"الصحة النفسية في السجون اللبنانية" دراسة نشرتها جمعية كثارسيس عام 2015تناولت فيها معدل انتشار الاضطرابات النفسية الشديدة لدى السجناء في سجني رومية وبعبدا. "الحافز الأساسي" لهذه الدراسة كانت "ف.م"، سيدة لا تعرف المدة التي ستقضيها في السجن لأن حكمها "غير واضح". "ف.م" ليست الوحيدة التي قد تقضي حكماً مؤبداً لا تستحقه. ذلك أنها واحدة من بين كثر يعانون من أمراض نفسية تؤدي إلى الحكم عليهم بالحجز في مأوى احترازي "حتى الشفاء". شكلت هذه الدراسة حجر أساسٍ لخطوة لاحقة تمثلت بإعداد كثارسيس، بالتعاون مع مجموعة من النواب وكلّ من وزارة العدل والوزارات المعنية أي الداخلية والبلديات ووزارة الصحة ووزارة الشؤون الاجتماعية، لـ"إقتراح قانون متعلق بالمرضى العقليين أو النفسيين مرتكبي الجرائم". وقد تمّ اطلاق هذا الاقتراح بالإضافة إلى ثانٍ يتعلق بـ"إيجاد حلّ لإشكالية اطلاق سراح المحكومين بالمؤبد"، في مؤتمر صحفي عقد في مجلس النواب في 29آب من العام الجاري.
إذن، يشكلّ واقع الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية داخل السجون دافعاً أساسي خلف اقتراح القانون. واشكالية هذا الواقع تترجم ببعدين أساسيين: مسألة فصل المرضى في مأوى احترازي، والتي تؤدي اما إلى وضعهم في المأوى الاحترازي في رومية وهو غير مؤهل لإستقبال هذه الحالات ومعالجتها. واما بقائهم بين باقي السجناء. والحالة الثانية تطبّق دائماً بالنسبة للنساء بما أن المأوى الاحترازي في رومية لا يستقبل سوى الرجال. على الصعيد الواقعي أيضاً، تشير المديرة التنفيذية لكثارسيس زينة دكاش إلى وجود طاقم من الأطباء النفسيين المعينين من قبل وزارة الصحة للإشراف على المرضى النفسيين داخل السجون. تقول دكاش أن وظيفة هؤلاء يفترض أن تمتد خلال أيام السبوع كأي وظيفة عامة أخرى. غير أن انحسار حجم مهامهم يؤدي إلى انهائهم لها خلال أيام أقل، ما يتيح المجال أمام زيادة مهامهم والقبول باقتراح القانون كونه "لا يؤدي إلى تحميل الخزينة العامة تكاليف اضافية عما تتحمّله أصلاً".
على مستوى ثان، فإنّ الهوة الكبيرة بين تطور علم النفس من جهة، وتأخر قانون العقوبات من جهة ثانية، يضاعف الحاجة لإجراء هذا التعديل لتأمين الحدّ الأدنى من الحقوق بالنسبة لهذه الفئة من الأشخاص في السجون. تظهر هذه الهوّة أولاً على صعيد تعليق انتهاء محكومية هؤلاء على شفائهم، وثانياً من خلال الأوصاف التي يعبّر القانون عنهم بها: المعتوه، المجنون، الممسوس. توضح دكاش أنه "لا يمكن لطبيب نفسي أن يكتب في تقريره أن المريض قد شفي. فهو علمياً لا يشفى بل يصبح في حالة استقرار". هكذا يستمر القضاة برفض اطلاق سراح الذين يعانون من اضطرابات نفسية على الرغم من استقرار حالتهم. على هذا الصعيد، ينص اقتراح القانون على تعديل هذا المصطلح في المادة 232عقوبات من "يستمر الحجز إلى أن يثبت الشفاء" إلى "يستمر الحجز إلى أن يثبت استقرار…". ما يفاقم هذا الحال ويحوّل ذوي الإضطرابات النفسية داخل السجون إلى منسيين، هو ربط اعادة البت بملفاتهم بنفس المحكمة التي أصدرت الحكم بحقهم. من هذا المنطلق، يمنح اقتراح القانون صلاحية متابعة ملفات السجناء واقتراح تنفيذ عقوباتهم إلى لجنة تنفيذ العقوبات، لا سيما أن أحد أعضاء اللجنة هو طبيب نفسي متمرس في الحالات الجرمية. وبالتالي، ينقل الاقتراح صلاحية البت باطلاق سراحهم إلى محكمة الاستئناف الناظرة في تخفيض العقوبات. هذا بالإضافة إلى منح هذه المحكمة صلاحية اجراء تحقيقات حول المطلق سراحهم. اما المحكمة التي تصدر الحكم، فتصبح بموجب الاقتراح ملزمة باعتماد سجل خاص بالأحكام الصادرة بحق المصابين باضطرابات نفسية.
على صعيد آخر، يتمسك الاقتراح بضرورة تطوير اللغة المستخدمة في توصيف حالة ذوي الاضطرابات النفسية. وهذه التعديلات تبدو متماشية مع المرسوم رقم 94/6164 الذي اوجب وضع الاشخاص المصابين بأمراض نفسية أو عقلية في المأوى الاحترازي. بهذا المعنى، تمّ استخدام تعبير "الأمراض العقلية والنفسية والنفس عصبية" بدل من "العته". أما بدل "الجنون"، يستخدم الاقتراح مصطلح "انعدام القدرة على التمييز والتحكم بالافعال". واخيراً يحذف الاقتراح ذكر المدمنين على المخدرات والكحول من المادة 234 من قانون العقوبات، والتي كانت تجمع المصاب "بالعته والجنون والممسوس"، بالمدمن على تعاطي المخدرات والكحول". وبما أن قانون العقوبات يتطرق لحالة المدمنين على حدى في موقع آخر من قانون العقوبات، كما أنه يوجد قانون خاص بهذه الفئة، فقد جرى حذفهم من المادة المذكورة.
على صعيد آخر، أكثر ارتباطاً بالواقع العملي لتطبيق القانون، يتخلص الاقتراح من حصرية خيارات القاضي بالمأوى الاحترازي الوحيد، نحو فتح مجموعة من الخيارات امامه. ويمكن للقاضي بموجب الاقتراح أن يحيل مرتكب الجرم المصاب باضطراب نفسي إما إلى المأوى الاحترازي أو إلى المستشفيات النفسية والعقلية. هذا الخيار يرمي إلى انهاء حالة تواجد هذه الفئة مع غيرها من المساجين الذين لا يعانون اضطرابات، ما يصبّ في مصلحة الطرفين.
القانون الآن بات في عهدة مجلس النواب، وفقاً لما قاله النائب غسان مخيبر خلال المؤتمر الصحفي. بالتالي "التحدي الآن امام النواب هو تحدي الاستمرار بالعمل التشريعي والتعاون مع المجتمع المدني والقضاء بما يصبّ في بناء مجتمع مدني". وبما أن هذا القانون يتمتع بأولوية موازية لباقي الأولويات التي تستولي على اهتمام الرأي العام، فإن "الصحافة يجب ان تلعب دوراً أساسياً لكي لا يستمر المجتمع بالتعامل مع السجناء على أنهم خارج اهتمامته وكأنهم لا ينتمون إليه، وليصار إلى احترام حقوق جميع الناس".
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.