تقدم النائب علي حسن خليل بتاريخ العاشر من شباط 2023 باقتراح قانون معجل مكرر يرمي إلى الإجازة للحكومة بالجباية والصرف على أساس القاعدة الإثنتيْ عشرية وذلك ضمن إطار زمني يمتدّ من الأول من شهر شباط 2023 حتى 31 من شهر تموز المقبل.
ويستند الاقتراح في أسبابه الموجبة على المادة 86 من الدستور التي تتناول الصرف على هذه القاعدة، معتبراً أنّه في ظلّ عدم تقديم مشروع الموازنة العامة إلى المجلس النيابي جرّاء عدم تشكيل حكومة جديدة إثر الإنتخابات النيابية، وحرصا على عدم توقف الصرف والدفع في الأول من شباط 2023 لما له من تأثير سلبي على سير المرافق العامة كافة، يجدر بالمجلس النيابي الإجازة للحكومة بالصرف على أساس القاعدة المذكورة.
ولا بدّ أولا قبل الدخول في تفاصيل القانون من تسجيل مفارقة قيام نائب بتقديم هكذا اقتراح، بينما المنطق الدستوري يفترض أن الحكومة التي يقع عليها عاتق إعداد الموازنة وتنفيذها هي التي يتوجب عليها المبادرة والتقدم بمشروع قانون في هذا الموضوع، إذ إنّها الجهة المسؤولة عن الصرف والجباية كما هي الجهة المتضررة من غياب الموازنة لتمكينها من تسيير مرافق الدولة.
ولا شك أن أكثر ما يثير التعجب في مضمون هذا الاقتراح هو مخالفته الصريحة والمباشرة للدستور. فقد استقرّ اجتهاد المجلس الدستوري في لبنان على اعتبار أن الإجازة للصرف على أساس القاعدة الإثنتيْ عشرية المنصوص عليها في المادة 86 من الدستور إنما هي تسري في شهر كانون الثاني فقط لا غير، وأن كلّ إنفاق أو جباية على أساس هذه القاعدة، خارج هذه المهلة الزمنية، وإن كان بالاستناد إلى قانون، فهو مخالفة للمادة الدستورية وتمادٍ في مخالفة أصول الجباية والإنفاق وإدارة الأموال العمومية.
في هذا الصدد، جاء القرار رقم 5 تاريخ 22 أيلول 2017 للمجلس الدستوري كي يشكل الإدانة الأوضح والأبلغ للصرف المتمادي على أساس القاعدة الإثنتي عشرية. إذ يعلن المجلس في قراره على قاعدة مبدئية وهي أنّ الإجازة بالصرف والجباية التي يمنحها المجلس النيابي للحكومة بموجب قانون الموازنة العامة هي إجازة مؤقّتة وتسري لمدّة سنة واحدة فقط. وإن الاستثناء المعطى للحكومة بموجب المادة 86 من الدستور للإنفاق والجباية على أساس القاعدة الإثنتيْ عشرية إنما هو محصور في مدّة العقد الاستثنائي الذي يدعو إليه رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس الحكومة لاستكمال درس مشروع الموازنة. وطالما أن هذا العقد ينتهي حكماً في آخر شهر كانون الثاني، فإن الاستثناء الممنوح في المادة 86 ينتهي مع انتهاء العقد، فلا يجوز بعده الصرف والجباية على أساس القاعدة الإثنتيْ عشرية.
ويعود المجلس الدستوري ويكرر حصره للقاعدة الإثنتيْ عشرية في شهر كانون الثاني من السنة فقط في قراره رقم 4 تاريخ 14 أيّار 2018 المتعلق بالموازنة العامة حيث اعتبر أنّ التمادي في الإنفاق على أساس القاعدة الاثني عشرية هو مخالفة لما نص عليه الدستور في المادة 86. وقد عاد وكرر التعبير نفسه في قراره الأخير المتعلق بالموازنة العامة رقم 1 بتاريخ 5 كانون الثاني 2023.
بالاستناد إلى ما تقدّم، فإن اقتراح القانون المقدم من النائب خليل، وفي حال تمّ التصديق عليه من قبل مجلس النواب، فهو معرّض للإبطال من قبل المجلس الدستوري إذا تمّ الطعن فيه. لكن لا بدّ من الإشارة في هذا الصدد أنّه وبالرغم من صدور قرار المجلس الدستوري المذكور آنفاً سنة 2017 والذي أدان التمادي في استعمال القاعدة الإثنتيْ عشرية، فإن مجلس النواب لم يلتزم بتلك القرارات بل استمرّ في اتّباع النهج نفسه إذ أقرّ منذ ذاك التاريخ أربعة قوانين[1] أجاز فيها الإنفاق على القاعدة الإثنتيْ عشرية خارج المهلة الدستورية. وقد تمّ إقرار تلك القوانين بعد حصول توافق سياسي بين الكتل المسيطرة على مجلس النواب التي صدرت دون أن يتم حتى الطعن بها أمام المجلس الدستوري ما ساهم في مفاقمة الخلل في الانتظام القانوني والمالي للدولة.
والأمر الذي يثير الاستغراب هو أن هذا الاقتراح لا يكتفي بمخالفة الدستور لجهة تمديد مهلة استخدام القاعدة الإثنتي عشرية لكنه أيضا يخالفه من ناحية أخرى كون الحكومة لم ترسل أصلا موازنة سنة 2023 إلى مجلس النواب. فالمادة 86 من الدستور وُضعت من أجل تدارك التأخير الذي قد يحصل في إقرار الموازنة لكنها لم توضع لتدارك عدم وجود موازنة أصلا. فالقاعدة الإثنتي عشرية هي تدبير دستوري مؤقت يفترض أن الموازنة العامة السنوية سيتم إقرارها في القريب العاجل بينما الاقتراح الحالي يسمح بتطبيق تلك القاعدة وهو يعلم يقينا أن الموازنة لم تتم إحالتها حتى اليوم إلى مجلس النواب.
والأدهى أنه يتبيّن لنا لدى مراجعة العدد 9 من الجريدة الرسمية الصادر في 2 آذار الحالي أن المراسيم التي تنقل اعتمادات من احتياطي الموازنة تشير في بناءاتها إلى القرار التالي: “قرار مجلس الوزراء رقم 1 تاريخ 27 شباط 2023 المتضمن الموافقة على الإنفاق على أساس القاعدة الإثنتي عشرية ابتداءً من أول شباط 2023 ولغاية صدور قانون الموازنة العامة للعام 2023”.
ويشكل قرار مجلس الوزراء هذا بدعة دستورية مكتملة الأوصاف كون الحكومة سمحت لنفسها بالتصرّف بالمال العام دون خضوعها لأيّ رقابة من مجلس النواب وهي أصلا لم تنتظر أصلا صدور قانون يجيز لها اللجوء إلى القاعدة الاثني عشرية حتى لو كان هذا القانون يشكل بدوره مخالفة دستورية. وهكذا تكون الحكومة قد ضربت بعرض الحائط أبسط المفاهيم القانونية المتعلقة بالمالية العامة وأوّلها أن أي فرض للضرائب لا يمكن أن يتمّ من قبل السلطة من دون موافقة الجهة التي تفرض عليها هذه الضريبة أو من يمثلها.
وما يزيد الأمر فداحة هو التباين بين قرار مجلس الوزراء الذي يجيز استخدام القاعدة الإثنتي عشرية حتى صدور موازنة سنة 2023 والاقتراح الحالي الذي لا يسمح بذلك إلا ضمن مهلة زمنية محددة تنتهي في 31 تموز 2023. فقرار مجلس الوزراء في حال إقرار الاقتراح الحالي يصبح مخالفا ليس فقط للدستور بل أيضا للقانون الذي بدوره يعتبر مخالفا للدستور.
وفي النهاية لا بد من الإشارة أن الاقتراح ينصّ في بنده الأخير على العمل بهذا القانون اعتبارا من أول شباط أي أنه يعطي القانون مفعولا رجعيا وهو ما يتوافق مع قرار مجلس الوزراء الذي قرر أيضا البدء بتطبيق القاعدة الاثني عشرية اعتبارا من الأول من شباط. ولا شك أنّ اعتماد تاريخ الأول من شباط يفترض أن الجباية والإنفاق في شهر كانون الثاني يتمّ حكما عملا بالقاعدة الاثني عشرية حتى لو لم تقم الحكومة بإرسال الموازنة إلى مجلس النواب وهو أمر غير مسلم به إطلاقا كون المادة 86 من الدستور كما مرّ معنا تقرن تطبيق القاعدة الإثنتي عشرية في شهر كانون الثاني بوجود موازنة تتم مناقشتها في مجلس النواب وهو الأمر الذي لم يحصل.
[1] القانون رقم 112 تاريخ 22 آذار 2019، الذي أجاز اللجوء إلى القاعدة الإثنتي عشرية من الأول من شباط 2019 حتى 31 أيّار.
القانون رقم 134 تاريخ 2 تموز 2019 الذي مدد المهلة المنصوص عليها في القانون رقم 112 وذلك حتّى 31 تمّوز 2019،
القانون رقم 213 تاريخ 16 كانون الثاني 2021 الذي أجاز اللجوء إلى القاعدة الإثنتي عشرية من الأول من شباط 2021 ولغاية صدور قانون موازنة 2021،
والقانون رقم 276 تاريخ 7 آذار 2022، الذي أجاز اللجوء إلى القاعدة الإثنتي عشرية من الأول من شباط 2022 ولغاية صدور قانون موازنة 2022.