قدّم النائب على حسن خليل في تاريخ 8/10/2024، أيّ بعد قرابة أسبوعين من بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان، اقتراح قانون معجلّ مكّرر يرمي إلى تعديل المادة 2 من المرسوم الاشتراعي رقم 150 تاريخ 16/9/1983 وتعديلاته (قانون القضاء العدلي)، وهي المادة المتعلّقة بتنظيم مجلس القضاء الأعلى لجهة تأليفه ومدّة ولاية أعضائه. وفي التفاصيل، تُضاف بموجب الاقتراح فقرة إلى هذه المادة مفادها أنّه “عند انتهاء الولاية، وباستثناء حالات بلوغ السنّ القانونية، يستمرّ الأعضاء الذين انتهت ولايتهم في ممارسة أعمالهم إلى حين تعيين بدلاء عنهم وحلفهم اليمين”.
وقد برّر خليل اقتراحه وفق ما جاء في أسبابه الموجبة بضرورة تمديد ولاية أعضاء مجلس القضاء الأعلى الحاليين للحفاظ على نصاب المجلس الذي “لا تكون اجتماعاته قانونية إلّا بحضور ستّة من أعضائه على الأقل، وهو العدد المتبقي حاليا من أعضاء المجلس العشرة بفعل شغور مركز العضويين الحكميين مدعي عام التمييز ورئيس هيئة التفتيش القضائي، وبعد أن تعذّر انتخاب وتعيين عضوين من بين رؤساء الغرف في محكمة التمييز بسبب عدم وجود رؤساء غرف أصيلين فيها. كما أشارت الأسباب الموجبة إلى أنّ انخفاض عدد الأعضاء إلى 6 يمنع المجلس راهنا من اتخاذ القرارات “في العديد من الأمور والمسائل الأساسية التي تتطلب غالبية خاصّة لاتخاذها تتجاوز عدد الستة أصوات”، من دون أن تحدد إذا طرحت أصلا مؤخرا أمام المجلس قرارات من هذا النوع. ومن المهمّ أن نلحظ هنا أن القرارات التي تتطلّب غالبيّة خاصه تنحصر في القرارات بإعلان عدم أهلية قاض والتي تتطلب غالبية 8 أعضاء (وهي قرارات لم يتخذها المجلس في أي وقت)، وفي القرارات بحسم أي خلاف مع وزير العدل بشأن التشكيلات القضائية وهي تتطلب غالبية 7 أعضاء. لكن هنا أيضا يلحظ أنّه لم يقدّم أي مشروع تشكيلات قضائية إلى وزير العدل منذ انخفض عدد أعضاء المجلس إلى 6.
ولم ينسَ مقدّم الاقتراح التذكير بأن “المجلس الأعلى للقضاء هو الجهة التي تسهر على حسن سير القضاء وعلى كرامته واستقلاله وحسن سير العمل في المحاكم”، مما يبرر “تفادي العوائق التي قد تواجه تعيين بدائل عن الأعضاء المنتهية ولايتهم، وتدارك التعطيل الذي قد يهدد استمرارية عمل المجلس وانعكاساته السلبية”، تماما كما كان فعل المشرّع بما يتّصل باستمرارية أعضاء المجلس الدستوري القيام بأعمالهم إلى حين تعيين بدائل عنهم.
وقبل المضي في إبداء ملاحظاتنا على هذا الاقتراح، تجدر الإشارة إلى أن مجلس القضاء الأعلى يتولّى من حيث المبدأ إدارة المسارات المهنيّة للقضاة ضمانًا لاستقلاليتهم وحسن سير العدالة وأنه يتألّف من 10 أعضاء، منهم 3 أعضاء حكميون هم: الرئيس الأول لمحكمة التمييز والنائب العام التمييزي ورئيس هيئة وعضوين منتخبين من بين رؤساء الغرف في محكمة التمييز و5 أعضاء معيّنين من درجات المحاكم المختلفة.
1-اقتراح متأخّر فقد جدواه
وعلى الرغم من أهميّة إضاءة هذا الاقتراح على خطورة الشغور في إحدى أهم الهيئات القضائية، إلّا أنّه من المستغرب أنه ركّز على الشغور الجزئيّ في المجلس والذي طال 4 من أعضائه فيما حجب تماما قرب انتهاء ولاية جميع أعضاء المجلس باستثناء رئيس المجلس سهيل عبود الذي يستمد مركزه من صفته كرئيس لمحكمة التمييز. وهذا الأمر يتحصّل من كون أعضاء المجلس المنتخبون والمعينون قد أدّوا اليمين في 14/10/2021 وأن ولايتهم الممتدّة لثلاث سنوات تنتهي اليوم. فما معنى أن يغيّب الاقتراح هذه الواقعة التي كان من المؤكد حصولها قبل أن يتسنى للمجلس النيابي حتى مناقشة مضمونه، وبخاصة أن مجلس النواب أوقف جميع أعماله بما فيها أعمال اللجان منذ اندلاع الحرب في الأسبوع الأخير من أيلول؟ والأهم، ما الفائدة المرجوة من هذا الاقتراح طالما أن الاقتراح في حال إقراره يكون صدر بعد انتهاء ولاية أعضاء المجلس وأنه لن يكون بإمكانه إعادة إحياء ولايتهم بعد انتهائها؟
2-اللجوء إلى التشريع بدل مطالبة الحكومة إجراء التعيينات اللازمة
ثاني ما نلحظه هو تغييب أسباب استمرار الشغور، على نحو يحجب عمليا مسؤولية الحكومة في ملء الشغور من دون الحاجة إلى أيّ تدخل تشريعي. فرغم أن الأسباب الموجبة للاقتراح عرضت حالات الشغور وأضاءت على مخاطره، إلا أنها أغفلت شرح العوائق التي تحول أمام ملئها، وبخاصة أن بإمكان مجلس الوزراء أن يعيّن نائبا عاما تمييزيا ورئيس هيئة تفتيش فضلا عن 5 من أعضاء المجلس. فما عدا ما بدا؟ ولماذا يلجأ مقدم الاقتراح إلى البرلمان للحؤول دون الشغور بدل مطالبة الحكومة القيام بمسؤوليتها في إنجاز التعيينات القضائية؟
فلئن صحّ أن حكومة حسان دياب اعتبرت أنّ تعيين أعضاء مجلس القضاء يخرج عن صلاحيات حكومة تصريف الأعمال، إلا أنّ حكومة ميقاتي تجاوزت هذا الاعتبار بعدما طال أمدها في تصريف الأعمال. وليس أدلّ على ذلك من مبادرة الحكومة إلى إصدار العديد من التعيينات (تعيين رئيس ونائب رئيس وأمين الخزينة لجمعية الصليب الأحمر اللبناني؛ تعيين مفوّضي الحكومة لدى عدد من المؤسسات العامة أهمها مجلس الإنماء والإعمار والمجلس اللبناني للاعتماد؛ تعيين رئيس أركان الجيش اللبناني؛ …)، فضلا عن وضع مشاريع موازنة ل 3 سنوات متتالية وعدد من مشاريع القوانين والمراسيم المتصلة بمسائل تنظيمية لا ترشح عن أيّ حاجات ملحة. وفي هذا المجال، نذكّر وبحسب ما أسهب الباحث وسام اللحام في شرحه في الورقة البحثية الصادرة عن “المفكرة القانونية” بعنوان “تصريف الأعمال: من الموجب الدستوري إلى الاعتباطية السياسية”؛ أنّ تصريف الأعمال يُشكِّل ضرورة. إذ إنّ تقليص صلاحيات الحكومة، وحصرها في نطاق ضيِّق، يجب ألّا يؤدّي إلى الإضرار بمصلحة الدولة عبر تعطيل عمل المؤسّسات وتهديد استمرارية المرفق العام أو الإضرار بالصالح العام.
وما يزيد من قابلية الأمر للانتقاد هو أنّ أحد الأسباب التي أدّت إلى الشغور الجزئي وفق الأسباب الموجبة، إنما يعود بشكل كبير إلى الاستراتيجية الدفاعية التي اعتمدها مقدم الاقتراح والفريق السياسي الذي ينتمي إليه في قضية تفجير المرفأ، وقوامها تعطيل التحقيقات في هذه القضية من خلال منع الهيئة العامة لمحكمة التمييز من فصل دعاوى المخاصمة المتصلة بها من خلال تعطيل ملء الشواغر المعطلة لنصابها. فكأن خليل يعمد من خلال هذا الاقتراح إلى تصحيح جزء من الخلل الذي سبّبه بنفسه من دون وضع حدّ لسبب الخلل الذي يكاد يؤدي إلى تعطيل مجمل التحقيقات الهامة في العدلية.
3-ماذا عن الهيئات القضائية الأخرى المعطلة؟
إضافة إلى كلّ ما تقدم، يشار إلى أن الاقتراح أتى محصورا في إشكالية الشغور في مجلس القضاء الأعلى، من دون أن يتطرق إلى الشغور في الهيئات القضائية الأخرى والتي لا تقل أهمية. وكانت المفكرة القانونية خصصت ملفا في عددها الأخير بعنوان “نزيف القضاء المعطّل” لتبيان التعطيل الحاصل على مختلف الأصعدة وفي الهيئات القضائية المختلفة منذ العام 2019. ومن أوّل الهيئات التي أصابها التّعطيل، هيئة التّفتيش القضائيّ. فعدا عن أنّ رئيسها بركان سعد قد بلغ سنّ التقاعد في 07/01/2022 من دون أن يُعيّن بديل عنه، فإنّ عدد مفتّشيها العامّين هبط من 4 إلى مفتشة عامّة واحدة. وعليه، يكون مجلس الهيئة المكوّن من رئيسها والمفتّشين العامّين والمختصّ بإحالة القضاة إلى المجلس التأديبي، قد فقد نصابه (3 بالحدّ الأدنى) بعدما انحصرتْ عضويته بمفتّشة عامّة واحدة تمارس في الوقت نفسه مهامّ رئيسة الهيئة بالإنابة.
بالإضافة إلى ذلك، فقد تعطل مكتب مـجـلـس شــــورى الـدولـة المكون من 7 أعضاء، بفعل بلوغ 4 منهم سـن التقاعد وهـم: رئيس هيئة التفتيش القضائي وثلاثة من رؤساء الغرف، من دون تعيين الحكومة بدلاء عنهم.
الأمر نفسه بشأن معهد الدروس القضائية الذي يبقى معطّلًا بحكم كونه تحوّل منذ 2022 (انتهاء الدورة الأخيرة) إلى معهد من دون طلاب. ويرجّح أن يطول أمد تعطيله الآن وقد تعطلت الهيئات القضائية التي تتولى هي تنظيم دورات مباريات الدخول إليه. فكأنما القضاء فقد المورد الذي كان يغذيه بالدم الجديد.