعى الاقتراح إلى ضمان مُجمَل هذه الحقوق وتحصينها، ومنع التدابير التمييزية بين القضاة الماليين، عملًا بمبدأ المساواة فيما بينهم. وعليه، يُحظَّر تمامًا تكليف القضاة الماليين بأعمال استشارية لدى الإدارات العامة، حفظًا لمبدأ الفصل بين السلطات، ومنعًا للمُحاباة والتمييز في ما بينهم.
السبب المُوْجِب الرابع عشر: اعتماد آليّات واضحة لتقييم أداء وإنتاجية القضاة والمُراقِبين والمُدقِّقين والمُوظَّفين الإداريين
يخلو القانون الحالي من أيّ نظام تقييمي للقضاة أو المُراقِبين والمُدقِّقين والمُوظَّفين الإداريين. وعليه، يهدف الاقتراح إلى معالجة هذه الثغرة من خلال إرساء نظام يضمن حسن الأداء القضائي وتحفيزه، بالإضافة إلى توفير معايير موضوعية بشأن المسارات المهنية للقضاة، مع مراعاة حقّ القضاة في المشاركة في عملية تقييمهم والطعن بنتائجها.
السبب المُوْجِب الخامس عشر: ضمان شروط المحاكمة العادلة في الملاحقات التأديبية
يشوب النظام التأديبي للقضاة الماليين، حاليًّا، كما للمُدقِّقين والمُراقِبين، عيوب عدّة على نَحوٍ يخلّ بمبادئ المحاكمة العادلة، أهمّها الخلط بين سلطات المُلاحَقة والتحقيق والحكم، وخُلُوّ القانون من تعريف واضح للخطأ التأديبي ومن تحديد للعقوبات التأديبية على نَحوٍ يتناسب مع خطورة الأفعال، فضلًا عن الإخلال بمبدأ علانية المحاكمة.
وعليه، يتدخّل الاقتراح لضمان الفصل بين سلطات الملاحقة والتحقيق والحكم في المسائل التأديبية، فضلًا عن وضع تعريف واضح للخطأ المسلكي منعًا للاستنسابية، وعملًا بمبدأ أن لا عقوبة من دون نصّ، وضمان تناسُب العقوبات التأديبية مع خطورة الخطأ المسلكي، ولإعادة النظر في سرِّيّة المحاكمات التأديبية، بخاصّة لجهة فرض نشر حيثيّات الأحكام التأديبية مع حجب المُعطَيات الخاصة، أو تخويل القضاة موضوع الملاحقة المُطالَبة بإجراء مُحاكَمات علنية.
السبب المُوْجِب السادس عشر: تكريس شفافية المجلس والقضاء المالي
يخلو القانون الحالي من أيّ ضمانات لشفافية عمل مجلس الديوان أو غُرَفه، داخليًّا أو خارجيًّا. فلا نجد أيّ مُوْجِب في وضع نظام داخلي لعمل المجلس، ولا أيّ مُوجِب في نشر قرارات مجلس الديوان أو القرارات الصادرة عن غُرَفه.
وتاليًا، ينصّ اقتراح القانون على وجوب وضع نظام داخلي لعمل المجلس، ضمانًا للشفافية الداخلية. كما ينصّ على وجوب نشر قرارات المجلس وغُرَف محكمة المحاسبات.
ثانيًا: ضرورة مُواءَمة تنظيم القضاء المالي مع معايير المحاكمة العادلة
فضلًا عن ذلك، عمد الاقتراح إلى مُواءَمة تنظيم القضاء المالي مع معايير المحاكمة العادلة. وتتأتّى ضرورة تعديل أصول المحاكمات المعمول بها حاليًّا من كونه يُخِلّ بعدد من المبادئ، أهمّها مبدأ القاضي الطبيعي، ومبدأ حيادية القاضي، ومبدأ الوجاهية، ومبدأ العلانية، ومبدأ كفاية التعليل. وعليه، يتدخّل الاقتراح من أجل ضمان احترام هذه المبادئ.
السبب المُوْجِب السابع عشر: ضمان الحقّ في المثول أمام القاضي الطبيعي
تفترض مراعاة مبدأ القاضي الطبيعي أن يُعَيَّن قضاة الهيئة الحاكمة على أساس معايير مُحدَّدة بالقانون، على أن تُعرَف هويَّة أعضائها عند تقديم الدعوى، مع وجوب أن يخضع المُتقاضون للإجراءات ذاتها والقانون نفسه. كما يمنع هذا المبدأ تغيير هيئة الحكم أو تجهيل أعضائها.
ويمكن اعتبار هذا المبدأ حالة تطبيقية لمبدأ المساواة المُكرَّس، بشكل واضح، في المادّة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي تنصّ على أنّ “الناس جميعًا سواء أمام القضاء”. وقد أكّدت لجنة البندقية أهمِّيّة احترام هذا المبدأ في رأيها الاستشاري الصادر في 19 آذار 2024 بشأن اقتراح قانون تنظيم القضاء الإداري.
وبالرغم من أهمِّيّة هذا المبدأ، فإنّه تعرّض لإخلالاتٍ عدّة، أهمّها إنشاء غرفة خاصّة يرأسها رئيس ديوان المحاسبة، تنظر في معاملات الموافقة المُسبَقة التي يختار، بإرادته المُنفرِدة، إحالتها إلى هذه الغرفة الخاصّة، بما يتعارض مع قواعد اختصاص غُرَف الديوان. وقد بُرِّرَت هذه الممارسة بتفسير خاص للمادّة 37 من القانون الحالي، قوامه أنّها تولي صلاحياتٍ لرئيس الديوان وليس لرؤساء الغُرَف. فضلًا عن ذلك، نشأت داخل ديوان المحاسبة ممارسات عدّة من شأنها تعزيز صلاحية رؤساء الغُرَف، وبخاصّة في الحالات التي تضمّ فيها الغرفة أكثر من مستشارَين، على نَحوٍ يمنح هؤلاء هامشًا واسعًا في تكوين الهيئة الحاكمة.
وعليه، عمل الاقتراح على إلغاء هامش تدخُّل رئيس محكمة المحاسبات ورؤساء الغُرَف في التأثير على تكوين هيئات الرقابة أو الحكم، بحيث تكون هذه الهيئات مُحدَّدة مُسبَقًا عملًا بقرار توزيع الأعمال بين الغُرَف، والذي يصدر عن مجلس القضاء المالي.
السبب المُوْجِب الثامن عشر: ضمان الحيادية الظاهرة للقاضي
لا يكفي أن يكون القاضي مُحايِدًا، بل ينبغي أن يظهر على أنّه كذلك. يصطدم هذا المبدأ، حاليًّا، بإجراءَين مُنظَّمَين قانونًا: الأوّل، إمكانيَّة تحرُّك الهيئات القضائية المُختصَّة عَفْوًا من دون أيّ طلب سابق؛ والثاني، حصول المحاكمة على مرحلتَين، بحيث يصدر في المرحلة الأولى قرارٌ مُؤقَّت عن هيئة الحكم من دون الالتزام مُسبَقًا بمبدأ الوجاهية.
وعليه، ذهب الاقتراح إلى تعديل أصول المحاكمة أوَّلًا على نَحوٍ ألغى التدخُّل العفوي للقضاء المالي في مُوازاة مَنْح صلاحية تحريكه لعدد من الهيئات المُستقِلَّة إلى جانب النيابة العامة لدى محكمة المحاسبات، وثانيًا على نَحوٍ ألغى صدور قرار مُؤقَّت، على أن يُعتَمَد بدلًا منه تقريرٌ يضعه مُقرِّر من خارج هيئة الحكم بعد تمكين المُوظَّف موضوع الملاحقة من إبداء دفاعه.
السبب المُوْجِب التاسع عشر: ضمان مبدأ الوجاهية
بفعل إجراء المحاكمة على مرحلتَين، وخُلُوّ القانون الحالي من أيّ ضمانة للوجاهية، نشأت ممارسة قوامها إصدار هيئة الحكم قرارها المُؤقَّت من دون مواجهة الأشخاص موضوع المحاكمة مُسبَقًا بالأدلّة اللازمة. وعليه، يهدف الاقتراح إلى ضمان مبدأ الوجاهية بصورة صريحة.
السبب المُوْجِب العشرون: ضمان مبدأ العلانية
يشكّل مبدأ العلانية أحد أهمّ مبادئ المحاكمة العادلة، وهو لا يفرض فقط علانية القرارات القضائية، إنّما يفرض أيضًا علانية جلسات المحاكمة. لا يشكّل هذا المبدأ ضمانةً لحقوق الدفاع فقط، ولكنّه أيضًا ضمانة لِحَقّ العامة في متابعة القضايا القضائية، وتاليًا للديمقراطية. ويُعَدّ هذا المبدأ مُكرَّسًا بموجب المادّة 10 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادّة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. وقد أكّدت لجنة البندقية، في رأيها الاستشاري الصادر في 19 آذار 2024، أهمِّيَّة أن تجري جلسات المحاكمة أمام القضاء الإداري بالصورة الإدارية.
إلّا أنّ المحاكمات جميعها، وخلافًا لهذا المبدأ، تجري حاليًّا أمام ديوان المحاسبة بصورة غير علنية، وإن لزم القانون الصمت في هذا الشأن، أي بشأن علنية المحاكمة أو سرِّيَّتها. وعليه، يهدف الاقتراح هنا إلى ضمان الحقّ في المحاكمة العلنية.
السبب المُوْجِب الواحد والعشرون: ضمان مبدأ تعليل الأحكام بصورة كافية
بالرغم من الدور الهامّ المنوط بالمُراقبين ومُدَقِّقي الحسابات العاملين في ديوان المحاسبة، فإنّه يُسَجَّل خُلوّ الأحكام الصادرة عن ديوان المحاسبة من أيّ ذكر للتقارير المُنظّمة من هؤلاء، أو من مدى توافُق القرارات الصادرة عن هيئات الرقابة أو الحكم مع هذه التقارير. وإذ تؤدّي هذه الممارسة إلى تهميش دور هؤلاء والحدّ من التعاون والتكامل بين مختلف العاملين في ديوان المحاسبة، فإنّها تؤدّي أيضًا إلى إضعاف ضمانات المحاكمة العادلة من خلال إضعاف ضمانة التعليل، وحجب مُعطَيات أساسية توافرت لدى المحكمة ومن شأنها التأثير في قرارها.
وعليه، يضع الاقتراح على هيئة الرقابة أو الحكم موجب ذكر تقارير المُدقِّقين والمُراقبين، على أن يتضمّن القرار الصادر عنها تعليلًا كافيًا في حال مخالفة هذه التقارير، وذلك تيمُّنًا بالمادّة 362 من قانون أصول المحاكمات المدنية التي تعتمد المبدأ نفسه في حال مخالفة المحاكم العدلية ما انتهى إليه أيّ من الخبراء المُستعان بهم.
السبب الموجب الثاني والعشرون: تحديد مهل محاكمة لضمان إنجازها في آماد معقولة
لم يضع القانون الحالي أيّ مهل لإجراءات المحاكمة أمام ديوان المحاسبة، لا في ما يتّصل بمحاكمة الحسابات ولا في ما يتّصل بمحاكمة المُوظَّفين على اختلافهم. ومن شأن ذلك أن يُفقِد الرقابة على الحسابات الكثير من أهمِّيَّتها، نظرًا إلى طول المدّة الفاصلة بين انتهاء الفترة التي تشملها الحسابات وإتمام الرقابة عليها. كما أنّ طول أمد المحاكمة يشكّل مسًّا بمبادئ المحاكمة العادلة التي تفرض تحقيق العدالة ضمن أَجَل معقول، فضلًا عن أنّه يشكّل سيفًا مُصْلَتًا على المُوظَّفين المعنيّين.
انطلاقًا من ذلك، وضع اقتراح القانون مهلًا معقولة لإجراءات المحاكمة أمام محكمة المحاسبات.
ثالثًا: مبادئ دولية بشأن أجهزة الرقابة
السبب المُوْجِب الثالث والعشرون: ضمان الوصول غير المُقيَّد إلى المعلومات
نَصَّ إعلان مكسيكو (المبدأ الرابع) لمُنظّمة إنتوساي على وجوب ضمان الوصول غير المُقيَّد إلى المعلومات. وقد جاء فيه: “ينبغي للأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة أن تتمتّع بالسلطات الكافية للحصول، بشكل غير مُقيَّد ومُباشر وحرّ، وفي الوقت المناسب، على الوثائق والمعلومات اللازمة كافّة لأداء مهامِّها القانونية على نَحوٍ صحيح”. وقد أكّد الاقتراح، في كتابه الثاني بشأن إجراءات الرقابة، ضمانَ صلاحية محكمة المحاسبات في الوصول غير المُقيَّد إلى أيّ معلومات تتّصل بعملها. وقد تمّ ضمان هذا الحقّ للهيئات الرقابية والقضائية في محكمة المحاسبات كما للنيابات العامة لديها.
السبب المُوْجِب الرابع والعشرون: وجود آليّات متابعة فعّالة لتوصيات القضاء المالي
نَصَّ إعلان مكسيكو (المبدأ السابع) على وجوب تمتُّع الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة بأنظمة داخلية للمتابعة خاصة بها، للتأكُّد من أنّ الجهات المشمولة بالرقابة قد عالجت، بطريقة صحيحة، ملاحظاتها وتوصياتها، بالإضافة إلى الملاحظات والتوصيات التي رفعتها السلطة التشريعية أو إحدى لجانها، أو رفعتها إلى مجالس إدارة الجهات المشمولة بالرقابة، كلّما كان مُناسِبًا.
وتشير الممارسات الحالية إلى خُلوّ القانون من أيّ آليّة خاصة لمتابعة التوصيات والمُقترَحات، فضلًا عن نُدرة قيام ديوان المحاسبة بذلك.
وعليه، حرص الاقتراح على إنشاء مكتب لمتابعة المقترحات والتوصيات لدى محكمة المحاسبات.
السبب المُوْجِب الخامس والعشرون: إنشاء لجنة دائمة لإعداد تقرير سنوي وللبرمجة
نَصَّ إعلان مكسيكو (المبدأ الخامس) على حقّ الأجهزة العليا للرقابة والمحاسبة في إعداد تقارير بشأن نتائج أعمالها الرقابية، مرّةً واحدة، على الأقلّ، في كلّ سنة. وقد نَصَّ الإعلان في مبدئه السادس على تمتُّع الأجهزة بِحُرِّيَّة تقرير محتوى ومضمون تقاريرها الرقابية، فضلًا عن حقّها في إبداء الملاحظات ورفع التوصيات في تقاريرها الرقابية، مع الأخذ في عين الاعتبار، كلّما كان مناسبًا، وجهة نظر الجهات المشمولة بالرقابة. وقد جاء في المبدأ نفسه أنّ للأجهزة حرِّيَّة نشر تقاريرها وتوزيعها بعد تقديمها وطرحها بصِفَة رسمية على السلطات المختصّة، كما ينصّ على ذلك القانون.
ولمّا كان القانون الحالي لا يُنشئ لجنة دائمة لإعداد التقرير السنوي، ولا يضع أصولًا لتعيين لجنة لإعداده، ولا يضع أصولًا لمراحل إعداده وإقراره، وهو الأمر الذي أدّى إلى عدم تنظيم تقارير خلال سنوات أو التأخر في تنظيمها أحيانًا لسنوات عدّة، على نَحوٍ يُفقدها الكثير من أهمِّيَّتها، فإنّ الاقتراح أكّد وجوبَ إنشاء لجنة دائمة لإعداد تقرير سنوي ولبرمجة أعمال الرقابة، ومن ضمنها إصدار تقارير خاصة بصورة سنوية.
رابعًا: ضمان الموارد البشرية اللازمة
السبب المُوْجِب السادس والعشرون: العمل على معالجة الشغور المُزْمِن
شكّل الشغور أحد أهمّ معوقات عمل ديوان المحاسبة، كما سبق بيانه، حيث أنّه يقارب 50% من الجسم القضائي ونسبًا أكبر بالنسبة إلى المُراقِبين ومُدقِّقي الحسابات. ومن هنا، تضمّن الاقتراح نصوصًا عدّة من شأنها معالجة هذه المشكلة، وإن يبقى إيجاد حلّ دائم وقفًا على إصلاحات مالية تتّصل بمُجمَل المرافق العامة ورواتب العاملين فيها على اختلاف فئاتهم.
وقد تضمّن الاقتراح أحكامًا عدّة من شأنها معالجة الشغور المُزمِن، منها:
- تأكيد إلزامية إجراء مباراة سنوية للدخول إلى معهد الدروس القضائية، إلى حَدِّ سَدّ الشغور، وذلك على أمل التوصُّل إلى ملء الشغور في ملاك القضاء. وهذا ما كانت لجنة البندقية قد أكّدته في رأيها الاستشاري في 19 آذار 2024؛
- منح مجلس القضاء المالي صلاحية الدعوة إلى إجراء مباراة الدخول إلى معهد الدروس القضائية أو إلى القضاء المالي، وذلك بهدف تجريد السلطة التنفيذية من إمكانية شلّ القضاء المالي وإضعافه من خلال صناعة الشغور فيه؛
- فتح الباب أمام حَمَلَة الدكتوراه في القانون الإداري أو المالي لدخول معهد الدروس القضائية من دون إجراء مباراة، فضلًا عن إتاحة المجال لتعيين عدد من المُراقِبين ومُدقِّقي الحسابات كقضاة أصيلين في القضاء المالي، وذلك بموجب مباراة محصورة، على أن لا يتجاوز عدد نسبة مُعيَّنة من مجموع القضاة؛
- التنصيص على تقصير مدّة التدرُّج في معهد الدروس القضائية، من 3 سنوات إلى سنتَين، إلى حين ملء المراكز الشاغرة.
خامسًا: توضيح أدوار المُراقِبين ومُدقِّقي الحسابات
لا يوضح القانون الحالي أدوار المُراقِبين ومُدقِّقي الحسابات، سواء في الأعمال الرقابية أو القضائية. وقد سبق وتعرَّضنا في الأسباب المُوجِبة إلى كيفيَّة تعزيز أدوار هؤلاء وحضورهم في محكمة المحاسبات. وهذا ما عملنا على معالجته من خلال إنشاء هيئة مُوسَّعة للمجلس الأعلى للقضاء المالي، تضمّ مُدقِّقي حسابات ومُراقِبين، وكذلك من خلال إلزام القضاة الماليين على تعليل أحكامهم في حال مخالفة تقارير المُراقِبين أو مُدقِّقي الحسابات.
السبب المُوْجِب السابع والعشرون: إنشاء مصلحة مُدقِّقي الحسابات
لمعالجة تهميش أدوار المُدقِّقين، نَصَّ الاقتراح على إنشاء مصلحة مُدقِّقي الحسابات، تُسجَّل فيها جميع الواردات إليها والصادرات منها؛ ومن شأن وجود هذه المصلحة أن تضمن حسن توزيع أعمال التدقيق وتنظيمها وحفظها، وأن ترفع إلى الهيئة المُوسَّعة للمجلس الأعلى للقضاء المالي أيّ خلل فيها، وتحديدًا في العلاقة بين مصلحة التدقيق وغُرَف المحكمة أو النيابة العامة فيها.
سادسًا: إصلاحات أخرى مُتفرِّقة
السبب المُوْجِب الثامن والعشرون: إعادة النظر في الأسباب التبريرية للمخالفات
وضع القانون الحالي قائمة من الأسباب التبريرية للمخالفات. وقد عُدِّلت قائمة الأسباب التبريرية، وبخاصّة من خلال إلغاء إمكانية إعفاء المُوظَّفين من المسؤولية أو العقوبة، في الحالة التي يكون فيها الفعل المُخالف المنسوب إلى المُوظَّف المَعنيّ قد ارتُكِب “حفاظًا على المصلحة العامة”، أو بحجّة “تلافي ضرر أكيد” لما يتضمّنه هذا الإعفاء من تشريع للمخالفة.
السبب المُوْجِب التاسع والعشرون: إعادة النظر في العقوبات ضمانًا لمبدأ التناسب بين خطورة المخالفة والغرامة المحكوم بها
ينصّ القانون الحالي على فئتَين من العقوبات:
- فئة أولى من العقوبات التي يُحكَم بها عند ثبوت المخالفة بمعزل عمّا إذا تسبَّبت في ضرر أم لا؛
- فئة ثانية من العقوبات التي يُحكَم بها في حال أدّت المخالفة إلى ضرر على الأموال العامة.
احتفظ الاقتراح بفئتَي العقوبات مع إدخال تعديلات ثلاثة: (1) رفع الحدّ الأقصى للعقوبة في حال الإضرار بالمال العام إلى ضعفَي المُخصَّصات السنوية للمُوظَّف، و(2) التنصيص على مبدأ التناسُب بين خطورة المخالفة والغرامة المحكوم بها.
السبب المُوْجِب الثلاثون: مراجعة مرور الزمن
نَصَّ القانون الحالي على مرور الزمن على ملاحقة “المُوظَّفين” بعد مرور خمس سنوات على تاريخ ارتكاب المخالفة إذا كان ظاهرًا، أو على تاريخ اكتشافها إذا كان خفيًّا.
ونظرًا إلى امتناع العديد من الإدارات عن إرسال حسابات المهمّة وقطوعات الحساب للمراقبة، على نَحوٍ يمنع محكمة المحاسبات من التدقيق فيها ومن اكتشاف المخالفات فيها، فإنّ الاقتراح وضع أنّ مهلة السنوات الخمس لا تبدأ إلّا من تاريخ المُصادَقة على قطع الحساب. ويأتي هذا التعديل مُنسجِمًا مع تشدُّد المُشرِّع اللبناني في ضمان مُحاسَبة سوء استخدام المال العام، والذي تَمثَّلَ بشكلٍ خاصّ في المادّة 13 من قانون الإثراء غير المشروع، والتي اعتبرت أنَّ لا مرور زمن على ملاحقة جرائم الإثراء غير المشروع.
لتحميل مسوَّدة اقتراح القانون بصيغة PDF