تقدم 5 نوّاب من كتلة “الجمهورية القويّة” في تاريخ 6/9/2023، باقتراح قانون يرمي إلى تنظيم عمل المقالع والمرامل والكسّارات في لبنان. النواب مقدمو الاقتراح هم جورج عقيص، فادي كرم، نزيه متى، جورج عدوان، غياث يزبك (وهو رئيس اللجنة البيئية). وقد أُعِدّ اقتراح القانون انطلاقا من أحكام المرسوم 8803/2002 الذي ينظّم حاليّا هذا القطاع، مع إجراء بعض التعديلات عليه، أهمها تحديد المناطق التي يجوز استثمار مقالع فيها. واللافت أنه رغم اعتراف مقدمي الاقتراح في الأسباب الموجبة أن المرسوم الناظم لهذا القطاع لم يطبق، فإنهم لم يوضحوا الإشكاليات التي أعاقت تطبيقه كما (وهذا هو الأخطر) لم يتخذوا أي موقف بشأن الجرائم البيئية المرتكبة طوال العقود الماضية والجهات المسؤولة عنها. وهذا ما دفعنا لاختيار العنوان أعلاه حيث أن الاقتراح يهدف إلى إعادة تنظيم المنظم بموجب المرسوم من دون أن يعير أي انتباه للجرائم المطبقة بفعل عدم الالتزام به. وكأنما الإشكالية هي في النص والقاعدة الموضوعة وليس في مخالفتهما من دون أي محاسبة.
وكان موضوع المقالع والكسارات وخطورتها عاد إلى واجهة النقاش العام مؤخرّاً في محطات عدّة أبرزها:
- أن مجلس شورى الدولة أصدر 3 قرارات، أحدثها في تاريخ 20/04/2023، أكدت على عدم قانونية القرارات الحكومية بمنح مهل إدارية للمقالع والكسارات العاملة خلافاً لأحكام المرسوم 8803/2002، الأمر الذي أثبت أن استثمار المقالع طوال العقود الماضية تمّ خارج القانون. وكانت المفكرة القانونية قد وثّقت في مقالٍ ما أسمته “جريمة نظام” مرتكبة في هذا المجال بحقّ البيئة والجبال والسكان، مخصّصة عددا كاملا عن الكورة ومعاناة أهلها من جراء تفجير قسم من جبالها وتأثيرات هذا التفجير على ناسها وبيئتها.
- أن المركز الوطني للجيوفيزياء في بحنّس أصدر بالتعاون مع المعهد الوطني لعلوم الأرض في غرونوبل (فرنسا) عددا من التقارير العلمية بشأن إمكانية ارتباط الهزّات الحاصلة بلبنان بنشاط المقالع،
- أن وزارة البيئة أصدرت بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تاريخ 2/6/2023 دراسة بيّنت التضحية بالحقوق المالية للدولة لجهة استيفاء الرسوم والغرامات من دون الحديث عن الأضرار الجسيمة التي طرأت على الجبال المملوكة من الدولة والمياه الجوفية والمناظر الطبيعية؛ وهي أضرار قدّرها التقرير بملياريْن وأربعمائة مليون د.أ، أي بمبلغ يقارب ما ترجو الدولة الحصول عليه اليوم من صندوق النقد الدولي.
وعليه، يستدعي هذا الاقتراح الملاحظات الآتية:
- تنظيم وترتيب المقالع في الأراضي اللبنانية: الأماكن المجاز استثمارها
هنا نجد ربما أهمّ ما ذهب إليه اقتراح القانون وهو إلغاء تحديد المواقع الجغرافيّة للأماكن المجاز استثمارها. وعليه، بخلاف المرسوم 8803 الذي حصر إمكانية استثمار المقالع والمرامل والكسارات في مناطق معينة غالبها في سلسلة الجبال الشرقية، خلا اقتراح القانون من أي تحديد جغرافي. إذ جلّ ما تضمنه في هذا الخصوص هو اشتراط أن يحصل استثمار هذه المنشآت ضمن شعاع 2000 متر من أقرب بناء (1)، أو من أقرب مصدر لمياه الشرب (2)، أو ضمن المواقع والمناظر الطبيعية، المحميات الطبيعية، والمنتزهات الاقليمية والوطنية، المواقع الاثرية، مواقع التراث العالمي، مجاري الأنهر وحرم الينابيع وسائر المناطق المحميّة بموجب القوانين والانظمة والاتفاقيات الدولية (3). ويلحظ هنا أن مسافة 2 كيلومتر هي مسافة غير كافيّة لحماية السكّان في المناطق المجاورة لهذه الأعمال، فضلا عن أن الاقتراح لا ينصّ صراحة على الابتعاد عن مصادر المياه الجوفيّة أو المناطق الساحليّة أو الأملاك البحريّة، ولا الفوالق الزلزاليّة.
من هذه الزاوية، يأتي الاقتراح بمثابة تكريس للواقع الحالي، حيث تتمسك شركة الإسمنت على استثمار المقالع على مسافة قريبة من معاملها المتواجدة قرب البحر. فكأنما يطلب من المشرّع أن يرضخ لشركات الإسمنت التي نجحت في مخالفة المرسوم ومعه مجمل الشروط البيئية التي تضمنها، لأكثر من عقدين.
وما يعزز ذلك هو أنه فيما خلا هذا التعديل الهام ونقل صلاحية الترخيص من المحافظين إلى مجلس الوزراء، استعاد اقتراح القانون أغلب مواد المرسوم، مع تعديلات طفيفة، فكأنما اقتراح القانون مجرد ديكور يلغى في ظله التحديد الجغرافي لأماكن الاستثمار. ولكان أجدى بواضعي الاقتراح أن يطالبوا بتطبيق المرسوم على أن يضعوا نصا تنظيميا جديدا، هو بمثابة تنظيم ما سبق تنظيمه.
- كيفية احتساب رسم الاستثمار
حدّد الاقتراح رسم استثمار يحدد المجلس الوطني قيمته ضمن حدٍّ أدنى وأقصى، ويفرض عن “كلّ متر مكعب من المواد المستخرجة من المقلع أو المرملة أو الكسارة”، بعدما كان يستوفى وفق أحكام المرسوم 8803/2002 “عن كل متر مربع من أرض المقلع أو الكسارة”. وقد تفتح الصيغة المقترحة الباب أمام هدر أموال محتملة لخزينة الدولة أو البلديات، حيث إن ارتباط رسم الاستثمار بكميّة المواد المستخرجة يجعله رهينة لانتاجيّة المقلع أو المرملة أو الكسارة التي يفتح قياسها بابا واسعا أمام التهرّب والتلاعب. ولكان ربما من الأجدى في ظلّ وضع الإدارة الحالي الإبقاء على الصيغة المنصوص عنها في المرسوم الحالي والتي ترتبط بعامل ثابت، يصعب التلاعب به، ألا وهو مساحة العقار المستثمر، شرط التأكد من تطبيقه وتحصيله حرصا على عدم هدر المزيد من مستحقات الخزينة. ونعيد الإشارة في هذا السياق إلى تقرير وزير البيئة الذي بيّن حجم التضحية بالحقوق المالية للدولة لجهة عدم استيفاء الرسوم والغرامات عن قطاع المقالع والمرامل والكسارات، ما ينقلنا إلى الملاحظة الثالثة.
- عقوبات لا تتناسب مع خطورة الجرائم
في هذا المجال، وعلى الرغم من تنصيص الاقتراح على ربط العقوبات الجزائيّة بأحكام قانون حماية البيئة 444/2002، إلّا أنه أبقى مدّة الحبس وقيمة الغرامة على حالها كما هو منصوص عليه في المرسوم 8803/2002 من دون أن يولي أي اهتمام لانهيار العملة الوطنية وفقدان قيمتها.
وعليه بموجب الاقتراح، يعاقب مستثمر كل مقلع دون ترخيص أو بعد انتهاء مدة الترخيص أو بعد صدور قرار انتهاء الأشغال وإقفال المقلع أو رغم صدور القرار بالتوقيف المؤقت عن العمل “بالحبس من شهرين إلى سنة وبغرامة تتراوح بين خمسين مليون ومئة مليون ليرة لبنانية أو بإحدى هاتين العقوبتين”. وتعاقب كل مخالفة أخرى لباقي أحكام هذا القانون “بالحبس من شهر إلى ستة أشهر أو بغرامة من عشرة ملايين إلى عشرين مليون ليرة لبنانية أو بإحدى هاتين العقوبتين”.
وبذلك، تتراوح الغرامة المتوجبة على تفجير جبل أو تلويث المياه الجوفية في حال إقرار الاقتراح بين 200 و1000 د,أ، فيما تبقى عقوبة الحبس سنة على الأكثر، وهي عقوبة تفرض عادة للجنح قليلة الخطورة. ومن المؤسف أن ينتهي اقتراح قانون إلى وضع عقوبات غير رادعة، وبخاصة بعد أكثر من عقدين من الجرائم البيئية المرتكبة بصورة منتظمة من دون أي رادع.
- إجراءات منح الرخص ودور المجلس الوطني
أناط اقتراح القانون إعطاء تراخيص الاستثمار بمجلس الوزراء على أن يتم ذلك بناء على اقتراح من وزير البيئة بعد موافقة المجلس الوطني المكوّن من وزارات عدة. وإذ يسجّل في هذا الإطار للاقتراح تخفيف دور وزارة الداخليّة مقابل تعزيز دور وزارة البيئة، إلا أن قرار الترخيص بات قرارا حكوميا يخضع لحسابات السياسة وربما لقواعد المحاصصة والمساومات، وهي قواعد يحتمل أيضا أن يعززها الإبقاء على صلاحيات المجلس الوطني. ولربما كان من الأفضل أن تتحمّل وزارة البيئة مسؤولية منح التراخيص بعد الاستعانة بمجموعة من الخبراء التقنيين، على أن تتعزز آليات الرقابة وتفعيل القانون.
- تجاهل الجرائم البيئية ومفاعيلها المدمرة
لم يشِر الاقتراح من قريب أو بعيد إلى الكارثة المستمرة منذ التسعينيات لليوم لا في مواده ولا حتى في أسبابه الموجبة. فكأنما الاقتراح يشرع للمستقبل من دون النظر إلى الماضي بل من دون النظر إلى الإشكاليّات التي منعتْ تطبيق المرسوم بصورة فعليّة. وفيما كان من المهمّ أن يضمن الاقتراح محاسبة المسؤولين وإعادة التأهيل ومعالجة الضرر الهائل الناتج عن الكارثة البيئية الحاصلة بفعل قطاع المقالع والمرامل والكسارات غير القانوني والعشوائي وتحصيل الأموال المهدورة (طبق التقرير الذي أعدته وزارة البيئة)، ذهب الاقتراح للأسف في اتجاه معاكس تماما بحيث أعطيَ أصحاب المقالع والكسارات القائمة والعاملة إمكانية استثمارها من دون ترخيص لمدة سنة إلى حين تقدمها بطلب ترخيص وفق شروط الاقتراح.
يمكنكم هنا الاطلاع على اقتراح قانون المقالع والمرامل والكسارات كاملا