صدَرَ يوم الأربعاء 10 جويلية 2024 بالرّائد الرّسمي الأمر الرّئاسي المُتعلّق بضبط الأجر الأدنى المضمون لمُختلف المهن في القطاعات غير الفلاحية الخاضعة لمجلة الشغل. والّذي ينصّ على التّرفيع بنسبة 7 % في الأجر الأدنى المضمون في القطاع الخاص انطلاقا من الشهر القادم، بأثر رجعي بداية من 1 ماي 2024، ثمّ زيادة ثانية بنسبة 7.5 % بداية من غرّة جانفي من السّنة القادمة. سينجرّ عن هذه الزيادة الترفيع الآلي -ضمن نفس الشّروط- في جرايات المتقاعدين في القطاع الخاص المُنضوين تحت الصّندوق الوطني للضّمان الاجتماعي، والمنتفعين بجراية العجز في إطار التّعويض عن الأضرار الحاصلة عن حوادث الشّغل والأمراض المهنيّة المُسندة من الصّندوق الوطني للتأمين على المرض، إضافة إلى المنتفعين بمِنَح الشّيخوخة من الصّندوق الوطني للتّقاعد والحيطة الاجتماعيّة. كان هذا الإجراء مسبوقا بتحرّكات مطلبيّة عدّة منذ مطلع السّنة الحاليّة من قبل الجامعة العامّة للمتقاعدين، بخاصّة وأنّ الدّولة تخلّفت في السّنة المنقضية على التّرفيع في الأجر الأدنى المضمون.
صاحَبَ هذا الإجراء دعاية للمنظومة الشعبويّة عبر أذرعها السّياسيّة والإعلاميّة والبيروقراطيّة، مَفادها أنّ قرار الرّئيس يُعتَبر “تكريسًا لأسس مبادئ الدّولة الاجتماعيّة”. وهو ما شدّدت عليه حياة بن إسماعيل، رئيسة الهيئة العامة للشّغل والعلاقات المهنية بوزارة الشؤون الاجتماعيّة في النشرة الرّئيسيّة للأخبار في القناةالوطنيّةالأولى. لم تكتفِ المسؤولة المذكورة بذلك الحدّ، بل صوّرت هذه الزّيادة على أنّها حدث استثنائي سيُساهم في تحسين الأوضاع الماديّة والاجتماعيّة للمنتفعين بها، علما أنّ المفعول الماليّ الشّهري لهذا التّرفيع في حدود 32 د. (حوالي 10 دولارات شهريّا). بينما من المفترض أن يخضع الأجر الأدنى للزيادة الدوريّة على غرار مفاوضات التّرفيع في الأجور في القطاعين العامّ والخاصّ في إطار تعديل الأجور لتستوعب تطوّر المستوى العامّ للأسعار. إذ أن التّرفيع في مستوى الدّخل ليس مِنّة، وإنّما ضرورة في اقتصاد السّوق لتحفيز الاستهلاك والحفاظ على قُوى الإنتاج واستقرار علاقات الإنتاج أو ما يعبّر عنه في تونس بـ”السّلم الأهليّة”. علاوة على ذلك، لا تُمثّل الزّيادة قرارا سياسيّا خارقًا، لا سيما في الحالة التّونسيّة التّي تتميّز بضعف الأجور وتدنّي القدرة الشّرائيّة، في حين تقُابلها زيادة ماليّة دنيا لا ترتقي حتّى لتغطية أجرة طبيب اختصاص (22 دولار) بالأخصّ بالنّسبة للمتقاعدين.
عمّال القطاع الخاصّ: أجرَاء الهشاشة
إثر الزّيادة الأخيرة، سيَمرّ الأجر الشّهري الأدنى المهني المضمون في القطاعات غير الفلاحيّة -بنظام عمل 48 ساعة في الأسبوع- من 459 د (146 دولار) إلى 491 د (156 دولار)، فيما سيمرّ الأجر الأدنى الفلاحي في اليوم من 17.6 د (5.6 دولارات) إلى 19 د (6 دولارات). وتجدر الإشارة إلى انه تمّ توحيد القيمة الماليّة للأجر الأدنى في مختلف القطاعات، منذ سنة 2012، بعد أن كان الأجر الأدنى الفلاحي أقلّ من نظيره في بقيّة القطاعات. رغم التّرفيع يبقى الأجر الأدنى المضمون في تونس من أضعف الأجور الدّنيا في العالم وحتّى في الاقتصادات التي تتقَارب معها من حيث البنية وحجم الناتج المحلّي الإجمالي، على غرار المغرب الذي يبلغ فيه الحدّ الأدنى للأجور في القطاعات غير الفلاحيّة 316 دولار، والأردن 382 دولار، ولبنان 400 دولار (انخفض إلى 200 دولار منذ العام 2019)، [1][2] ومصر 195 دولار.
يستهدف هذا الإجراء العمّال المباشرين في القطاع الخاصّ الغير مؤهّلين والذين يتحصّلون على الأجر الأدنى المضمون الذي تعرّفه مجلّة الشّغل (الفصل 134) على أنّه “الحدّ الأدنى الذي لا يُمكن النّزول تحته لتأجير عامل مكلّف بإنجاز أعمال لا تتطلّب اختصاصا مهنيّا”. كما أنّه ينسَحب على القطاعات غير المشمولة باتّفاقيات قطاعيّة مشتركة بين أرباب العمل والمنظّمات النّقابيّة، التي تحدّد شروط العمل في القطاع المعني ومن بينها مستوى الأجور الذي يخضع للزّيادة النّاتجة عن المفاوضات الاجتماعيّة بين الاتّحاد العامّ التّونسي للشّغل والاتّحاد التّونسي للصّناعة والتّجارة والصّناعات التّقليديّة. بهذا المعنى، تُعتبر الفئة المعنيّة بالزيادة هي الشّريحة الأكثر استغلالا في سوق الشّغل، والتي تعمَل وفق ظروف عمل مُوغلة في الهشاشة على غرار نظام العمل بالمناولة sous traitance، والعمل الوقتي، وعقد الشّغل لمدّة زمنية معيّنة. كما أنّ هذه الشريحة غير منضوية في نقابات، ممّا يجعلها أكثر عرضة لمختلف الخروقات (العطلة الأسبوعيّة والسّنويّة والسّاعات الإضافيّة، إلخ).
وتزداد ظروف العمل سوءًا بالنسبة إلى العمّال المُشتغِلين بشكل غير مُهيكل، أي من دون عقود، سواء كانوا في القطاع الرّسمي أو الموازي. تُمثّل هذه الفئة 32% من مجمل السكّان النشطين العاملين و43.3% من مجمل العاملين في القطاع الخاصّ لسنة 2015. وهو ما يوافق مليون و92 ألف عامل.[1] مما يدلّ على أنّ حوالي نصف العاملين في القطاع الخاصّ غير مَشمولين بالتّغطية الاجتماعيّة والصحيّة. كما أنّ شريحة واسعة من بينهم تتقاضى أجورا دون الأجر الأدنى المضمون.
أمّا بخصوص المتقاعدين، والذي يبلغ عددهم حوالي مليون و200 ألف متقاعد، فيتوزّعون إلى صنفيْن: يشكّل الصّنف الأوّل متقاعدي القطاع العامّ البالغين حوالي 400 ألف والذين يتحصّلون على جراية التّقاعد من الصّندوق الوطني للتّقاعد والحيطة الاجتماعيّة، وتخضع هذه الجراية للزيادة الآليّة المنجرّة عن المفاوضات الاجتماعيّة في القطاع العامّ. أمّا الصّنف الثاني فيُمَثّله متقاعدو القطاع الخاصّ والبالغ عددهم قرابة 800 ألف، إذ يخضع تعديل جراياتهم التي يتقاضونها من الصّندوق الوطني للتضامن إلى تعديل الأجر الأدنى. قرابة 500 ألف (62.5%) من بينهم يتقاضون جراية تقاعد دون الأجر الأدنى المضمون، لتبلغ جراية التّقاعد الدّنيا 180 د (57 دولار).
هذا المستوى المُتدنّي لجرايَات التّقاعد يعود إلى ضعف الأجور في القطاع الخاص. بالإضافة إلى تأثير الاقتطاع لفائدة الصّندوق الوطنيّ للتأمين على المرض والمساهمة المحمولة على المتقاعد لفائدة الصّندوق نتيجة تعديل جراية التّقاعد، تمّ إعفاء أصحاب جرايات التّقاعد الدّنيا من المساهمة بقرار حكومي سنة 2020. حسب الفصل 37 منالقانونعدد 12 لسنة 1985 والمتعلّق بنظام الجرايات المدنية والعسكرية للتقاعد والباقين على قيد الحياة في القطاع العمومي (تَنسحب أحكامه على القطاع الخاصّ)، كانت مساهمة المتقاعد في حدود 5% لمدّة 3 سنوات فقط من بداية فترة التّقاعد، فيما يُساهم المؤجّر طيلة مدة الجراية بنسبة 7%. غير أنّه وقع تنقيح هذا الفصل في قانونالماليّةلسنة 2002 في الفصل 86، الذي أقرّ التّعديل الآلي لراتب التّقاعد إثر كلّ ترفيع في أيّ عنصر من العناصر القارّة للمرتّب الموافق للرّتبة التي تمّ على أساسها الإحالة على التّقاعد وعند إحداث أي منحة قارة تتعلق بالرتّبة، في المقابل تمّ التّرفيع في نسب مساهمة المتقاعد، وهكذا انقلبت الوضعيّة عبر نَقل المساهمة المحمولة على المؤجّر إلى كاهل المتقاعد. على هذا الأساس، أصبح المنتفع بالجراية يُساهم بـ 9.2% طيلة مدّة التمتّع بها، في حين يساهم المشغّل بـ 14.5% لمدّة السنوات الثلاث الأولى فقط، ومن ثمّ يتمّ إعفاء المشغّل وإضافة النّسبة الموكولة له إلى المتقاعد طيلة فترة الصّرف، وهو ما تمّ تضمينه فيالقانونعدد 43 لسنة2007 المتعلّق بتنقيح القانون عدد 12 لسنة 1985.
انطلاقا من ذلك، أصبح المتقاعدون مُلزمون بدفع مساهمة بـ 9.2 % خلال السنوات الثّلاث الأولى ومن ثمّ بـ 23.7% كامل مدّة حصولهم على جراية التّقاعد إثر كلّ زيادة في الجراية. تبدو فلسفة هذا التوجّه واضحة، وهي الفلسفة العامّة التي تقود الاقتصاد التوّنسي منذ عقود والمتمثّلة في الانسحاب التّدريجي من الاقتصاد لصالح هيمنة رأس المال الخاصّ وتخفيف الأعباء الماليّة المحمولة عليه سواءً كانت ضريبيّة أو إجتماعيّة ورميها على كاهل الأجراء، وهي سياسة مدفوعة بتبريراتٍ عدّة مثل تحفيز الاستثمار الخاصّ والرّفع من تنافسيّته وزيادة فرض التّشغيل. لكنّ حصيلة هذا التمشّي تُبرز دور القطاع الخاصّ في توسيع دائرة الفقر وتضع مقولة الدّولة الاجتماعيّة موضع المساءلة.
تدَهور القدرة الشرائيّة
لا مُراء في أنّ الأرقام المعروضة تُشير إلى أنّ بنية الاقتصاد المحلّي بصدد توليد الهشاشة والعَوَز، إذ أن قرابة 2 مليون أجير (مباشرين ومتقاعدين) يَعيشون على الكفاف، وهم الذين تصحّ عليهم عبارة “يَبيعون قوّة عملهم للبقاء على قيد الحياة”. يُمثّل هؤلاء جزءًا من خارطة الفقر التي تَشمل قرابة 4 ملايين شخص، أي أكثر من ثلث الشّعب حسب تصريح وزير الشؤون الاجتماعيّة السّابق مالك الزّاهي[2]. أحد العوامل المُنتجة للفقر هو الخيار السّياسي للدّولة الاستقلاليّة في تبنّي سياسة الأجور المنخفضة ودعم بعض الموادّ الأساسيّة في إطار الصندوق العامّ للتّعويض. يُمثّل هذا التوجّه أحد أعمدة النموذج الاقتصادي القائم منذ حوالي 60 سنة والذي أفضى بدوره إلى جعل تونس في قائمة الدّول الأضعف من حيث المعدّل العامّ للأجور بـ 924 د، ما يعادل قرابة ضعف الأجر الأدنى. ويَبلغ المعدّل العامّ للأجور بالنسبة للعمّال 658 د، ما يعادل مرّة ونصف الأجر الأدنى[3].
تطوّر الأجر الأدنى وتطوّر نسبة التضخّم من 2020 إلى غاية جوان 2024
السّنة
2020
2021
2022
2023
2024 (معدّل 6 أشهر الأولى)
الأجر الأدنى المضمون (نظام 48 ساعة في الأسبوع)
403 د
429 د
459 د
459 د
491 د
نسبة ترفيع الأجر الأدنى المضمون (نظام 48 ساعة في الأسبوع)
عدم التّرفيع
6.5%
7%
عدم التّرفيع
7%
نسبة التضخّم
5.6%
5.7%
8.3%
9.3%
7.4%
المصدر: المعهد الوطني للإحصاء والأوامر الرّئاسيّة المتعلّقة بالتّرفيع في الأجر الأدنى المضمون
في ظلّ هذا الواقع، بَلغَ التضخّمفيالسّنواتالأخيرة مستويات قياسيّة بالتّوازي مع غياب كلّي أو ظرفي ومتواتر للموادّ الأساسيّة في السّوق. ورغم ذلك كانت نسب التّرفيع سواء في الأجور أو في الأجر الأدنى المضمون دون مستوى التضخّم. يُبرِز الجدول السّابق تَخلّف الدّولة على الترفيع في الأجر الأدنى لسنتي 2020 و2023 رغم المنحى التّصاعدي لمؤشّر الأسعار عند الاستهلاك العائلي، وهو ما أدّى إلى تدهور القدرة الشّرائيّة للأجراء بشكل عامّ، والأجراء من أصحاب الرواتب وفق الأجر الأدنى المضمون والمتقاعدين بشكل خاصّ. فقد فقَدَ هؤلاء قرابة 16 نقطة في قدرتهم الشّرائيّة (الفارق بين نسبة التضخّم ونسبة التّرفيع) منذ سنة 2020. بينما تتطلّب ديناميّة اقتصاد السّوق، أن يتجاوز تطوّر الأجور تطوّر الأسعار لتطوير نسق الاستهلاك والقيام بالاستثمارات الشخصيّة (اقتناء منزل وسيّارة) لدعم السّوق الماليّة بغرض دعم الإنتاج أو النموّ. لكنّ اللّبرلَة على الطّريقة التّونسيّة متّجهة نحو “دمقرطَة الفقر”، حيث أصبح معظم التّونسيّين يعيشون على وقع صعوبات التّداوي وصعوبات الحصول على الموادّ الأساسيّة المدعومة التي تشكّل سلّة الغذاء الأساسية (حليب نصف دسم، قمح ليّن وقمح صلب، زيت النّخيل، سكّر، أرز) ولم تتمّ مراجعتها منذ سبعينات القرن الماضي.
في دراسة نُشرت سنة 2021 تحت عنوان “ميزانيّة الكرامة في تونس”[4]، وبعد احتساب مختلف المصاريف الضّروريّة (كراء، تعليم، تغذية، تنقّل…) بالأسعار الجارية، تمّ تقدير الأجر الشهري التّقريبي الذي يوفّر الحدّ الأدنى لحياة كريمة لعائلة تونسيّة متكوّنة من 4 أفراد بحوالي ـ6 مرّات ضعف الأجر الأدنى المضمون، أي ما يُعَادل 2418 د. هذا التقدير أجرِيَ سنة 2019 حين كان التضخّم في حدود 6.7%. هذا الأجر الذي اعتبرته الدّراسة “ميزانيّة الكرامة” يُصوّر الفرق بين الواقع المضني للتّونسيّين وبين الخطاب الرّسمي المغشوش الذي يستثمر في خطاب “الدّولة الاجتماعيّة” لاستقطاب المفقّرين والمهمّشين لغايات إنتخابيّة.
[1] « Protection sociale et économie et économie informel en Tunisie : Défis de la transition vers l’économie formelle », Centre des recherches et d’études sociales et la Banque Africaine de Développement, 2016.
[2] جلسة إستماع بمجلس نوّاب الشّعب بتاريخ 31 أوت 2023.
[3] « Enquête Emploi et Salaires auprès des Entreprises en 2022 », INS, 2022.
[4] Pierre Concialdi « Un budget de la dignité pour la Tunisie», Institut de recherches économiques et sociales et Alert Tunisie et Friedrich Ebert Stiftung, 2021.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.