تقدّم في تاريخ 23/7/2024 نواب من كتل عدّة وهم ابراهيم كنعان وحسن فضل الله ومحمد خواجة وبلال عبدالله وعلي حسن خليل وجهاد الصمد باقتراحيْ قانون (أحدهما معجّل مكرّر والآخر اقتراح عادي)، يرميان إلى رفع العتبة المالية للصفقات الخاضعة لرقابة ديوان المحاسبة المسبقة. وفي مضمون التعديل، يرمي الاقتراحان لرفع عتبة الرقابة الإدارية المسبقة للمعاملات المتعلّقة بالإيرادات كما بالنفقات. كما نص على تعديل قيمة الغرامات المحددة بالليرة اللبنانية.
وفي التفاصيل، نص الاقتراح على رفع عتبة الرقابة المسبقة على الإيرادات من 5 ملايين ليرة إلى 5 مليارات ليرة، كما رفع الحدّ الأدنى المصالحات الحبية على دعاوى أو خلافات إذا كان المبلغ موضوع النزاع من 15 مليون ليرة إلى 5 مليارات ليرة. علاوة على ذلك، رفعت العتبة في ما يتعلّق بالنفقات التي تخضع للرقابة المسبقة على الشكل التالي: 1) من 75 مليون ليرة إلى 15 مليار ليرة فيما يتعلّق بصفقات اللوازم والأشغال، 2) من 25 مليون ليرة إلى 10 مليارات ليرة فيما يتعلّق بصفقات الخدمات، 3) من 50 مليون ليرة إلى 15 مليار ليرة فيما يتعلّق بالاتفاقات الرضائية بما فيها عقود الإيجار، 4) من 100 مليون ليرة إلى 15 مليار ليرة فيما يتعلّق بمعاملات شراء العقارات، 5) من 15 مليون ليرة إلى 15 مليار ليرة فيما يتعلّق بالمنح والمساعدات والمساهمات.
بالمقابل، رفع الاقتراحان الغرامات على الموظفين (وضمنا الوزراء) الذين يخالفون أحكام تنظيم ديوان المحاسبة والقوانين المالية من 150 ألف ليرة كحدّ أدنى ومليون ليرة كحدّ أقصى إلى 10 و100 مليون ليرة.
وقد استندت الأسباب الموجبة لاقتراح القانون إلى أنّ القيم المالية المذكورة في قانون تنظيم ديوان المحاسبة لم تعد واقعية في ظلّ انهيار قيمة الليرة، ولم تعد متجانسة مع ما أقرّ في قانون الشراء العام في العام 2021 الذي هدف إلى توحيد الأحكام القانونية الناظمة للشراء العام.
هذا الاقتراح يستدعي الملاحظات الآتية:
إغفال اقتراحات إصلاحية للرقابة المسبقة
يحاول اقتراح القانون معالجة آثار تدهور سعر الصّرف، من خلال رفع العتبات المالية التي تخضع المعاملات للرقابة على أساسها والتي لم يتم تعديلها منذ انهيار سعر الصرف. وفي حين يحاول الاقتراح مواكبة سعر الصرف الحديث، فإنّه جافى الإصلاحات المقترحة في مجال تنظيم ديوان المحاسبة وضمنا إطار رقابته المسبقة، والتي تمثلت في مشروع القانون الذي أقرّته لجنة الإدارة والعدل في 2016 قبل أن يعلق في أدراج لجنة المال والموازنة. ويُلحظ في هذا الصدد أنّ المشروع كان زاد من حدّة الرقابة بحيث أخضع معاملات بيع الأموال المنقولة أو تأجيرها أو استثمارها لرقابة الديوان، بالإضافة إلى ضبط بعض عمليات التحايل التي قد تنشأ عن القيام بملاحق للصفقات حيث أخضعها للرقابة إذا كان مجموعها مع الصفقة الأساسية يندرج ضمن المبالغ التي يراقبها الديوان.
بالمقابل، يتبيّن أنّ اقتراح القانون لم يعرْ أي أهميّة لهذه المقترحات، بل حصر أهدافه في مراقبة تدهور سعر الصرف.
تقليص مجال الرقابة المسبقة تحت غطاء معالجة انهيار قيمة العملة الوطنية
يُلحظ في الاقتراح أنّه رفع عتبة الرقابة المسبقة إلى أضعاف ما كانت عليه، وعلى نحو يتجاوز بكثير نسبة تدهور سعر الصرف. ففي حين تدهورت قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار حوالي 60 مرّة، ضوعفت العتبة المالية لممارسة الرقابة المسبقة ما بين 200 و1000 مرّة. وعليه، يهدف الاقتراح من خلال ذلك إلى تقليص المجالات التي تخضع لرقابة ديوان المحاسبة المسبقة مقارنة بما كانت عليه قبل الأزمة.
ويتماشى الاقتراح في هذا الصدد مع قرار مجلس الوزراء للتخفيف من رقابة ديوان المسبقة، ويتأكد ذلك عندما نتنبّه إلى أنّ رئيس مجلس النواب نبيه برّي كان أحال اقتراح القانون إلى مجلس الوزراء في اليوم التالي لتقديمه (24/7/2024)، وأنّ هذا الأخير سارع بعد أقلّ من عشرين يومًا (14 آب 2024) إلى اتّخاذ قرار انبنى عليه متبنيّا مضمونه بالكامل. وقد خالف مجلس الوزراء بذلك أمرين اثنين: الأول، إنه عدل قانونا بقرار حكومي وهو أمر يتعارض مع مبدأ تسلسل القواعد، والثاني، إنه استند إلى اقتراح قانون وذكر إياه ضمن بناءاته وهو أمر لا يستقيم طالما أن اقتراح القانون لا يكتسب أي قيمة قانونية إلا بعد إقراره من قبل مجلس النواب.
لا غرامات رادعة
ما يزيد من قابلية الاقتراح للانتقاد، هو التعديل الوارد فيه للغرامات التي يمكن الحكم بها على الموظفين المخالفين ومن ضمنهم الوزراء، وإن خضعت هذه الغرامات عموما لمضاعفة أعلى من نسبة انهيار العملة الوطنية (مضاعفة 66 مرّة عموما). ومردّ الانتقاد يعود إلى أمور ثلاثة:
الأول، إنّ توجّه الاقتراح إلى تقليص الرقابة المسبقة تماشيا مع اتّجاه عالمي إنما يستوجب تعزيز الرقابة اللاحقة وبالأخص القوة الردعية للأحكام التي قد يصدرها الديوان بحقّ الموظفين المخالفين. أمّا أن يتمّ مضاعفة عتبة الرقابة المسبقة بشكل يتجاوز بكثير نسبة مضاعفة الغرامات، فذلك يؤدي إلى تقليص الرقابة المسبقة مقابل إبقاء الرقابة اللاحقة في أحسن الأحوال على حالها،
الثاني، إنّ القانون الحالي ينصّ على إمكانية الحكم على الموظف المخالف في حال تسببت مخالفته بضرر على الخزينة العامة بغرامة أخرى تحدّد على أساس راتبه وتتراوح بين راتب شهر واحد وراتب إثني عشر شهرا. ورغم أن قيمة هذه الغرامة تقلصت بفعل فقدان الرواتب قيمتها الشرائية، فإن الاقتراح لم يدخل أي تعديل على هذه الغرامة،
الثالث، إنّه كان يجدر بالاقتراح أن يتحسّب لاحتمال مزيد من انهيار العملة الوطنية، من خلال ربط الغرامة بمؤشر غلاء المعيشة، وذلك حفظا لقوتها الردعية. إلا أنه هنا أيضا لم يظهر كثير اهتمام في هذا الجانب.