لا يزال لبنان منذ نشأته يعتمد على قوانين قديمة العهد ومعقّدة ومتشعّبة لتسجيل المعاملات والوثائق المتعلّقة بالأحوال الشخصيّة. ونتج عن هذا التشعّب والتعقيد الكثير من الأخطاء في سجلّات القيد كما أنّه السبب في كتمان قيد العديد من الأشخاص. وبالرغم من التطوّر في المجال التقني، لا يزال لبنان متأخراً في مكننة العمل الإداري إذ يتم الاعتماد على العمل اليدوي لتسجيل المعاملات، مثل معاملات الولادات والوفيّات والزواج والطلاق. وهذا أيضاً يؤدي إلى العديد من الأخطاء البشرية التي تقود بدورها إلى تأخير معاملات وضياع سجلّات.
هذا الواقع دفع جمعيّة روّاد الحقوق إلى البحث جديّاً في المساهمة في إصلاح القوانين وتقديم اقتراحات قوانين تتماشى مع العصر. فبدأت في العام 2016 بالعمل على وضع صيغة قانونية جديدة ومتطوّرة وعصرية للسجلّات المدنيّة، ومع الوقت أثبتت الأزمات التي يمر بها لبنان الحاجة إلى هذا التطوير. وولد الدافع الأساسي لدى الجمعيّة لوضع هذا المقترح، من تعاملها مع فئة متضرّرة من النظام الحالي وهي فئة مكتومي القيد. فبحسب مسؤولة المناصرة في “روّاد الحقوق” بيرنا حبيب “تعمل الجمعية منذ سنوات لمناصرة مكتومي القيد ومساندتهم، وفهمت أنّ هذه الفئة ظهرت نتيجة خلل في نظام تسجيل الوقوعات المدنية الحالي”. وتقول حبيب لـ “المفكرة القانونية” إنّ إقتراح القانون يضمن إيجاد تسوية إدارية لمكتومي القيد بدلاً من الدعاوى التي تقام أمام القضاء، إضافة إلى أنّه يتجنّب حصول أخطاء في المستقبل في كافة أنواع الوقوعات. وقد تبنّى النائب أسامة سعد الاقتراح وتقدّم به في تمّوز 2021 إلى المجلس النيابي ولا يزال لغاية اليوم في أمانة السر بانتظار إحالته إلى اللجان النيابية لدراسته.
وتشدد حبيب على ضرورة عدم الخلط بين اقتراح قانون التسجيل المدني للأحوال الشخصية وبين قانون مدني موحّد للأحوال الشخصية، لافتة إلى أنّ “الاقتراح الحالي لا يهدف إلى إنشاء وقوعات جديدة، بل هدفه تسجيل الوقوعات”. وتُضيف: “هو قانون تقني يتعلّق بالقيود ولم يتطرّق إلى القوانين الحالية التي ترعى الأحوال الشخصية المتعلّقة بالزواج والطلاق”. وتُوضح: “اقتراحنا وضَعَ آلية يمكن اعتمادها في حال كان الزواج دينياً أو مدنياً كما أنه أيضاً قابل للتطبيق في حال تم إقرار قانون مدني للأحوال الشخصية”.
ومن جهة الكلفة التي تحتاجها الدولة لتنفيذ هذا الاقتراح في حال إقراره، تلفت حبيب إلى أنّ الجزء الأكبر للتكلفة تتعلّق بمكننة المعلومات، لافتة إلى أنّ “لبنان أطلق الخطة الوطنية للحكومة الرقمية وقد رصد لها موازنة، إضافة إلى أنّ جزءاً من الإدارات المعنيّة بتسجيل الوقوعات هي أصلاً ممكننة”.
قانون يُجنّب الأفراد المشاكل من بينها كتمان القيد
أنشأت جمعيّة روّاد الحقوق صفحة على فيسبوك تتولّى التعريف عن اقتراح القانون وتورد حالات تُبرز المشاكل التي طرأت ولا تزال تطرأ مع الأفراد بسبب نظام التسجيل الحالي. ويهدف الاقتراح إلى إدخال نظام متطوّر وعصري وآلي، يتجنّب الأخطاء، ويخفف الأعباء عن الإدارة كما عن الأفراد. ويُنظّم هذا الاقتراح عمل الإدارة عبر إنشاء وحدة مركزية لتسجيل كافة المعاملات المتصلة بالأحوال الشخصية لجميع المقيمين على الأراضي اللبنانية. ويُسهم هذا التحوّل في الخروج من تعدّد القوانين والجهات التي ترعى الأحوال الشخصية، ويحمّل المؤسسات مسؤولية التسجيل تلقائياً بدلاً من انتظار مبادرة الأفراد. فتسجيل الولادات في نظامنا الحالي مثلاً ملقى على عاتق الأفراد، وبسبب صعوبة وصول بعض الأشخاص إلى الإدارات أو بسبب جهل في أهمية التسجيل أو نتيجة أسباب أخرى، برزت شريحة من مكتومي القيد.
وليس مكتومو القيد الفئة الوحيدة المتضرّرة من نظام التسجيل الحالي، بل هناك فئات أخرى متضرّرة ومنهم أشخاص قد تسجّلوا في القيود عند ولادتهم لكن حصلت أخطاء أخرى عند التسجيل قد تحوّلهم إلى مكتومي قيد. من تلك الأخطاء ما حصل في حالة الشاب ربيع صولي الذي حصل التباس حول قراءة اسمه في دائرة النفوس في وزارة الداخلية حين ذهب لتسجيل زواجه، حيث قرأوا الاسم المكتوب بخط اليد في إخراج القيد “حولي” وليس “صولي”، وبالتالي رفضت دائرة النفوس تسجيل الزواج بوجود ما اعتبرته خطأ في كتابة الاسم. وتكرر الأمر حين جلب وثيقة ولادته، حيث اعتبرت دائرة النفوس أنّ الحرف أقرب إلى الحاء منه إلى الصاد، وبالتالي رفضت الدائرة مجدداً تسجيل الزواج. دفع ذلك ربيع إلى رفع دعوى أمام محكمة الأحوال الشخصية وانتظر عاماً كاملاً من دون وصول الأمر إلى خواتيمه. تقول زوجته رشا لـ “المفكرة”: “كنت حامل في الشهر التاسع ولم أكن قد سجّلت زواجي بعد، وخشيت أن ألد من دون حل المسألة وتصبح ابنتي مكتومة القيد”. الغريب أنّ هذه المسألة لم تُحل بحسب رشا إلّا حين “شاهدت صدفة موظفة من الداخلية على التلفاز يتكلّم عن القيود، فاتصلت وتكلمت على الهواء عن مشكلتي، فتم إحالتي مباشرة إلى الوزارة وخلال أقلّ من أسبوع كنت قد سجّلت زواجي”.
ومن شأن الاقتراح الحالي أن يمنع مثل هذه الأخطاء لدى كتابة الأسماء كما يمنع تسجيل الولادات بأسماء مهينة مثل “متعب” أو “نكد”. ويُخفف الاقتراح الأعباء المالية وهدر الوقت الذي يضع الأفراد تحت ضغوط قد تُسهم في تأخّرهم في تسجيل معاملاتهم لدى دوائر النفوس المختلفة أو عدم تسجيلها نهائياً.
نظام بيانات موحّد
وفي كُتيب تعريفي عن اقتراح قانون “التسجيل المدني للأحوال الشخصية” وزعته جمعيّة روّاد خلال لقاء مع الصحافيين يوم الأربعاء 5 تشرين الأول، تشرح الجمعية بأنّ النظام الحالي لتسجيل الأحوال الشخصيّة يخضع لقوانين وأنظمة عدّة. وهذه القوانين منها ما هو قديم العهد، مثل قانون قيد وثائق الأحوال الشخصية (1951)، وقانون الإحصاء (1932)، وهو أيضاً يخضع لقانون تنظيم وزارة الداخلية، وقانون المختارين، إضافةً لقرارات ومراسيم ترعى قيد وقوعات الأجانب، ومن هم قيد الدرس، واللاجئين الفلسطينيين. كما يعاني النظام الحالي من تعدّد الجهات الممسكة بالقيود وتعدد السجلات وعدم شموليتها. فثمة ثلاث جهات تمسك 10 سجلات لفئات مختلفة من الأفراد، وهي المديريّة العامّة للأحوال الشخصيّة للبنانيين والأجانب وقيد الدرس، المديريّة العامة للأمن العام لفئة حاملي جوازات إقامة قيد الدرس، ومديريّة شؤون اللاجئين الفلسطينيين.
وبالتالي يهدف اقتراح القانون، إلى حصر السجلات بيد جهة واحدة ضمن نظام بيانات موحّد يشمل كلّ أنواع الوقوعات الحاصلة في لبنان بغض النظر عن جنسيّة من تتعلق به أو وضعه القانوني. كما يرمي إلى تنظيم وإدارة البيانات والوثائق الثبوتية القانونيّة للأفراد والإدارة كما إلى توحيد الأنظمة التي ترعى سجلات الأحوال الشخصية ضمن قانون شامل متناسق يزيل أي تناقضات أو التباس أو تشتت.
المكننة لتفادي الأخطاء البشرية
تُشدد جمعيّة “روّاد الحقوق” أيضاً على أهميّة مكننة السجلات وضمان حمايتها واكتمالها، على أن تكون قاعدة بيانات مركزيّة تتمتع بدرجة عالية من الأمان والحماية ومحفوظة بشكل سليم وآمن تحت إشراف القضاء وتحد من إمكانية الإضافة أو الحذف أو التلاعب. ويختلف ذلك كلياً عن الوضع الحالي، حيث يتم اعتماد السجلات اليدوية التي منها أصبح قديماً مهترئاً، ومنها غير مكتمل بسبب تلفه جرّاء عوامل طبيعية أو بسبب عدم الالتزام بمعايير الحفظ أو بسبب الحرب اللبنانية في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي أو حرائق حصلت لأسباب متعددة. مع الإشارة إلى أنّ البيانات لم تكن محفوظة على وسائط أو شرائط ما أدى إلى ضياع قيود العديد من الأفراد واضطرار الكثيرين اللجوء إلى القضاء لإعادة هذه القيود. وهذا ما وضع أعباء على الإدارة لإعادة تكوين ما تيسّر من السجلات وما رافق عملية إعادة التكوين من إشكاليات وأخطاء مقصودة وغير مقصودة في حذف أشخاص أو إضافة أشخاص غير وجه حق.
التخفيف عن كاهل الأفراد والاتكال على المؤسسات
ويذهب الاقتراح إلى أبعد من ذلك، إذ يرى أنّ الاتكال على الأفراد لتسجيل المعاملات ليس فعّالاً كما هو الحال اليوم بسبب “عدم فورية الإجراءات وعدم ربط المعاملات بمهل إدارية واضحة وموحّدة لجميع الفئات”. ويؤدي ذلك إلى الكثير من الوقوعات غير المسجّلة، ما يفرض على الأفراد اللجوء إلى القضاء لقيد الوقوعات لاحقاً. وهذا الأمر يضع عبئاً على الأفراد وعلى القضاء أيضاً. ومثال على ذلك، مكتومو القيد نتيجة عدم قيام أهلهم بتسجيلهم لدى الإدارة خلال مهلة السنة المنصوص عنها في القانون، ممّا حرم هؤلاء من امتلاك الهويّة ووضعهم تحت ضغوط وأعباء لاحقاً للتمكّن من استخراج الهويّة. وغالباً ما يتوجه هؤلاء إلى القضاء للحصول على الهويّة، ونتيجة تعقّد الإجراءات وتشعّب الجهات المعنية تطول آماد المحاكمات سنوات طويلة. ولحل هذه المعضلة يُشير الاقتراح إلى “وضع مسؤولية التصريح على المؤسسات (مثل المستشفيات التي يولد فيها الأطفال) لا على الأفراد للتصريح عن الوقوعات ضمن آليات سهلة و متاحة وممكنة”.
وتلفت الجمعية إلى أنّ أعباء أخرى تترتّب على الفرد جرّاء الإجراءات والمراحل لتوثيق السجلات والتصريح بها وتنفيذها. يذكر اقتراح القانون هذه المعضلة التي يواجهها الفرد في لبنان لتسجيل أي قيد، ويقترح تسهيلها عبر اختصار مراحلها والجهات المعنية بها ومأسستها، عبر الربط بين الجهات المعنية بالوقوعات، وبالتالي توفير أعباء مالية على الدولة والأفراد ويقتصر اللجوء إلى القضاء على حالات استثنائية. كما يضع آلية منظمة للإدارة لضمان سلاسة العمل الإداري وتنظيم هرميته.
الرقم الوطني بديل رقم السجل العائلي
من جهة أخرى، ينظر اقتراح القانون إلى مسألة القيود المذهبية والمناطقية التي تحصر الفرد بمذهب معيّن ومنطقة معيّنة بغضّ النظر عن مكان إقامة الفرد. ويقترح قيوداً مركزية محرّرة من المكان والمذهب، على أن يكون الفرد مربوطاً برقمه الوطني إذا كان لبنانياً أو الرقم التعريفي إذا كان غير لبناني.
ربما كثر من اللبنانيين لا علم لهم أنّ لكل فرد أن يتمتع برقم وطني خاص به، إذ اعتدنا جميعاً على استخدام رقم السجل للتعريف عن أنفسنا. وبحسب “روّاد للحقوق” فإنّ بيانات الأفراد ووقوعاتهم مرتبطة بسجل واحد للعائلة يورث من جيل إلى جيل آخر عن طريق الأصول الذكور من جهة الأب. وهذا يحرم الفرد من هويّة قانونية فردية خاصة. وبالتالي، يمنع القضاء من القدرة على الولوج إلى بيانات ووقوعات وتحديثات كل من الأفراد في مكان واحد.