عزّز فيروس كورونا المستجدّ (Covid-19) من هشاشة الفئات المهمّشة في لبنان. فلهذا الفيروس الذي يفترض أن يصيب الجميع بشكل متساوٍ عواقب أشدّ على بعض الفئات الإجتماعية. فعواقبه الإقتصادية أخطر على من ليس لهم أجرة ثابتة مما يحرمهم من أي مورد رزق مع إعلان التعبئة العامة والحجر المنزلي. وعواقبه الصحية أخطر بالنسبة إلى الأشخاص الذين ليس لديهم القدرة لإتباع جميع الإجراءات الوقائية والحجر المنزلي الصحيح. والسجناء هم من أكثر الفئات المعرّضة للخطر[1]، نظرا إلى الإكتظاظ الشديد الذي تشهده السجون والنظارات اللبنانيّة، حيث بلغ عددهم أواخر عام 2019، 7000 سجيناً، أي بنسبة إكتظاظ وصلت إلى 160%. يجعل هذا الإكتظاظ من غير الممكن تنفيذ التباعد الإجتماعي بين السجناء وهو إجراء الوقاية الأسلم المتعارف عليه عالمياً، لمنع الإحتكاك وإنتشار الفيروس في السجون. كما يمنع هذا الإكتظاظ من عزل أي مصاب في حال دعت الحاجة. وتسبّب ذلك بحالة هلع عند السجناء حملت إلى العودة للمطالبة بالعفو العام[2]. بدأت السلطات اللبنانيّة بإتخاذ بعض التدابير للتخفيف من خطورة انتشار الفيروس بين السجناء، من خلال تسهيل طلبات إخلاء السبيل ومضاعفة أعدادها. كما برزت جهود وزيرة العدل ماري كلود نجم في سبيل إقرار قانون بمنح العفو الخاص من قبل رئيس الجمهورية، يسمح بإطلاق سراح سجناء أنهوا محكومياتهم وما زالوا محتجزين بسبب غرامات مالية يعجزون عن تسديدها، أو قاربت محكوميتهم على الإنتهاء وبقي منها بين شهر وأربعة أشهر فقط[3]، على غرار ما حصل في تونس.
في الحقيقة، تفرض التدابير المعتمدة، مهما كان شكلها، التوفيق بين حقوق السجناء بالحياة وبالصحة من جهة، ومقتضيات العدالة في الدول الديمقراطية من جهة أخرى. وعملية التوفيق ليست سهلة، إذ هي تفرض في معظم الأحيان اتخاذ إجراءات ماسّة بأحد الحقوق أو الحرّيات التي تجري الموازنة بينها. وتتكشّف إذاً أهمية الدور الرقابي للقضاء الإداري على الخيارات المعتمدة من قبل السلطات العامة في معرض ذلك، والوسائل التي في حوزته لإتمام وظيفته الرقابية هذه[4].
من هنا قد يكون من المفيد بعد استعراض نوعية التدابير المتخذة في دول أخرى لحماية السجناء، تقدير شرعيّة وكفاية التدابير المتخذة من قبل السلطات اللبنانيّة بالنظر إلى مبدأين رقابيين: أولا مبدأ التناسب principe de proportionnalité (أي مدى تناسب التدابير المتخذة مع حقوق المساجين)، ومن ثم نظريّة “تخفيض أضرار السياسات العامّة” harm reduction. ويسمح هذا التقدير بتحديد مدى وجود تقاعس من قبل السلطات العامة قد يبرّر مساءلة الدولة في هذا المجال.
وجهتان للتدابير المعتمدة دولياً لحماية السجناء
إن كانت خطورة وضع السجناء في لبنان كبيرة نظرا لنسبة الإكتظاظ المرتفعة في السجون، نلحظ أن معظم البلدان تواجه تساؤلات عديدة على صعيد كيفيّة معالجة وضع "التجمعات القسريّة" ومنها وضعية السجون، خلال هذه الأزمة العالميّة. ويمكن ترتيب الدول بين توجّهين بالنسبة إلى التدابير المعتمدة؛
– من جهة أولى، إخلاء سبيل عدد من السجناء كما حصل في تونس وإيران وحتى الهند والولايات المتحدّة الأميركيّة مثلا، وهي بلدان تتّسم بمعدلات مرتفعة من السجناء،
– ومن جهة ثانية، اعتماد العزل التام للسجون مع محاولة إتخاذ تدابير لتخفيف وطأة هذا العزل التام على حقوق السجناء، كتسهيل الإتصالات مع عائلاتهم مراعاة لحقّهم بحياة عائليّة، المصان في الشرائع الدولية لحقوق الإنسان، وتأمين إجراء فحوصات التأكد من الإصابة بالفيروس لهم على نطاق واسع، وهذا ما عمدت إليه بريطانيا مثلاً.
ويحترم هذان التوجّهان التوصيات التي قدّمتها المنظمات الدوليّة المتعلّقة بحقوق الإنسان أو بالصحة العامة. فطلبت مثلا المفوضة العامة لحقوق الإنسان لدى الأمم المتحدّة ميشال باشوليه من البلدان حماية الأشخاص المحتجزين والمساجين من الكورونا عبر إطلاق سراح الأكثر هشاشة[5] بينهم. كما طلبت بشكل عام من الدول إتخاذ التدابير اللازمة في جميع الأماكن التي تقع تحت مسؤوليّة الدولة والتي تشكّل "تجمعات قسريّة" كدور العجزة مثلا. أما منظمة الصحة العالمية WHO، فنصحت بإتخاذ تدابير لوقف إنتشار الفيروس في السجون تراعي حقوق السجناء، كالحق بالحصول على رعاية صحيّة كافية والحصول على المعلومات[6].
شرعيّة التدابير وكفايتها بالنظر إلى مبدأ التناسب
يعود تطبيق مبدأ التناسب على قرارات السلطات العامة في فرنسا، إلى القرار الصادر عن مجلس شورى الدولة عام 1933 Arrêt Benjamin. يتعلّق هذا القرار بالضابطة الإداريّةpolice administrative ، أي تلك المناط بها حماية النظام العام (الذي يتكوّن إلى جانب النظام العام بالمعنى الضيق من السلامة العامة والصحة العامة) والذي غالبا ما تمسّ التدابير المتخذة لحمايته بالحريّات العامة للمواطنين. أقرّ القاضي الإداري في هذا القرار بجواز المسّ بالحرّيات العامة بهدف حماية النظام العام، إلا أنّه فرض التحقّق من صحة التدابير المعتمدة بالنظر إلى مبدأ التناسب، أي التناسب بين مدى هذا التعدّي والأهداف أو الفائدة المرجوة منه. وفي هذا السياق، يتأكّد القاضي الإداري من عدم وجود أي تدبير آخر كان من الممكن للإدارة اتخاذه تحقيقاً للأهداف نفسها، أقلّ مساساً بالحرّيات أو لا يؤدي إلى المساس بها. وأخضع القاضي الإداري جميع القرارات الإدارية المسبّبة لتعدٍ على الحريّات العامة لامتحان التناسب هذا. كما كرّس المجلس الدستوري الفرنسي مبدأ التناسب في معرض التأكد من دستورية القوانين. وأقرّ المجلس الدستوري اللبناني[7] مبدأ التناسب، تيمّناً بالإجتهاد الفرنسي، في سياق التأكّد من صحة قرارات السلطة التنفيذيّة ومن دستورية القوانين.
في إطار المسألة التي نبحثها، المطلوب تقييم الموازنة التي حقّقتها الإدارة بين مبدأ العدالة من جهة وهي إحدى ركائز المجتمعات الديموقراطيّة التي تفترض أن يقضي كلّ محكوم بعقوبة حبس عقوبته حتى نهايتها، ومقتضيات الصحة العامّة من جهة ثانية، التي تفرض اتخاذ تدابير قد تؤدي إلى تقييد مبدأ العدالة بهدف الحدّ من إنتشار الفيروس ومراعاة حقوق السجناء وعلى رأسها حقي الحياة والصحة[8] المصانين في المادتين 3 و25 من الشرعة الدولية لحقوق الإنسان المشار إليها في الدستور.
بالأحرى، السؤال المطروح هو مدى تناسب قرار السلطات اللبنانيّة بالإكتفاء بإطلاق سراح عدد قليل من السجناء (250 سجيناً[9]) وإبقاء معظم المحتجزين في السجون المكتظة دون توفّر الإمكانيات المادية لإتخاذ تدابير وقائيّة فعّالة، ما قد يتسبّب بإنتشار سريع جداً وفتّاك للفيروس داخل السجون، بالنظر إلى مقتضيات صون حقي الحياة والصحة، وهما حقيّن لا يخسرهما السجين بعد إدانته[10].
وتشكّل إمكانيات الدولة اللبنانية أحد المعايير التي يقتضي التمعّن بها في عملية تقدير مدى تناسب التدابير المتّخذة. فمن جهة أولى، يقتضي التطلّع إلى إمكانياتها في تأمين الأبنية الكافية بالنظر إلى عدد السجناء، مع إستحالة بناء سجون جديدة بين ليلة وضحاها، بشكل يسمح بتنفيذ التباعد الإجتماعي الوقائي بين السجناء، ومن جهة ثانية إمكانيّات المستشفيات في استقبال السجناء المصابين، والتي قد تكون أعدادهم هائلة في حال إنتشر الفيروس في السجون نظرا لعدم إمكانيّة تطبيق التباعد الإجتماعي داخلها. كما يجب الأخذ بعين الإعتبار عدم إمكانية السلطات إجراء فحوصات التأكد من الإصابة على نطاق واسع، مما قد يمكّنها من عزل السجناء المصابين بالفيروس.
كما من الضروري الإشارة في معرض تقدير مدى تناسب التدابير المتّخذة، إلى أن الإجتهاد الإداري أعطى أهميّة أكبر لبعض الحقوق الأساسية، التي يستصعب أن يتم تبرير التعدي عليها مهما كانت الأهداف التي تتّبعها الإدارة، وهي ما يُعرف بالحقوق الأساسيّة أو core rights. تتمتّع هذه الحقوق بثقل أكبر في ميزان العدالة بمفهومها الواسع، وقد تمّ تطوير هذه الفئة من الحقوق من قبل المحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان التي إعترفت بأهميّة خاصة للحقوق المصانة في المواد 2, 3، و4 من الإتفاقيّة الأوروبيّة لحقوق الإنسان، أيّ الحقّ بالحياة والحق بعدم الخضوع إلى معاملة لا إنسانيّة ومهينة والتي من الصعب تبرير التعدي عليها[11].
بالنظر إلى هذه المعطيّات، يتّضح أن التدابير المتخذة من قبل السلطات اللبنانيّة تخلّ بمبدأ التناسب. فإطلاق سراح عدد ضئيل من السجناء لن يمنع إنتشار الفيروس داخل السجون، مما يشكّل خطراً وبالتالي مسّاً غير مبرّر على صحّة وحياة السجناء، خاصة بالنظر إلى الإمكانيّات الماديّة غير الكافيّة للتصدي لنتائج إنتشار الفيروس في السجون.
شرعيّة التدابير بالنسبة إلى نظريّة "تخفيض الأضرار" وكرامة السجين
تشكّل نظريّة “تخفيض أضرار السياسات العامة”[12] أحد أشكال تطبيق مبدأ التناسب الذي تخضع له جميع القرارات التي تتخذها السلطات العامّة. وتعود هذه النظريّة إلى مقاربة اعتمدت ابتداءً من ثمانينات القرن الماضي في بعض البلدان في ما خصّ المدمنين على المخدرات، إنطلاقاً من اعتبار أن الإلغاء التام لإستهلاك المخدرات غير واقعي مما يستدعي عدم معاقبة المدمنين، بل محاولة التعامل معهم بإحترام وبطريقة تراعي كرامتهم. وأدّت عملياً هذه النظريّة إلى إعتماد سياسات تؤمن للمدمنين وسائل وظروف صحيّة لإستهلاك المخدرات كبرنامج تداول الحقنات[13]، عوض منع إستهلاك المخدرات. وانسحبت هذه النظرية على التعامل مع فئات أخرى مهمّشة ومرفوضة اجتماعياً كعاملات الجنس[14] أو السجناء، بمقاربة حياديّة على الصعيد الأخلاقي، أيّ أنّها تعطي لكرامة الأشخاص أهميّة أسمى من تلك المعطاة لإرادة التصدي ومعاقبة الأعمال التي يقومون بها والتي قد تكون مرفوضة على الصعيدين الأخلاقي والقانوني من قبل المجتمع. كما تقوم النظريّة على مبدأ المساواة في الحقوق بين جميع الأفراد، وخاصة على صعيد الحقّ بالصحّة.
وترعى خمسة مبادئ اللجوء إلى هذه النظريّة وهي: الواقعيّة، والقيم الإنسانيّة، والموازنة بين حسنات وسيئات السياسة المعتمدة، والموازنة بين حقّ الشخص والمصلحة العامّة، وأولويّة الأهداف الفوريّة الممكن إنجازها.
تطبيقا لهذه النظريّة، ومرعاةً لكرامة السجناء، يفترض بالسلطات اللبنانيّة إتخاذ تدابير تحمي صحّة السجناء بشكل أولى على مقتضيات تنفيذهم لمحكومياتهم، وهذا ما لم تقم به السلطات حتى الآن، سواءً على صعيد التدابير المتخذة أو تلك المنوي إتخاذها. وعلى السلطات إتخاذ تدابير أكثر عدالة واحتراماً لحقوق وكرامة السجناء، حتى لو أدى ذلك إلى تفضيل حقوقهم على حقّ المجتمع بالعدالة بالمعنى الضيّق لهذا المفهوم، علما أن لذلك آثار إيجابية في آخر المطاف على العدالة الإجتماعيّة بالمعنى الواسع من حيث تكريس قيم المساواة والكرامة الإنسانية.
[8] الحقّ بالصحة مصان أيضاً في المادة الثانية عشر من الميثاق الدولي للحقوق الإقتصاديّة والإجتماعيّة
[9] سعدى علوه، 251 سجناء ينتظرون تشريعا إلكترونيا وعفوا خاص من رئيس الجمهوريّة: جهود محدودة للتخفيف من "التجمعات القسريّة، في زمن الكورونا، المشار إليه أعلاه
[13]برنامج تبادل المحاقن هو خدمة اجتماعية تسمح لمستخدمي المخدرات بالحقن بالحصول على إبر تحت الجلد وأدواتها المصاحبة بتكلفة قليلة أو بدون تكلفة.
[14] Cusik (B.), Widening the harm reduction agenda: From Drug Use to sex work, Institute for Applied Social and Health Research, University of Paisley, The Gardner Building, Paisley PA1 2BE, United Kingdom