الأبعاد المغيبّة في قانون الشّيكات الجديد


2025-02-26    |   

الأبعاد المغيبّة في قانون الشّيكات الجديد

دَخلت الأحكام الجديدة المتعلّقة باستعمال الشّيكات حيّز النّفاذ مطلع الشّهر الحالي، إثر إطلاق البنك المركزي للمنصّة الرّقميّة الموحّدة “TuniChèque”، ضمن تفعيل القانون عدد 41 لسنة 2024، المتعلّق بتنقيح بعض أحكام المجلّة التّجاريّة، أو ما أصبح يعرف بقانون الشّيكات الجديد. منذ بداية تطبيقه، أوجد القانون حالة متواصلة من الجدل بسبب الإشكالات التي طرحها في المعاملات الاقتصاديّة؛ جدل يُضاهي مركزيّة الشّيك في منظومات الدّفوعات التّونسيّة.

تمركز البعد السّياسي للتّعديلات الجديدة حول قضيّة الصّكوك دون رصيد في جانبها القانوني. في المقابل، تَغاضىَ عن الدّور المحوري للشّيك في النّشاط الاقتصادي، لا بوصفه آليّة خلاص حينيّة وإنّما كوسيلة دفع مؤجّلة تُمكّن شريحة ممتدّة من التّونسيّين من التزوّد في غياب السّيولة النّقديّة اللاّزمة، ما يجعل من الصكّ المؤجّل أداة دفع للطّلب الدّاخلي. لكنّ المُشرّع جَرّمَ مسك الصكّ كضمان، أي أنّه غيّر من هيكلة نظام الدّفوعات. وهكذا غَيّرَ من علاقات البيع والشّراء. ورغم ذلك لم تقم مؤسّسات الدّولة المعنيّة بأيّة دراسة كميّة قبليّة لقياس تأثير التغيير الحاصل على الاقتصاد أو تقديم بدائل تعويضيّة بنفس الفاعليّة. وهذا التمشّي يُبرز السّمة العشوائيّة في إدارة البلاد.

القانون الجديد هو مبادرة تشريعيّة لرئاسة الجمهوريّة. ظَهر بمثابة الأولويّة التشريعيّة نظرا لسرعة تطبيقه وعدم إقراره فترة انتقاليّة تُمَكّن الفاعلين الاقتصاديّين من التصرّف بشكل جيّد في الصّكوك المتداولة كضمان، مما فاقم حالة الارتباك بينهم. وبذلك عالج المُشرّع مُشكلاً (الشّيكات دون رصيد) لكنّه خلق مشاكل أخرى أكثر تشعّبا. يُحيلنا هذا إلى التساؤل حول الجدوى الاقتصاديّة لتنقيح المجلّة التّجاريّة. وبصورة أدقّ، من المستفيد من قانون الشّيكات الجديد؟

نحو التّخفيف في جرائم الشِّيك وتَقييد استعماله

يُمثّل الشّيك قانونيّا وسيلة دفع كتابيّة حينيّة، تُمكّن المستفيد منه من تحويله إلى نقد بشكل فوري إثر توجّهه إلى البنك. يقتضي ذلك أن يتمتّع ساحِب الشّيك بحساب بنكي يحتوي على مخزون مالي سابق الوجود يغطّي قيمة الشّيك الذي تمّ إصداره للمستفيد. على خلاف القانون، أوجد التّونسيّون صيغًا أخرى للصّكوك اتّخذت مكانة العرف الاجتماعي عبر اعتماده كوسيلة دفع مؤجّلة سواء بالتّقسيط أو كضمان لغاية القيام بالدّفع. فَتحَت هذه الاستعمالات المجال للسّقوط في جرائم الشيك دون رصيد.

هناك شبه إجماع على أنّ النصّ القانونيّ القديم نصّ تعسّفي، حيث يُعاقَب بالسّجن لمدّة 5 سنوات وخطيّة ماليّة على كلّ شيك دون رصيد بغضّ النّظر عن قيمته الماليّة. تسبّب ذلك في عقوبات سجنيّة ثقيلة ضد المحكومين في هذا النوع من القضايا. ويتّسم النّقاش العامّ حول جريمة الشّيك دون رصيد بمبالغة غير مبرّرة، من خلال التّرويج بوجود آلاف المسجونين والموقوفين في هذا النّوع من المخالفات، ورَبط ذلك بمعضلة اكتظاظ السّجون ومراكز الإيقاف في تونس. في حين أنّ المعطيات الرّسميّة تُفيد أنّ العدد الجملي للمودَعين في السّجون من أجل جريمة الشّيك دون رصيد بَلغ إلى غاية أفريل من العام المنقضي 496 مودعا، يتوزّعون بين 292 محكوما و204 موقوفا في انتظار المحاكمة، فيما بلغ عدد القضايا 11265 قضيّة باعتبار أنّ كلّ صكّ يُمثّل قضيّة على حدة.

يبدو أنّ حالة التّضخيم خلَقت سياقا متماهيا مع النّزعة القانونيّة الشكلانيّة التي يَحتكم إليها رئيس الجمهوريّة في ممارسته للسّلطة، عبر تبجيله النّصوص واعتمادِه منطقًا مقطوع الصلة بالواقع. يتجلّى ذلك في اقتصاره على تكليف وزارة العدل بمراجعة الأحكام المتعلّقة بالشّيكات، والحال أنّ جوهر القضيّة اقتصادي.

تمحور جوهر التّعديلات الجديدة حول مراجعة الجانب الزجري للقانون عبر التّخفيف في العقوبات السّجنيّة والماليّة، وضمّ العقوبات السّجنيّة لسَاحب الشّيك أيضا، وتوسيع نطاق إجراءات التّسوية لتشمل إضافة إلى مرحلة التتبّع والمحاكمة مرحلة تنفيذ العقوبة. كما تمّ تجريم تسلّم الصكّ كضمان. ومن أبرز الحجج التي يستند إليها المباركون للتّعديلات -وفي مقدّمتهم البنك المركزي- أنّ النّص الجديد يُعيد توزيع المسؤوليّات في اتّجاه تحميل جزء هامّ منها للبنوك.

وفق الأحكام الجديدة اضطلع البنك المركزي بإحداث المنصّة الإلكترونية التي تُمكّن من التحقّق الفوري من توفّر الرصيد في حساب سَاحب الشيك، وفي حالة توفّره يتمّ حجزه فوريّا لفائدة المستفيد، إلى حين خلاصه في أجل 8 أيّام. ويُلزِم القانون البنوك بالانخراط في المنصّة وتوفير كامل المعطيات الخاصّة بالرّصيد المالي للحرفاء الذي يملكون دفاتر شيكات. كما يُلزمها قبل إصدار الدّفتر بدراسة الملاءة الماليّة للحريف وتقويمها باعتبار مستوى التداين بالنسبة إلى التزاماته المالية الجارية وغير الجارية، وتحديد قدرة الحريف على تغطية الدفوعات بالشيك خلال مدة صلوحيّة الدّفتر، ومراقبة التصرفات ذات المخاطر والتدفقات النقدية بالحساب الجاري التي تتجاوز قدرة الحريف على الخلاص.

بناءً على هذا، تمّ تقييد التّعامل بالصّكوك، من خلال إعطاء المصرف سلطة تحديد قيمة السّقف العامّ لدفتر الشّيكات. ويتمّ تقسيم القيمة المذكورة على عدد أوراق الدّفتر بقيمة ماليّة قصوى يتمّ التّنصيص عليها على الورقة من دون أن تتجاوز في كلّ الحالات 30 ألف دينار. وفي حالة عدم وجود الرّصيد كليّا أو جزئيّا، فإنّ البنك مُطالب بإعلام المستفيد والسَّاحب، وفي غياب الإعلام يصبح البنك مَدينًا بالمبلغ للمستفيد، وهي حالة شبه مستحيلة، لأنّ مسؤوليّة البنك تقتصر على إجراء إداري بسيط لن يسهو عنه ليتحمّل مسؤوليّة دين.

على خلاف الصّيغة القانونيّة القديمة، فَرّق قانون الشّيكات الجديد بين صنفين من الصّكوك دون رصيد. الصّنف الأوّل يشمل الصّكوك التي تتضمّن أكثر من 5 آلاف دينار ويُعَاقب صاحبها بسنتين سجن وخطيّة ماليّة مع إمكانيّة التّسوية التي تُوقِف التّنفيذ. في حين تمّ رفع التّجريم عن الصّنف الثّاني من الصّكوك التي تتضمّن قيمة ماليّة تساوي أو تقلّ عن 5 آلاف دينار دون رصيد. في هذه الحالة، يقوم البنك الذي سحب عليه الشّيك دون رصيد بخلاص المستفيد ليحلّ محلّه في إجراءات الصّلح مع سَاحب الشّيك، وفي حالة تعذّر الصلح تُثير النيابة العمومية التتبّعات الجزائيّة بناء على طلب من البنك.

تستعرض القراءة القانونيّة الجافّة الأحكام الجديدة بوصفها تصحيحًا لوضعيّة لا قانونيّة في استعمال الصّكوك. كما أنّها تُعطي ضمانات أوسع للدّائنين وتُبدي أكثر مرونة في التّعامل مع حالات الشّيك دون رصيد، والتي ستتضاءل بشكل لافت في ظلّ القيود القانونيّة الجديدة، وبالأخصّ مع الدّور المحوري الذي ستلعَبه المنصّة الإلكترونيّة في هذا الشّأن. هذه القراءة الجزئيّة -على صوابها- تُهمّش الآثار العميقة لهذه التّعديلات على المستوى الاجتماعي والاقتصادي.

المجتمع يصنع بدائله

يلجَأ الأشخاص الطّبيعيّون إلى الصكّ كوسيلة دفع مؤجّلة؛ إمّا للحصول على خدماتٍ مثل تأمين السيّارة أو دفع تكاليف التّعليم الخاصّ أو الحصول على خدمات صحيّة في القطاع الخاصّ أو حتّى خلاص خدمات صيانة منزليّة بسيطة، إضافة إلى توفير حاجياتهم من السّلع اللازمة من تجهيز المسكن إلى اقتناء الملابس. وبسبب غياب السّيولة اللاّزمة، يُقدّم الحرفاء صكوكا للدّفع بالتّقسيط أو كضمان إلى غاية أجل متّفق عليه لتوفير المبلغ المطلوب. لا يختلف الأمر كثيرا بالنّسبة لصغار المستثمرين من الشّركات الصّغرى والمتوسّطة والتجّار والفلاّحين، الذين تُمثّل لهم ورقة الشّيك بمثابة مصدر المال المتداول “un fond de roulement”، وهو المال الذي يستحقّونه بشكل آنيّ أو على المدييْن القصير والمتوسّط لتمويل عمليّات الإنتاج أو الخدمات المقدّمة. اللاّفت للنّظر في الاقتصاد التّونسي أنّه يُمكن لفاعل اقتصاديّ القيام بدورة إنتاج كاملة من دون توفّر رصيد نقدي سابق الوجود ومن دون المرور بالبنك، وذلك عن طريق تقديم صكوك مؤجّلة الدّفع.

تُمثّل هذه الوضعيّة نموذجًا مثاليّا لقدرة الواقع الاقتصادي على إفراز تجربة خصوصيّة تَحكمها قوانينها الخاصّة كإجابة على الصّعوبات التي تعترضه، والتي تتجاوز التّشريع والمؤسّسات. هذه الخصوصية ابتدعهَا المجتمع التّونسي كبديلٍ للموانع البنكيّة التي تُقيّد الولوج إلى الاقتراض وكلفته العالية في حال توفّره، وهي كلفة التّأمين والخدمات الإداريّة ونسبة الفائدة التي تزداد ارتفاعا في حالة القروض قصيرة ومتوسّطة المدى. ومع هشاشة عقود العمل وتدهور القدرة الشّرائيّة وتغيّر نمط الاستهلاك، يلجأ عددٌ من التّونسيّين إلى المحيطين بهم ممّن يمتلكون دفاتر شيكات لاقتناء مستلزماتهم، في عمليّة تُشبه السّلفة أو حتّى استلاف المال مقابل شيك ضمان لتوفير السّيولة. تَبرز هذه البدائل التّضامنيّة كحّل لمشكل التّمويل بوصفه المشكل الأساسي الذي دفع التّونسيّين للتوسّع في أشكال التّعامل بالصّكوك.

تؤكّد آخر نشريّة للبنك المركزي حول منظومة الدّفوعات المكانة الاقتصاديّة للشّيك في المعاملات الماليّة. إذ تمّ إصدار 18.52 مليون شيك بين سبتمبر 2023 وسبتمبر 2024، ليحتلّ بذلك الخلاص بالشّيك المرتبة الثّانية في عمليّات الدّفع بعد التّحويل المالي، بينما يحتلّ المرتبة الأولى في قيمة الدّفوعات بـ 956116.86 مليون دينار. على عكس ما يشاع، لا يبدو عدد الشّيكات المرفوضة والبالغ 1.47% مرتفعا مقارنة بحجم التعامل به، بالرّغم من السّياق الاقتصادي المتدهور. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن القيمة الماليّة للشّيكات المرفوضة[1] تمثّل 2.43% من قيمتها الإجمالية.

ذكرت وزيرة العدل ليلى جفال أثناء عرضها القانون الجديد إبّان التّصويت عليه في البرلمان، أنّ الشّيكات دون رصيد التي لا تتجاوز قيمتها 5 آلاف دينار تمثّل 83% من الشّيكات المتداولة، ونصفها لا تتجاوز قيمتها ألف دينار. تثبت الأرقام المعروضة أنّ رواج الصكّ كضمان يعود لأغراض اقتصاديّة وليس لأغراض مخالفة القانون، فمعظم من يسقطون في وضعيّات الشّيك دون رصيد إمّا يمرّون بصعوبات اقتصاديّة وإمّا لم يتحصّلوا على مستحقّاتهم في الآجال المنتظرة. هذا بالإضافة إلى أنّ الدّولة لا تسدّد مستحقّات المزوّدين والمقاولين الذي يُشاركون في صفقات عموميّة في الآجال. كما أنّ أغلب المعنيّين بالشّيكات دون رصيد يسارعون إلى إيجاد حلولٍ من أجل خلاص المستفيدين قبل المحاكمة وهو ما يفسّر ضآلة عدد المودعين بالسّجن مقارنة بمستعملي الصّكوك. 

وتبدو ورقة الشّيك من جهة استعمالها كضمان شبيهة بورقة اعتراف بدين، وهي بالمعنى الاقتصادي عبارة عن قرض على المدييْن القصير أو المتوسّط دون فوائض يقوم على تعاقد رضائي بين السّاحب والمستفيد خارج إرادة البنك. في هذا السياق، يَتحمّل المستفيد مخاطر إمكانيّة عدم السّداد لغياب الرّصيد عوض البنوك بالرّغم من أنّ إدارة المخاطر في صلب عملها. ينسجم ازدهار الدّفع المؤجّل بالشّيك في المعاملات التّجاريّة مع طبيعة المنظومة البنكيّة الرّيعيّة التي تُوجّه التّمويل للمجمّعات الاقتصاديّة الكبرى (أصحابها هم أنفسهم مساهمون في البنوك) أو للدّولة بصفتها أكبر مقترض من السّوق المحليّة. يفسّر ذلك ضآلة التّمويل البنكي للاقتصاد بنسبة 3.2% من إجمالي قائم القروض المسداة سنة 2024. يشير هذا إلى العلاقة المشوّهة بين النّقد بوصفه عامل إنتاج وجنوح البنوك التي تهيمن على النّقد عبر خلق العملة (الإقراض) والادّخار، إلى توظيفه في استثمارات آمنة وغير منتجة. في هذا السّياق، نستحضر ما قاله المؤرّخ التّونسي الهادي التّيمومي في وصفه للثّقافة الاقتصاديّة لأثرياء تونس “يستعملون وسائل الإنتاج الرّأسماليّة لكنّهم إقطاعيّون في الاستهلاك”.

براديغم “الرّأسماليّة الشّاملة” في السّياق التّونسي

القانون هو مشيئة الدّولة، أي التّرجمة السياسيّة للقواعد التي تضعها السّلطة لإدارة المجتمع. في القضيّة الحاضرة، تؤكّد الأحكام الجديدة للشّيكات انعزال السّلطة القائمة عن الواقع وعدم فهمها للعلاقات الاقتصاديّة القائمة، لذلك تركن للتّقنين الشّكلانيّ بوصفه “منطقة رفاه” لرئيس الجمهوريّة المختصّ في القانون. وهنا يطرح تساؤلًا جدّيًا: هل هناك ضررٌ فعليّ بخصوص اعتماد الشّيك كضمان؟ بخاصّة وأنه أنتج حالةً من التّوازن الاقتصادي صلب شريحةٍ من متوسّطي الدّخل وصغار ومتوسّطي المستثمرين (الفلاحين، التجّار، الحرفيّين، الشّركات الصّغرى والمتوسّطة) مع العلم أنّ هذه الفئات -إلى جانب مؤسّسات الدّولة- تُمثّل المحرّك الرّئيسي للاقتصاد التّونسي القائم على الاستهلاك.

تمركز هاجس المشرّع -بشكل أحاديّ- في الحدّ من جرائم الشّيكات دون رصيد وتقليل المخاطر الماليّة، إلا أنّه عزّز من مخاطر غياب التّمويل. وكان بالإمكان الانطلاق من مقاربة اقتصاديّة تَضمن حقوق الدّائنين وتُنظّم قانونيّا تداول الصّكوك كضمان. في نهاية المطاف، الشّيك هو أصلٌ مالي، سواء كان وسيلة دفع فوريّة أو مؤجّلة، ويُمكن تغيير استعمالاته وفق الحاجة. ويبرز تهميش معضلة التّمويل في عدم تجهيز بدائل تُعوّض تجريم مسك الشيّك كضمان. هذا التهميش تَساوق مع سرعة غير معتادة في إنفاذ القانون تعبّر عن تلاقي نزوع رئيس الجمهوريّة إلى التّقنين وعدم معرفته بالاقتصاد ونزوع الإدارة إلى تنفيذ توصيات وبرامج الهيئات والصّناديق الدّوليّة بوصفها حلولاً جاهزة.

فعليّا، تُجسّد الأحكام الجديدة خطوة في اتّجاه إعادة هيكلة الدّفوعات خدمةً لمسار الإدماج المالي أو الشّمول المالي. يعني ذلك تمكين مختلف فئات المجتمع من الولوج إلى الخدمات الماليّة وتكييفها وفق وضعيّاتهم الاقتصاديّة. يتخفّى وراء نبل هذا الهدف، السّبب الأصلي للشّمول المالي والقاضي بدفع السّوق الماليّة عب تطوير آليّات الإقراض، على غرار بطاقات الائتمان والقروض المتجدّدة التي تتناسب مع قدرات الحريف على الوفاء بدينه، زيادة على دفع نشاط مؤسّسات الإقراض الصّغرى والمتوسّطة التي تعتمد على نسب فائدة يمكن أن تبلغ 35%. وعكس الرّأي الشّائع، يمثّل حرفاء البنوك من متوسّطي ومحدودي الدّخل ضمانةً لاستقرار النشاط البنكي لأنّهم أقلّ عرضة لمخاطر السّوق الماليّة، لذلك يؤدّي إدماجهم إلى التّقليل من المخاطر وتنويع المنتجات البنكيّة. خدمة لهذا الغرض، قام البنك المركزي بإضافة الإدماج المالي للإدارة العامّة للدّفوعات صلبه، ومن بين أهداف هذه الإدارة حثّ الخطى نحو رقمنة المعاملات الماليّة للحدّ من التّعامل بالنّقد.

تمّ إدارج الإدماج المالي في براديغم الرّأسماليّة الشّاملة “Le capitalisme inclusif” الذي تطوّر في أعقاب الأزمة الماليّة العالميّة لسنة 2008، التي هدّدت تماسك النّظام الرّأسمالي برمّته. لذلك كان لا بدّ من تطوير القاعدة النظريّة لهذا النّظام بغرض دعم قدرته على التمدّد والمراكمة والتّقليل من مخاطره عبر توسيع مجال تقاسم هذه المخاطر، وبنفس الأهميّة إعادة بناء المقبوليّة الاجتماعيّة لهذا النّظام على مستوى عالمي. ضمن هذا السّياق، تمّ التّرويج لنظام اقتصاديّ شامل تحت عنوان الحدّ من الفقر والتّفاوت بين الأفراد والدّول وخلق نموّ احتوائي ومستدام لا سيما في الدّول التي لم تنخرط بشكل جيّد في الاقتصاد الرأسمالي.

منذ تَبنّيها لهذا التمشّي المُعولِم تَعمل تونس على عدّة برامج للشّمول المالي بمساعداتٍ فنيّة أجنبيّة يقع تمويلها بالأساس عن طريق القروض، آخرها مشروع القانون عدد 85 لسنة 2024 المعروض على البرلمان والمتعلّق بالموافقة على اتّفاقيّة قرض بين تونس والوكالة الفرنسيّة للتنمية بقيمة 80 مليون أورو. غير أنّ النتائج ظلت أقل من الانتظارات؛ إذ أن حوالي 40% فقط من التونسيّين البالغين يمتلكون حسابات بنكيّة، وثلثهم تقتصر علاقته بالبنك في عمليّة تحويل الأجر وسحبه. كما أنّ نصف المؤسّسات الصّغرى والمتوسّطة علاقتها بالبنوك تقتصر على الخدمات الدّنيا. من بين أبرز أسباب، ضعف هذه المؤشّرات طبيعة المنظومة المصرفيّة التّونسيّة التي استغنتْ عن توسيع مجال خدماتها مقابل التركيز على تحقيق فائض الرّبح احتكاري كبير، وهو ما يدفع جزءًا مهمًا من الفاعلين الاقتصاديّين -أفرادا ومستثمرين- إلى التّمويل باعتماد الشّيك كضمان.

أرجع قانون الشّيكات الجديد من منظور رأسماليّ الأمور إلى نصابها، أي إشراف القطاع المالي على مجمل العمليّات الماليّة في الاقتصاد مهما كان حجمها. تجلّى ذلك في الفصل 410 جديد الذي حثّ البنوك على دعم حلول الدفع البديلة على غرار التحويل البنكي والشيك الإلكتروني وبطاقة الدفع المصرفية ووسائل الدفع الرقمية الأخرى. لا مراء أنّ هذه التّدابير تهدف إلى دفع الإدماج المالي المتعثّر، عبر الترفيع في العمليّات البنكيّة وإخضاع التّمويل لإرادة المؤسّسات الماليّة.

غير أنّ طبيعة النّظام المصرفي وسياسة الدّولة في الاعتماد على الاقتراض الدّاخلي، ستَحول دون دفع مسار الإدماج وفق معايير الرأسماليّة الشّاملة وما تقتضيه من تكييف الخدمات الماليّة حتى لفائدة الشريحة منخفضة الدّخل بغاية دفع الاستهلاك، أي توسيع الأسواق دفعا للطّلب الدّاخلي والعالمي. فمنذ دخول التعديلات الجديدة مجال التّطبيق، تصاعدت إشكالات الدّفع والتمويل، وبات واضحا أنّ هذه التّعديلات خطوة أخرى في سياق فصل الاقتصاد التونسي عن واقعه وتعميق تبعيّته. وما ينتظرنا هو مزيد من الهجانة ومزيد من الفشل.


[1]  الشّيكات المرفوضة هي الشّيكات التي يرفض البنك صرفها لغياب الرّصيد أو لوجود اعتراض عليها من البنك أو السّاحب أو لأسباب شكليّة تتعلّق بتعميرها أو حالتها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني