في 12 نوفمبر 2024، تَمَّ الاحتفاظ بعبد الله السعيد رئيس جمعية أطفال القمر بمدنين، والكاتبة العامّة للجمعية وأمينة مالها، على ذمة الوحدة الوطنية للبحث في الجرائم المالية المتشعبة بالقرجاني، دون تحديد تهم واضحة، ولكنّها تتعلّق إجمالًا بتقديم الإحاطة بأطفال اللاجئين والمهاجرين على وجه الخصوص. وفي 17 نوفمبر الفائت، أُحِيلَ عبد الله السعيد على قطب مكافحة الإرهاب، الّذي قرّرَ بدَوْره إرجاع ملفّ الجمعية إلى وكيل الجمهورية في محكمة مدنين، لعدم وجود شبهة إرهاب في الملف. وإذ سعت المفكرة إلى الحصول على تصريح من المحامي الذي يترافع في الملفّ، إلا أنّه اعتذر عن تقديم تفاصيل لأن القضية مازالت قيد التحقيق.
تكاد المعلومات تكون شحيحةً إزاء ملابسات إيقاف عبد الله السعيد، خاصّةً وأنّ فريق الدّفاع والعائلات يُفضّلون عدم تداول المعلومات حول هذا الملفّ، رُبّما خوفًا من تشديد العقوبة، أو من مزيد تغذية خطاب التخوين والإساءة خاصّة عبر مواقع التواصل الاجتماعي. “كلّ الأنشطة التي كان يقوم بها عبد الله السعيد في إطار الجمعية تتمّ بالتنسيق مع المندوبيات الجهوية بمدنين. لا مبرّر لإيقافه سوى أنه قرار سياسي، وملفّه متشابه مع ملفات شريفة الرياحي وسعدية مصباح”، يقول رمضان بن عمر الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمفكرة القانونية، مُضيفًا أنّ رئيس جمعية أطفال القمر مواطن تونسي تشادِيّ الأصل، تحصّل على الجنسية التونسية منذ عام 2012، وهو طبيب يشتغل في وزارة الصحة منذ أكثر من 30 سنة، ومهتمّ بشؤون ذوي الإعاقة. وكان وراء تأسيس عديد الجمعيات الجهوية والمحليّة، من بينها جمعية أطفال القمر.
وفي السياق نفسه يقول الناطق الرسمي باسم المنتدى: “مردّ الموضوع هو ما قالته فاطمة المسدّي، وقد تعرّض إلى حملة افتراضية وتمّ إيقافه هو والكاتبة العامة وأمينة المال على ذمة فرقة الأبحاث الاقتصادية بالقرجاني. معظم الأسئلة المُوجّهة إليه تعلّقت بتمويل الأنشطة الهجرة. عبد الله معروف لدى كلّ الجهات المهتمة بموضوع الهجرة في العشر سنوات الأخيرة. هو شخص راقٍ جدّا ويولي اهتمامًا خاصًّا بالعمل وسط الفئات الأكثر هشاشة مثل الأطفال والنساء والمهاجرات، يُعلّمهنّ صناعة الحلويات والاشتغال في التطريز وأي نشاط يُوفّر لهنّ العيش الكريم”.
دعم إنساني ناجع
يُجمع جلّ الناشطات والناشطين الّذين تحدّثت إليهم المفكرة القانونية على أنّ عبد الله السعيد “من الشخصيات الثّقات” التي تشتغل في مجال الهجرة، إذ خصّص فضاءً يُسمَّى دار الجمعيات في مدنين، وهو فضاء يضمّ عديد الجمعيات ويُقدّم خدمات مباشرة للمهاجرات وأطفالهم، إذ يُوفّر ألعابًا للأطفال وفضاءات صغيرة تُمكّن النساء المهاجرات من تعلّم الخياطة وصناعة الحلويات. يقول إبراهيم الذي اشتغل معه على مشروع يتعلّق بمجالات الهجرة في الجنوب الشرقي: “رأيته في احتكاك مباشر بالمهاجرات وأطفالهن. وبحكم عملِه كطبيب فإن الفحوصات الضرورية يُجريها حتى في دار الجمعيات، وهي من الفضاءات القليلة التي تَضمن سلامة المهاجرات والأطفال بالنظر إلى خضوع التمثيلات المدنية والمنظمات الأممية مثل المجلس التونسي للاجئين أو المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إلى ضوابط بيروقراطية قد تُعطّل تمتّع هذه الفئات بالخدمات الصحية. ولكن مقارنة بما يقدّمه عبد الله السعيد بشخصيته وحضوره ومتابعته المباشرة، فهو يُسهّل نفاذ الجمعيات -التي تفتقر إلى الإمكانيات المادية واللوجستية- إلى خدمات الدعم النفسي والاجتماعي من خلال دار الجمعيات”.
ويضيف محدّثنا: “على المستوى الشخصي هو إنسان راقٍ وواضح المواقف وخدوم ونزيه بشهادة المهاجرات والفئات المنتفعة بالخدمات التي يوفّرها مباشرة أو من خلال دار الجمعيات. كان يتدخّل بصفته الشخصية مع الجمعيات المختصّة في مجال الصحة ليحلّ إشكالات قد تكون من اختصاصات هياكل أخرى في المنطقة”.
تقول إحدى الناشطات التي تُفضّل عدم الكشف عن اسمها إنّ عبد الله السعيد كان يُساعد النساء على إدارة بعض المشاريع المنزلية الصغيرة للتعويل على أنفسهنّ من خلال برامج تكوين في الحِرَف واللغات والخياطة وصنع المرطبات. “بفضل تأطير عبد الله السعيد ودعمه المادّي، أصبحت عديد النساء صاحبات مشاريع أو على الأقل حاملات شهادات مُعترف بها. كما سعى إلى توفير برامج محو الأمية وتأطير الأطفال القُصَّر التونسيين المُنقطعين عن الدراسة، حيث وفّر لهم أساتذة وورشات عمل حرفية، كما كان له فضل في تزويد بعض المدارس والمستوصفات بالمعدات شبه الطبّية. في فترة الكوفيد والحجر الصحي وحتى في الظروف العاديّة، كان في الخطوط الأمامية لتقديم المساعدة بمواد التعقيم والمساعدات الغذائية. كانت أبواب الجمعيّة مفتوحة على مدار السنة لكلّ من له مشاكل صحيّة وأو نفسيّة أو مادّية”.
ملفّ سياسي يتماهى مع خطاب السلطة
في 14 فيفري 2024، حضَرت النائبة فاطمة المسدّي في قناة التاسعة لتُدافع عن مقترح القانون المتعلّق بتنقيح مرسوم الجمعيات، الّذي يهدف، من جملة ما يهدف، إلى إلحاق كلّ جمعية بوزارة وفق طبيعة نشاطها. وتطرّقت في حديثها إلى جمعية “أطفال القمر بمدنين” قائلة: “هذه الجمعية عقدت اجتماعات مع الأجصيين[1]، وهي تساعد على توطين أفارقة جنوب الصحراء في تونس. ما دخلها في أطفال القمر؟”.
يُبرز هذا التصريح من ناحية معاداة فاطمة المسدّي للجمعيات وتبنّيها المُطلق للخطاب التخويني لرئيس الدّولة إزاءها، ومن ناحية أخرى رفضها وجود أفارقة جنوب الصحراء في تونس، في حين أنّ غايتهم العبور إلى الضفة الشمالية للمتوسط. غير أنّ تونس رضيت بلعب دور المصيَدة لمنعهم من عبورها نحو أوروبا.
وجد خطاب الكراهية والعنصرية إزاء مهاجري أفريقيا جنوب الصحراء أرضية خصبة بسبب تبنّي السلطة له، حيث أصبح ملفّ الهجرة ومناهضة الميز العنصري مسألة سياسيّة، تعود جذورها وتبعاتها إلى ما قاله الرئيس قيس سعيّد في اجتماع مجلس الأمن القومي في 21 فيفري 2023 وتبنّيه لنظريّة “الاستبدال العظيم” التي يروّج لها اليمين المتطرّف الأوروبي، وما تبعها من موجات طرد وعنف مُسّلط على مهاجري ومهاجرات أفريقيا جنوب الصحراء.
ومواصلةً لاستهداف ملفّ الهجرة والجمعيات الناشطة فيه، أطلقت السلطة حملةً ضدّ مُسيّري ومُسيّرات الجمعيات الناشطة في مجال الهجرة ومناهضة التمييز العنصري، إثر اجتماع مجلس الأمن القومي في ماي 2024، تمّ على إثرها إيقاف سعدية مصباح رئيسة جمعية منامتي المناهضة لأشكال التمييز العنصري، وشريفة الرياحي المديرة التنفيذية السابقة لجمعية تونس أرض اللجوء، واستدعاء غفران بينوس وفاطمة الزهراء اللطيفي عن جمعية منامتي لشبهات تتعلّق بتبييض الأموال، إلى جانب إيداع رئيس المجلس التونسي للاجئين ونائبه السّجنَ في اليوم الموالي، على خلفيّة نشر هذه المنظّمة طلب عروض في إحدى الصّحف لفائدة النّزل التونسية بغرض إيواء عدد من المهاجرين، “دون تنسيق مع السلط الإدارية والأمنية”.
[1] “الأجصيين” هي صفة عنصرية تطلق على المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، وقد سعى إلى تدويلها في وسائل التواصل الاجتماعي مجموعة تطلق على نفسها “الحزب القومي التونسي” معروفة بخطابها الفاشي والعنصري.