الآثار والتراث في مصر: بين الاهتمام والإهمال


2021-07-08    |   

الآثار والتراث في مصر: بين الاهتمام والإهمال
كنيسة البازيليك (ويكيميديا)

قفزت مصر إلى المركز الـ28 عالمياً من حيث جودة الطرق بعد أن كانت تتذيّل الترتيب العالمي، وهو التطوير العمراني الذي تتباهى به الحكومة الحالية؛ لكن خلال هذا التطوير هدمت الجرّافات أجزاءً من تراث مصر وتاريخها، بخاصّة الإسلامي منه، ومنها قرافة أو جبّانة المماليك أي مقابر المماليك. ففي يوليو 2020، بدأت الجرّافات تمهيد طريق داخل المقابر بهدف شق طريق سريع في المنطقة، ما ترتّب عليه هدم وإزالة عدد من المقابر القديمة لإنشاء “محور الفردوس“.

وفي فبراير 2021، اصطدم سكّان مصر الجديدة برفع عمّال ومهندسين في ميدان البازيليك مقاسات الشوارع للبدء في إنشاء كوبري يصل إلى محور الفردوس. وهو ما قوبل باعتراضات واسعة بسبب تهديده للرؤية البصرية ويرفع معدّل الضوضاء التي تؤثر على الصلاة داخل الكنيسة، بالإضافة إلى تغيير ملامح حي مصر الجديدة المعروف بكثافة الحدائق والأشجار والهدوء مقارنة بالأحياء الأخرى.

هذه أمور تستدعي تسليط الاهتمام عليها في إطار حرص الحكومة على التطوير العمراني، مع طرح تساؤل حول العناية التي تخصّصها الحكومة للآثار القبطية والإسلامية واليهودية.

الكباري والتراث

كان المفترض أن يقطع كوبري البازيليك مسار حوالي ثلاثة كيلومترات وأن يمرّ في منطقة تراثية بطراز معماري متميّز جداً، من تصميم شركة هليوبوليس 1905 وتنفيذها عام 1910 وأن يمرّ بكنيسة البازيليك ومقبرة البارون ادوارد إمبان وعلى جانبه حديقة كبيرة أمامها مجموعة متميّزة من عمارات الشركة بطرازها المعماري المتميّز.

ذكرت جمعية المعماريين المصرية أنّ قانون 119[1] للبناء الموحّد اعتمد اشتراطات الحفاظ على المناطق التراثية وشمل حدود وأسس الحفاظ على منطقة مصر الجديدة ذات القيمة المتميّزة. وأكّدت الجمعية أنّ القانون صريح بحظر الكباري وحتى اللافتات والإعلانات التي تتداخل مع الصورة البصرية للمنطقة المتميّزة والتي وردت في مرفق القانون.

نتيجة لذلك، حال ضغط مارسته جمعية المعماريين المصرية، وتدخّل أعضاء في مجلس نواب، فضلاً عن إرسال مطران اللاتين الكاثوليك بمصر خطاباً إلى الهيئة الهندسية للقوّات المسلحة المعنيّة بتنفيذ الكوبري، دون تنفيذ الأمر، ما أدّى إلى تغيير مسار الكوبري بعيداً عن الكنيسة.

تحدّد المادة الأولى من قانون حماية الآثار على حماية كلّ ما “أنتجته الحضارات المختلفة أو أحدثته الفنون والعلوم والآداب والأديان من عصر ما قبل التاريخ وخلال العصور التاريخية المتعاقبة حتى ما قبل مائة عام متى كانت له قيمة أو أهمية أثرية أو تاريخية باعتباره مظهرا من مظاهر الحضارات المختلفة التي قامت على أرض مصر أو كانت لها صلة تاريخية بها. وكذلك رفات السلالات البشرية والكائنات المعاصرة لها”.

تتوزّع تبعيّة كلّ ما هو قديم ويعود إلى حقب أو فترات سابقة بين أكثر من جهة في مصر. فهو إما أثري يخضع لقانون حماية الآثار ورقابة وزارة السياحة والآثار، وتتشارك المؤسّسات الدينية مع وزارة الآثار فيما يتبعها من آثار، أو تراثي أو مميّز ويخضع لهيئة التنسيق الحضاري التي تتبع وزارة الثقافة.

وعليه، تعمل هيئة التنسيق الحضاري، على تحسين الصور البصرية للمدن والقرى والمجتمعات العمرانية الجديدة، فضلاً عن إزالة التشوّهات والتلوّث البصري والحفاظ على الطابع المعماري والعمراني للمناطق المختلفة، وهو ما يتنافى مع ما يحدث في مناطق عدّة داخل مصر، منها مصر الجديدة من إزالة حدائق وبناء كباري بالقرب من مباني مسجّلة ذات تصميم معماري مميّز.

ويأتي تلخيص أنواع المباني والمفردات التراثية في الأنواع التالية: “مباني أثرية، ومباني بناها بعض المعماريين المشهورين وأصبحت جزءاً من التراث المعماري، ومباني تمثل حقباً وعصوراً ذات قيمة وتعتبر تسجيلاً لها، والمباني التي تعكس العمارة المحلية التقليدية لمنطقة ما وتمثل طابعها الخاص، والمباني التي تحمل قيمة رمزية لارتباطها بتاريخ الشعوب”.

هدم التراث

وقائع الهدم عديدة وتتنوّع بين مبانٍ تراثية أو أثرية أو تدخل ضمن التاريخ الإنساني. ففي فبراير 2019، هدمت محافظة القاهرة وكالة العنبريين التي ترجع إلى القرن التاسع عشر، وكانت تستخدم مقرّاً لصناعة العطور. أثار الهدم انتقادات واسعة، بخاصّة أنّ الوكالة تقع ضمن منطقة القاهرة الفاطمية المسجّلة ضمن التراث العالمي، فضلاً عن إعلان النيابة الإدارية، نتائج تحقيق وكالة العنبريين التي تشير إلى أنّ المواصفات الخاصّة بالمباني الأثرية متوافرة بالمكان، وأوصت وزارة الآثار باتّخاذ إجراءات تسجيل المكان كأثر. وبالرّغم من ذلك، هدمت محافظة القاهرة الوكالة.

في منتصف مايو 2021، كشف أثريون هدم طابية أثرية في أسوان بعد أن سوّت بها الجرافات الأرض، لإنشاء خزّانات مياه. في البداية نفت وزارة الآثار أن يكون هناك قرار بهدم طابية الفتح الأثرية والفريدة من نوعها في مصر، ويرجع تاريخ بنائها إلى العصر العباسي/ الفاطمي. فيما زعمت وزارة الآثار أنّ الهدم حدث عن طريق الخطأ.

تعلّق سالي سليمان، الباحثة الأثرية، ومؤسّسة مبادرة “بصّارة”[2] على الهدم داخل القرافة بأنّه كارثة، مشيرة إلى أنّ قرافة المماليك تحتوي على آثار ومبانٍ أخرى مسجّلة بالتنسيق الحضاري ومبانٍ أخرى غير مسجلة، والهدم بحسب الوزارة لم يمسّ ما هو مسجّل كأثر، إلّا أنّ القرافة تدخل ضمن حدود القاهرة التاريخية التي تخضع لقانون اليونيسكو. وتضيف: “حينما دخل بلدوزر جهة الهدم لم يهدم آثاراً مسجّلة لكن هدم تراثاً إنسانياً مهماً، وكان يمكن أن يحدث أكثر من ذلك لولا أن أثار الأمر الرأي العام”.

لا ترى مؤسّسة مبادرة “البصارة” أنّ تسجيل المباني في هيئة التنسيق الحضاري يمنع الاقتراب من المبنى، فعلى سبيل المثال غالباً لا يحمي القانون عمارات وسط البلد أو الفيلات القديمة، أو الفنادق، لا بل “سهّل القانون التلاعب والتحايل عليه، وحصل جزء كبير من الهدم (السافر) الذي وقع في الإسكندرية عبر التلاعب بهذا القانون”.

الآثار الإسلامية الأكثر عرضة للإهمال

خلال العقود السابقة عانت الآثار الإسلامية من عدم وجود خطة واضحة للحفاظ عليها وحمايتها من التدهور والزحف العمراني، ما أدّى إلى تعرّض هذه المناطق لأضرار بالغة من تدمير وتدهور وهدم كثير من مبانيها التراثية المهمّة على المستويين المحلّي والعالمي. ومن الأمثلة على ذلك ما تعرّضت له منطقة القاهرة التاريخية التي سجلتها اليونيسكو كتراث عالمي.

تُفسّر مؤسّسة مبادرة “بصّارة” إن الآثار الدينية يملكها أصحاب الديانة وتكون مسؤولة عنه، فالأثر اليهودي تملكه الطائفة اليهودية، وكل ما هو قبطي من كنائس أو أديرة ملك للطائفة المسيحية، وكل ما هو إسلامي سواء كانت كتاتيب ومساجد وغير ذلك ملك لوزارة الأوقاف، وفي الوقت ذاته يخضع لقانون حماية الآثار.

بحسب الباحث في الآثار الإسلامية حسن حافظ[3]، تعاني الآثار الإسلامية من توزّع عملية الإشراف بين كلّ من وزارتي الآثار والأوقاف ما يؤدّي إلى مزيد من البيروقراطية والتشتّت، موضحاً أن حالة الإهمال الذي تعاني منها الآثار الإسلامية قد تؤدي إلى التعدّي عليها من الأهالي ومن بعض لصوص الآثار. وتضيف: “إذا حدث سرقة أو إهمال، فإنّ وزارة الآثار ترى أنّ المكان ملك للأوقاف فيما تقول الأوقاف إنّ دورها يقتصر على إقامة الشعائر، وكلّ وزارة تلقي الأمر على الأخرى”.

تلتصق السرقة والإهمال بالآثار الإسلامية، بخاصّة وأنّ بين الحين والآخر تختفي مقتنيات من مساجد أثرية، أشهرها اختفاء مشكاوات[4] أثرية نادرة من مسجد الرفاعي بالقرب من ميدان صلاح الدين بالقلعة. يقول حافظ إنّ الإهمال الذي يحيط بالآثار الإسلامية أدى إلى ضعف إقبال السياح وبالتالي ضعف المردود الاقتصادي في ظل غياب اهتمام رسمي بالترويج لها.

ما رؤية الدولة في الاهتمام بالآثار المصرية؟

لعلّ حصر مصر في الحضارة المصرية القديمة دون الحقب والعصور الأخرى له أسباب عدّة. تجيب على ذلك سالي سليمان، حيث تعتبر أنّه نتيجة اهتمام دول الاستعمار بالآثار المصرية القديمة التي تنفرد مصر بها، فضلاً عن تأسيس الفرنسيون المجلس الأعلى للآثار، وتمكّن عالم الآثار الفرنسي شامبليون من فك رموز حجر رشيد. ومنذ ذلك الوقت، حدث هوس بالآثار المصرية القديمة، وما زاد الأمر انتشاراً، شائعة لعنة الفراعنة، من هنا جاء الاهتمام بالآثار المصرية القديمة.

وتعيد سالي التوجّه العام للاهتمام بالسياحة ومن ثم الآثار بخاصّة بعد دمج الوزارتين في 2019، إلى أنّ الحكومة تبحث عمّا يجذب السيّاح ويدرّ دخلاً مالياً، لذلك تهتم الوزارة بالآثار المصرية القديمة المشهورة.

تقترب مصر من الانتهاء من بناء المتحف المصري الكبير بالقرب من أهرامات الجيزة، ما سيساعد على تنشيط حركة السياحة إلى مصر، التي انخفضت من 13 مليار دولار في 2019 إلى 1.1 مليار دولار في 2020.

وبحسب الباحث في الآثار الإسلامية، فإنّ الحكومات المصرية المتعاقبة غير مهتمة بالآثار لذاتها، بل يقدّر الاهتمام بحسب العائد الذي تدرّه تلك الآثار. لذلك يكاد يقتصر اهتمام الحكومة المصرية على الآثار المصرية القديمة لأنّها الآثار التي تهمّ السائح “الأجنبي” من مختلف الجنسيات. ويضيف: “ولا يعود الاهتمام بالآثار المصرية القديمة الى أيّ نزعة هويّة بقدر ما هي نزعة اقتصادية بحتة تدفع الأجهزة المعنيّة للاهتمام بالآثار ذات الإقبال من قبل السائح الغربي”.

برأي حافظ، فإنّ تطوير القاهرة الإسلامية والفسطاط يشكّل البداية الجديدة في الاهتمام بالآثار الإسلامية التي أعلن عنها رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، والتي ستشمل كلّ مساحة القاهرة الإسلامية والتي تعدّ واحدة من أكبر المدن في العالم احتفاظاً بالآثار الإسلامية.

لا ينكر أحد أنّ الحضارة المصرية القديمة هي أهمّ الحضارات في تاريخ مصر، لكن كلّ مكان في مصر يحوي بداخله آثاراً وتراثاً يجسّد جزءاً من تاريخ مصر. كما أنّ كل محافظة مصرية لديها آثار تكفي لإنشاء متحف أو أكثر يشهد على كلّ عصور مصر. وإذا اهتمّت بها الحكومة كالآثار المصرية القديمة سيلبّي ذلك رغبتها في التنمية السياحية وسيدرّ عملة أجنبية. لكن هل يمكن أن تلقى المباني التراثية والأثرية اهتماماً خلال الفترة المقبلة؟

  1. ينصّ البند 2 – 2 على اشتراطات تحظر بناء أيّ إنشاءات في الفراغات العامة والمفتوحة أو الشوارع والميادين في المناطق المحددة وينتج عنها تداخل في الصورة البصرية لواجهات المباني مثل كباري المشاة والطرق العلوية للسيارات او الإعلانات واللافتات الإرشادية التي تقطع الشوارع والميادين.
  2. جرى الحديث في 17 مايو
  3. جرى الحديث 21 مايو 2021
  4. تجاويف زجاجية مزخرفة كانت تستخدم في الإنارة
انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، سياسات عامة ، سلطات إدارية ، قرارات إدارية ، أملاك عامة ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، مصر



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني