الأدلّة على تدمير متعمّد لمسجد بليدا الأثري: عملية إعادة بناء ثلاثية الأبعاد للمسجد


2024-12-06    |   

الأدلّة على تدمير متعمّد لمسجد بليدا الأثري: عملية إعادة بناء ثلاثية الأبعاد للمسجد
مسجد بليدا الأثريّ (تصوير إبراهيم صفيّ الدين)

تستمرّ القوّات الإسرائيليّة في تدمير معالم القرى الحدوديّة، رغم بدء سريان إعلان وقف إطلاق النار بين اسرائيل ولبنان فجر 27 تشرين الثاني 2024. وقد رصدت “المفكّرة” تهديم القوّات الإسرائيليّة مسجد مارون الراس باستخدام جرّافة يوم الإثنين 2 كانون الأوّل 2024. وكذلك نسف منازل ومبانٍ في بلدات الخيام وكفركلا وميس الجبل بين هذين التاريخين، ما يؤشّر إلى أن سياسة المحو مستمرّة.

وتترافق هذه الممارسات مع تهديدات إسرائيليّة منعتْ عودة السكّان في القرى الحدوديّة، وأطلقت النار على بعض من عادوا في الأيّام الأولى لوقف إطلاق النار، من مواطنين وصحافيّين. 

وبلغ عدد المساجد التي دُمّرت خلال العدوان وما بعده 21 مسجدًا و3 كنائس على الأقلّ، بينها دور عبادة تاريخية وأثرية محيت بالكامل. ويتوقّع أن يكشف الوصول إلى المنطقة الحدوديّة وتوافر المزيد من صور الأقمار الاصطناعيّة عن المزيد من التدمير.

وتقوّي هذه الانتهاكات، واستمرارها رغم نصّ إعلان وقف إطلاق النار على انسحاب القوّات الإسرائيليّة من المنطقة خلال مهلة 60 يومًا، الأدلّة على اتّباع القوّات الإسرائيلية سياسة تستهدف محو القرى، بما في ذلك تدمير معالمها الثقافية والتاريخية، وهو الأمر الذي سبق ووثّقته تحقيقات سابقة لـ “المفكّرة” في قرى متاخمة للحدود مع فلسطين المحتلة.

ومن أهمّ المعالم التي تعرّضت للتدمير الممنهج، مسجد شعيب في قرية بليدا، وهو مبنى أثري مدرج على لائحة الجرد العام، ويُشتهر عنه أنّه من أقدم مساجد منطقة جبل عامل تاريخيًّا.

يكشف هذا التحقيق عن تدمير وتجريف مسجد بليدا من خلال تحليل الأدلّة المرئية وصور الأقمار الاصطناعية، بالتعاون مع “مختبر نوى ميديا” الذي نفّذ إعادة بناء ثلاثية الأبعاد للمسجد لما قبل التدمير وبعده بهدف توثيق أهميّته وحجم الدمار الذي تعرّض له. كما يناقش التحقيق قيمة المسجد التّاريخية والمعمارية، ودوره في الموروث الثقافي والذاكرة الجمعية لسكان المنطقة، مستندًا إلى المراجع التاريخية وشهادات الأهالي، ويضع الواقعة ضمن سياق جرائم الحرب الممنهجة التي تهدف إلى محو التراث الثقافي وهوية المنطقة.

مسجد النبي شعيب الأثريّ في قرية بليدا الحدوديّة (تصوير إبراهيم صفيّ الدين)

توثيق تدمير مسجد بليدا: التحقيق والأدلة

يمثّل تدمير مسجد النبي شعيب في بليدا جزءًا من نمط واسع ومستمرّ لاستهداف الهوية الثقافية والدينية للجنوب اللبناني. 

انطلق التحقيق من لقطة خاطفة ظهرت في فيديو مسرّب نشره جنود إسرائيليون على وسائل التواصل الاجتماعي، يظهر مساحة واسعة مدمّرة وضمنها مئذنة مدمّرة ملقاة على الأرض منتصف تشرين الأوّل 2024. رغم أنّ الفيديو قدّم مؤشرًا أوّليًا على استهداف مسجد، إلّا أنّه لم يكن كافيًا لتحديد هوية المئذنة أو الموقع بدقة، نظرًا لمحو معالم الأبنية المحيطة وتجريف الحارات.

فيديو سرّبه جنود إسرائيليون يظهر تهديم مسجد بليدا الأثري والحارات القديمة حوله قبل تجريفها (14 تشرين الأوّل 2024 )

أجرت “المفكّرة” مراجعة دقيقة للصور الأرشيفية لعدد من مساجد المنطقة الحدوديّة، بينها مسجد بليدا الأثري، كونه من أبرز المواقع الأثرية والتاريخية المهدّدة. أظهرت مقارنة تفاصيل المئذنة في الفيديو مع الصور القديمة، تطابقًا في شكلها وتصميمها، ممّا رجّح أنّ المئذنة الظاهرة في الفيديو تعود لمسجد شعيب.

وباستخدام التحليل الجغرافي ومقارنة الصور القديمة مع الفيديو، بالتعاون مع “مختبر نوى” تمّ تحديد موقع المسجد بدقّة رغم صعوبة التمييز بسبب التدمير الشامل للمنطقة. تمّ ربط الفيديو بالمكان، وبات واضحًا أنّ مسجد بليدا الأثريّ قد تمّ تدميره.

صورة مطابقة بالاعتماد على صور القمر الاصطناعي مع الفيديو المسرّب (إعداد مختبر نوى للإعلام)

بعد التأكد من هوية المئذنة والموقع الجغرافي، استعان التحقيق بصور الأقمار الاصطناعية لتوثيق حجم الدمار وتأكيد استهداف المسجد. الصور قبل الغزو، وتحديدًا حتّى 5 تشرين الأوّل 2024، أظهرت المسجد قائمًا في مركز القرية، محاطًا بالمباني السكنية والحارات التاريخيّة الضيّقة.

الصور بعد الغزو، وتحديدًا في 15 تشرين الثاني، كشفت عن اختفاء المسجد بالكامل، وتحول الموقع إلى مساحة فارغة. كما أظهر تحليل صور الأقمار الاصطناعية أُجري بالتعاون مع مختبر “نوى للإعلام” علامات واضحة على تجريف الركام، وهو ما يتقاطع مع وجود جرّافة إسرائيليّة تظهر بالفعل في الفيديو المسرّب. وقد تمّ طمس الأثر المتبقي للمبنى الأثريّ جرّاء التجريف. 

شاركت “المفكّرة” نتائج التحقيق  مع عدد من أهالي بليدا، وقالت السيّدة فاطمة من مكان نزوحها المستمرّ في مدينة صور: “حين رأيت المسجد مدمراً شعرت وكأن جزءاً من روحنا قد انهار. لم أحزن على خسارة بيتي بقدر ما حزنت على تدمير المسجد الأثريّ”.

صورة متحرّكة تظهر لقطتين من صور الأقمار الاصطناعية للفترة الممتدة بين 5 و24 تشرين الأول 2024

قصف سابق وتدمير على مرحلتين

تحقّقت “المفكّرة” من صور أرشيفية أظهرت أن مسجد شعيب تعرّض لأضرار نتيجة قصف سابق وقع في نيسان 2024، قبل أن يتم تدميره بالكامل وتجريفه خلال الغزو البري. ولتقييم تأثير الضربة الأولى، تعاونت “المفكّرة” مع جمعية “بلادي” لإجراء دراسة دقيقة تهدف إلى توثيق الأضرار ما يمكّن من تحديد ارتباطها بتدمير المسجد لاحقًا. أظهر التقييم أن الجدران الحاملة للمسجد، التي تميّزت بمتانتها وتصميمها الدفاعي، تعرضت لضرر طفيف تمثل في وجود فتحة صغيرة. ورغم ذلك، حافظت الجدران على سلامتها الهيكلية من دون أيّ تصدّعات تهدّد استقرارها. كما أظهرت الدراسة أنّ السقف، المبني بطريقة العقد التقليدية، لم يتأثر بأي ضرر ملموس، وظلت الأرضية سليمة تمامًا.

أضرار لحقت بالمسجد في 28 نيسان 2024

في المقابل، النوافذ الخارجية المصنوعة من الحديد والزجاج كانت العناصر الأكثر تضررًا. وثّق التقييم حصول تحطم جزئي في ستّ نوافذ نتيجة الضربة، مما صنف الضرر بأنه “متوسط”. وعلى عكس ذلك، بقيت أبواب المسجد الخشبية، بما في ذلك الأبواب الرئيسية، سليمة تمامًا.

النتائج أظهرت قدرة المسجد على تحمّل الأضرار المباشرة، بفضل متانته التصميمية والعمرانية، لكنها في الوقت ذاته كشفت عن تعرُّض هذا المعلم الأثريّ لأضرار تُظهر حساسيته أمام استهداف مستقبليّ. مع تصاعد العمليات العسكرية، أصبح واضحًا أنّ الضربة الأولى كانت بمثابة مقدّمة لتدمير المسجد بالكامل وتجريفه، في ما يبدو أنه جزء من نهج عسكري استهدف المواقع الثقافية والدينية خلال الغزو البري الإسرائيلي.

ورجّح تحليل المواد البصريّة التي توثّق تدمير المسجد الذي أُجريَ بالتعاون مع مختبر “نوى”، أنّ المسجد تعرّض لقصف قبل التدمير والتجريف. إذ يّظهر شكل تدمير المئذنة أنّها تعرّضت لقصف مدفعيّ مباشر من نقطة صفر، ما أدّى إلى تضرّرها ليس في الجزء العلوي منها، بل في المنتصف، مما أدى إلى سقوطها.

ويرجّح التحليل أنّ المسجد، بعد قصفه بالمدفعيّة من مسافة صفر، تعرّض للتدمير من خلال التفخيخ أو الهدم بالآليّات، كمرحلة ثانية، قبل أن يتمّ تجريفه بالكامل. 

المئذنة المهدّمة كما ظهرت في فيديو نشره جنود إسرائيليّون (14 تشرين الأول 2024 ) 

وقدّ وثّقت “المفكّرة” من خلال فيديوهات رسميّة ومسرّبة إسرائيليّة، تفخيخ المساجد في بلدات يارين والبستان وأم التوت ويارون والضهيرة، كما مسجد مارون الراس الذي هدّم مؤخّرًا بعد وقف إطلاق النار. كما أظهر فيديو مسرّب قبل 4 أيّام من وقف إطلاق النار هدم مسجد في طيرحرفا باستخدام جرّافة.

ودمّر القصف المباشر 13 مسجدًا وكنيستيْن على الأقل، وثّقتها “المفكّرة”، بينها جامع طيردبا ومسجد كفر تبنيت وكنيسة دردغيا ومسجد حيّ البيّاض الأثري في النبطية، وهي معالم مدرجة على لائحة الأبنية التراثية بدورها، ما يؤكّد لجوء الجيش الإسرائيليّ إلى هذه التكتيكات في استهدافه هذه المساجد التي تشترك بقيمة تاريخيّة معيّنة، إضافة إلى قيمتها الدينيّة ورمزيّتها الثقافيّة بالنسبة لأهالي هذه القرى.

الأهمية التاريخية لمسجد شعيب

كان مسجد النبي شعيب ينتصب على أعلى تلة في قرية بليدا الجنوبية كأحد أبرز المعالم الأثرية الفريدة في منطقة جبل عامل. ورغم أهمية الموقع، فإنه يعاني من نقص في الدراسات العلمية التي توثق تاريخه بشكل دقيق. لم يُدرج المسجد على لوائح وزارة الثقافة إلا عام 2003، بعد تحرير المنطقة من الاحتلال الإسرائيلي في أيار 2000، مما يعكس إهمالاً طويلاً للمعالم الثقافية في الجنوب اللبناني.

مسجد بليدا الأثريّ (تصوير إبراهيم صفيّ الدين)

ويعود أقدم ذكر معروف للمبنى كدار عبادة إسلاميّ إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وفقًا للشيخ محمد تقي الفقيه في كتابه “جبل عامل في التاريخ”، أعاد ناصيف النصار، الحاكم العام لجبل عامل، بناء المسجد بعد واقعة الحولا عام 1185 هـ (1771 م).

وفي وصف يعود لعام 1881، جاء ضمن المسح الذي أجراه “صندوق استكشاف فلسطين” البريطاني، ذكر المسجد كموقع أثري يضمّ أعمدة قديمة ونقوشًا على جانبي بابه، بما في ذلك مثلثات مزدوجة، مما يعكس قيمة معمارية وأثرية قديمة للموقع.

أهمية كبيرة في ذاكرة السكان 

يحمل مسجد النبي شعيب رمزية دينية وتاريخية كبيرة تتجذر في ذاكرة سكان بليدا والنسيج الثقافي للمنطقة. يُنسب المسجد إلى النبي شعيب، الذي يُذكر في القرآن كشخصية بارزة وغالباً ما يُربط بشخصية يثرون، حما النبي موسى في التوراة.

بالقرب من المسجد، تقع “آبار شعيب”، التي يعتقد السكان أنها الموقع الذي سقى فيه النبي موسى أغنام بنات شعيب. يشكل المسجد والآبار وحدة رمزية متكاملة تعكس ارتباط المنطقة بشخصية النبي شعيب كما تصفها الروايات الشعبية.

وفي ظل غياب توثيق علمي شامل، تضيف الروايات الشفهية أبعاداً غنية إلى تاريخ المسجد. إذ يشير السكان إلى احتمالات أن المبنى قد شغل أدواراً أخرى قبل الإسلام، مثل كونه كنيساً يهودياً أو كنيسة مسيحية، أو حتى حصناً دفاعياً في فترات مختلفة. هذه الروايات، رغم افتقارها إلى أدلة أثرية قاطعة، تُبرز ارتباط السكان العاطفي بالمكان كجزء من موروثهم الثقافي.

ومع التفكير في إعادة إعمار المسجد، تبرز الحاجة إلى دراسات أثرية متخصصة تستند إلى هذه الروايات وتضيف بُعداً علمياً لتاريخ الموقع. 

ويقول أحمد، شاب من بليدا: “هذا المسجد هو جزء من ذاكرتنا الجماعية. تدميره لن يُسكتنا، بل سيجعلنا أكثر إصراراً على البقاء هنا. سنعيد بناء كل حجر، لأن هذه الأرض لنا، ومهما حاولوا طمس هويتنا، سنظل نحميها”.

أهميّة معمارية تعزز الأهمية الأثرية والتراثيّة

ويشتمل المسجد الأثري على نمط معماري استثنائي يجمع بين عناصر تاريخية مختلفة مما يمنحه قيمة ثقافية ومعمارية، وهو لم تضف إليه قبّة إلّا مع توسعته بضمّ بناء جديد ملاصق له قبل 18 عامًا، ولم تُبنَ له مئذنة سوى قبل 50 عامًا. 

صورة تظهر المئذنة التي أضيفت قبل 5 عقود والقبّة التي أضيفت مع توسعة المسجد خلال العقدين الأخيرين (تصوير إبراهيم صفيّ الدين)

من أبرز ما يميز المسجد، هو تصميمه الدفاعي الذي يظهر في سماكة جدرانه والنوافذ السهميّة (المزاغل) الموزعة بعناية على ارتفاعات مختلفة. ويظهر أن هذه الفتحات التي تبدأ بسماكة 5 سم من الجهة الخارجية، وتنتهي بحوالي 50 سم من الجهة الداخليّة، صُمّمت لأغراض عسكرية. وهذه الخصائص الدفاعية ليست شائعة في المساجد الأخرى، ما قد يشير إلى استخدام دفاعيّ سابق للمبنى أو دور وظيفي مزدوج مزدوج كمكان عبادة وحصن.

سقف المسجد من أبرز العناصر المعمارية التي تعكس براعة التصميم الهندسي وتنوعه. يعتمد السقف على نظام إنشائي متين يستند إلى الجدران الحاملة الأربعة، ويتألف من قبوين مقببيّن على الجانبين، بينما في المنتصف يظهر سقف بعقود متقاطعة مدعوم بعمودين مركزيين، مما يحقق توازناً هيكلياً وجمالية معمارية مميزة.

صورة تظهر سقف المسجد من الداخل (شاركتها واحدة من بنات بليدا)

هذا المزيج يندر في مساجد المنطقة، ويعكس تأثّراً بالطرز المعمارية القديمة التي تجمع بين الجمالية الهندسية والكفاءة الهيكلية. هذا الأسلوب يتيح توسيع المساحة الداخلية وإضفاء إحساس بالارتفاع والانفتاح، مع توفير الدعم اللازم لاستقرار البناء عبر العصور.

ويتميز البناء بعناصر معمارية تعكس تطوراً زمنياً في تصميمه. الحجارة المستخدمة في النوافذ الكبيرة تختلف بشكل ملحوظ عن تلك المستخدمة في النوافذ السهميّة (المزاغل) الصغيرة، مما يشير إلى أن هذه النوافذ الكبيرة قد تكون قد أُضيفت في وقت لاحق كجزء من جهود التطوير، وربّما بهدف توفير إضاءة وتهوئة طبيعيتين للمساحة الداخلية.

يتوسط المحراب الجدار الجنوبي للمسجد، ويُعد من أبرز العناصر المعمارية في المساجد الإسلامية. يتمثل دوره الأساسي في تحديد اتجاه القبلة، مما يساعد على تنظيم صفوف المصلين. يُعتقد أن تصميم المحراب المعماري قد يساهم في تحسين الصوت داخل المسجد، حيث يعمل تجويفه على تركيز صوت الإمام وتوجيهه نحو المصلين بفضل الانعكاسات الصوتية الناتجة عن شكله المقوس. يتميز المحراب في مسجد بليدا بإطارات مزخرفة تحيط به، تتضمن مقرنصات دقيقة الصنع تضفي على التصميم قيمة فنية عالية.

زُينت الجدران الخارجية بزخارف غنية ومتنوعة مميزة، من أبرزها نجمة سداسية كبيرة بارزة على الجدار الجنوبي. كما انتشرت النقوش والزخارف عند المدخل، وفوق المحراب، وحول النوافذ، والمكاسل. 

وأعمال البناء التي أُضيفت على المسجد، رغم تنوعها الزمني، حافظت على هذا الطابع الأثري. في السبعينات، تعرّض المسجد لأضرار بسبب قصف سابق، مما دفع الأهالي إلى تدعيم سقفه بالباطون المسلح. شارك وفيق إبراهيم، وهو عامل بناء سبعيني من أبناء بليدا، شهادته عن تلك المرحلة، وذكر أنّه تبرّع مع شقيقه بالعمل على تدعيم السقف للحفاظ على المسجد.

المئذنة، التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من المسجد، أُضيفت في السبعينات أيضًا بتبرعات الأهالي. وفقًا لشهادات محلية، نظّمت جمعية القرية حملة تبرعات وأشرفت على عملية البناء، لتعويض غياب وجود بلدية رسمية في ذلك الوقت. والمئذنة بُنيت بتصميم بسيط ومتواضع، لكنه يتناغم مع الطابع الأثري للمسجد.

ويعدّ تدمير مسجد بليدا خسارة فادحة لتراث ثقافي ومعماري فريد، إذ لا يوجد في جبل عامل أي مسجد آخر يجمع بين هذه الخصائص المعمارية المميزة والأهمية التاريخية العميقة.

حجارة نافرة بشكل هندسي متناسق للزينة  (تصوير إبراهيم صفيّ الدين)

“طمس لروح المجتمع”

تصِف الصحفية الزميلة إيمان العبد، ابنة بليدا، المسجد بأنه أكثر من مجرد مكان أثري أو ديني، بل هو ذاكرة حية للقرية: “كان المسجد شاهداً على جميع مراحل حياتنا، من الأفراح إلى الأحزان. تدميره محاولة لطمس روح المجتمع، لكنه سيظل جزءاً من هويتنا، وسنعيد بناءه كرمز لصمودنا”.

بعد عدوان عام 2006، رفض الأهالي بناء مسجد ثان في البلدة، رغم النموّ السكّاني وعودة أهالي بليدا إليها بعد التحرير. وكان القرار الذي دعمه الأهالي هو توسعة المسجد عبر بناء محاذٍ له يتصل به. 

وشملت أعمال البناء وضع قبة لأول مرّة فوق المسجد، ومحاولة توحيد الطراز بين القسم الجديد والمسجد القديم من خلال اعتماد الحجر المحلّي في بناء القسم الجديد وإضافة شرّافات أعلى البناء بأكمله. 

من الإضافات التي لحقت بمسجد بليدا الأثريّ بعد توسعته خلال العقدين الأخيرين (تصوير إبراهيم صفيّ الدين)

ويقول الحاج علي، أحد كبار السن في بليدا: “المسجد كان قلب القرية. لم يكن مجرد مكان نصلي فيه، بل كنا نجتمع فيه لنحلّ مشاكلنا، ونفرح معاً في أفراحنا، ونتكاتف في عزائنا. تدميره ليس فقط تدمير حجارة، بل محاولة لكسر روحنا، لكننا سنبني كل ما هدموه وسنبقى هنا.”

وتأتي شهادات أهل بليدا لتضيف طبقات من الأهمية ترتبط بمكانة المسجد لديهم، ليس فقط كونه مكاناً للعبادة، بل كشاهد على تاريخهم وحاضنًا لتفاعلهم الاجتماعيّ اليوم. 

جريمة حرب 

ويندرج استهداف مسجد شعيب ضمن نمط متكرر من الهجمات التي تستهدف الممتلكات الثقافية والدينية في جنوب لبنان. هذه السياسة الممنهجة تجعل الهدف من هذه الهجمات لا يقتصر على تدمير البنى المادية، بل يمتد إلى محو معالم القرى وطمس الهوية الثقافية للمجتمعات وإضعاف الروابط التاريخية التي تعزز صمودها. 

ويعكس استمرار هذا النمط من الهجمات نوايا إسرائيليّة لم يلبّها إعلان وقف إطلاق النار، والذي وضع مدة زمنيّة للانسحاب، فيما يستمرّ نمط من الجرائم سيترك أثرًا طويلًا، وهو ما يعكسه استمرار تفجير الأحياء السكنيّة في ميس الجبل وكفركلا والخيام، وتهديم مسجد مارون الراس.

قانونيًا، يُعدّ استهداف مسجد شعيب انتهاكًا واضحًا للقانون الدولي الإنساني. إذ تحظر اتفاقية لاهاي لعام 1954 استهداف الممتلكات الثقافية أثناء النزاعات المسلحة. علاوة على ذلك، تصنّف المادة (8) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية “التدمير الواسع النطاق للممتلكات دون ضرورة عسكرية” كجريمة حرب. الأدلة التي تم جمعها تُظهر غياب أيّ مبرر عسكري لاستهداف المسجد، لاسيّما مع تدميره خلال الغزو البرّي، ومن مسافة صفر، مما يُعزز التصنيف القانوني لهذه الجريمة.

إعادة البناء ثلاثي الأبعاد: استعادة الذاكرة المكانية

وفي إطار الجهود المبذولة لتوثيق حجم الدمار الذي طال مسجد النبي شعيب في بليدا، تعاونت “المفكرة” مع مختبر “نوى” لإجراء عملية إعادة بناء ثلاثي الأبعاد للمسجد. اعتمدت العملية على دمج الصور الأرشيفية المتاحة، وشهادات الأهالي الذين احتفظوا بذكريات دقيقة عن تفاصيل المسجد المعمارية، بالإضافة إلى التحليل الدقيق للفيديوهات المسربة وصور الأقمار الصناعية.

إعادة بناء ثلاثيّ الأبعاد لمسجد بليدا قبل تدميره على يد القوّات الإسرائيليّة خلال الغزو البرّي 

تم جمع الصور القديمة للمسجد من أرشيفات محلية وأفراد في بليدا، حيث أظهرت تفاصيل واضحة عن تصميم المسجد، بما في ذلك القبة، والمحراب، والنوافذ، وكان لشهادات سكان بليدا، الذين عاشوا بالقرب من المسجد واستخدموه في حياتهم اليومية، دورٌ محوريّ في تحديد العناصر التي لم تكن موثقة بصرياً.

أظهرت النماذج ثلاثية الأبعاد للمسجد شكلاً قريباً جداً من تصميمه الأصلي، مع إبراز العناصر المميزة مثل القبة والمئذنة والنوافذ الكبيرة وتلك السهمية. 

وتُعدّ عملية إعادة البناء ثلاثي الأبعاد أداة حاسمة في توثيق جرائم الحرب التي تستهدف التراث الثقافي، إذ توفر دليلاً بصرياً موثقاً يمكن تقديمه أمام المحافل القانونية الدولية. ويساعد هذا التوثيق في إثبات النية الممنهجة لتدمير معالم دينية وثقافية، وهو ما يُصنَّف كجريمة حرب بموجب اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في النزاعات المسلحة. كما أن هذه النماذج تُشكّل أساساً لأي جهود مستقبلية لإعادة بناء المسجد فعلياً. 

إعادة بناء ثلاثيّ الأبعاد للمكان بعد تدمير وتجريف مسجد بليدا الأثريّ والحارات القديمة المحيطة
انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، العدوان الإسرائيلي 2024



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني