“يريدون ألّا يبقى من ينتشل جثثنا إذا قتلنا”، تقول مريم غول، النازحة الجنوبيّة في الباشورة، وهي المنطقة التي هزّتها غارة إسرائيليّة منتصف ليل الأربعاء الخميس مستهدفة مركزًا لمديريّة الدفاع المدني – الهيئة الصحيّة الإسلاميّة. ومثّل الاستهداف في قلب بيروت، توسيعًا لدائرة النار الإسرائيليّة المفتوحة على المسعفين، وقضى فيها، 7 شهداء من المسعفين وقيادة الدفاع المدنيّ التابع للهيئة الصحيّة الإسلاميّة، وشهيدين مدنيّيّن من المارّة. وتمّ الإبلاغ عن إصابتين اثنتين إضافيّيتن من عناصر الدفاع المدنيّ، و16 إصابة من بين السكّان والمارّة، بينها 4 لا تزال في المستشفى، في حصيلة غير نهائيّة بانتظار فحوصات الحمض النووي لأشلاء رُفعت من المكان، بحسب بيان لوزارة الصحّة اللبنانيّة.
واستشهد 97 مسعفًا وعاملًا صحيًّا على الأقلّ في الغارات الإسرائيلية على لبنان منذ 8 تشرين الأوّل 2023، وتضرّرت 10 مستشفيات، بحسب آخر إحصاء أعلنه وزير الصحّة اليوم. وقد استهدفت فرق تابعة لمختلف الجمعيّات العاملة ضمن إطار الإغاثة والإسعاف الصحّي، على مدى عام من العدوان على لبنان. وتكثّفت الاستهدافات مؤخّرًا مع التصعيد الإسرائيليّ المتسارع والشامل.
ويحرّم القانون الدولي الإنساني استهداف الطواقم الطبية والإغاثية ويؤمّن لها حماية خاصّة. وإذ يروّج البعض لعلاقة فرق الإغاثة المستهدفة بحزب الله لتبرير استهدافها، إلّا أنّ هذه الادعاءات تخالف تمامًا القانون الدوليّ. ولإسرائيل تاريخ من الإفلات من العقاب في هذا الإطار، في ظلّ حماية تؤمّنها لها دول الشمال العالمي.
المبنى السكنيّ المستهدف في الباشورة
الهدف مركز إسعافيّ قديم
في مكان الاستهداف، أمكن رصد تناثر معدّات ومستلزمات صحيّة إضافة إلى بدلات عناصر الإنقاذ والإسعاف، بين الركام وفي الشارع، حيث كانت الآليّات تعمل على رفع الأنقاض لتيسير عبور السيّارات. كما تحطّمت واجهات المحال التجاريّة وعدد من السيّارات الخاصّة المركونة في المكان. ورُصدت – بين الأنقاض – أجهزة قياس ضغط، وسمّاعات طبيّة، وضمّادات وأكياس قفازات طبيّة، إضافة إلى سترات مدرّعة تحمل شعار الهيئة الصحيّة الإسلاميّة، وملابس رماديّة اللون عليها شعار الدفاع المدني التابع للهيئة، تعود للشهداء.
وصباح اليوم، شوهد زميل للمسعفين يضمّ سترة أحد زملائه إلى وجهه ويبكي. وقال زملاء المسعفين المستهدفين لـ “المفكّرة” إنّ الشهداء السبعة كانوا قد عادوا من مهمّة إسعاف وإنقاذ في ضاحية بيروت الجنوبية ليرتاحوا، بعد يوم عمل شاق وخطر في منطقة تتعرض ليلًا نهارًا للقصف والغارات الإسرائيلية العنيفة. ويلفت مسؤول الملف الإعلامي في الدفاع المدني – الهيئة الصحية الإسلامية محمود كركي، إلى “أنّنا كنّا نعتقد أنّ المركز بعيد عن دائرة الاستهداف باعتباره خارج الضاحية”.
والشقّة المستهدفة هي مركز قديم للإسعاف الأوّلي، يعمل فيه فريق مختصّ بالتدخّلات الطارئة، بحسب كمال زهور من الهيئة الصحيّة الإسلاميّة، وشهادات السكّان. ويقول زهور في حديثه لـ “المفكّرة”: “كنّا نتعامل هنا مع أي حالة طارئة، سواء كانت حادث سير أو أي ظرف آخر يستدعي التدخل السريع، ونستجيب فورًا”. ويوضح أنّ المركز كان يقوم بدور رئيسي في تقديم الإسعافات الأوّلية للنازحين وتوفير الخدمات الطبية لهم في هذه الفترة، وكان في حالة جهوزية دائمة، كما شارك في عمليات الإسعاف إثر الغارة التي استهدفت منطقة الكولا.
ويقول حسن عمّار، أحد سكان المنطقة: “نحن مدنيّون، ونحن ضحايا لهذه الحرب”، متحدّثًا عن “الأضرار التي لحقت بواجهات زجاجيّة في منزله، وبسقوط الأسقف المستعارة، إضافة إلى تحطّم الممتلكات، وتسجيل إصابات بين السكّان”. بدوره يروي عماد حجازي، أحد سكّان المبنى المستهدف، عن لحظات رعب عاشها مع أطفاله، وكذلك عوائل نازحة معه في المنزل عينه: “10 أطفال في منزلي، كما هو حال سائر المنازل هنا، بعد أن جاء النازحون ظنًا منهم أنها منطقة آمنة”. ويتألّف المبنى المستهدف من 11 طابقًا، وهو واحد من 4 بلوكات سكنية، تضمّ أكثر من 80 منزلًا”. وتضمّ المنطقة مبانٍ سكنية ومحال تجارية ومدارس. كما يضمّ مركزًا ضخمًا للدفاع المدني اللبناني.
ويؤكّد حجازي، أحد السكّان: “نحن نعرف مبنانا جيّدًا، وكلّ من فيه مدنيّين، ونعرف هذا المركز ودوره المدنيّ الإنسانيّ البَحت”.
شعار الدفاع المدنيّ التابع للهيئة في مكان الغارة
الضغط على المدنيّين والنازحين
ويقع المبنى المستهدف في قلب العاصمة بيروت، على بعد 500 متر فقط من مبنى السراي الحكوميّ، ويعدّ الاستهداف الثاني لبيروت الإداريّة خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان منذ 8 تشرين الأول 2023، تزامنًا مع حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة. ولم تُستهدف بيروت الإداريّة مطلقًا خلال عدوان 2006، ومنذ عقود عدّة، ما وضع أهل المنطقة خارج دائرة النزوح القسري الذي شمل أكثر من خُمس سكّان البلاد، وجعل العاصمة مأوى لعشرات آلاف النازحين الباحثين عن الأمان.
وتستقبل بيوت ومدارس الباشورة، ومعها زقاق البلاط، عدّة آلاف من النازحين. ويقع المركز في الطابق الأوّل من مبنى سكنيّ من 11 طابقًا، ويحاذي مدرسة تتبع لجمعيّة المقاصد، فتحت أبوابها للنازحين من الضاحية الجنوبيّة لبيروت يوم الجمعة الماضي. ويؤدّي المركز المستهدف دورًا حيويًّا في خدمة النازحين وفي تنفيذ المهام الإغاثية والإسعافيّة لدى حصول غارات إسرائيليّة في محيط بيروت، لا سيّما في ضاحيتها الجنوبيّة.
وتقول مريم غول، النازحة في مدرسة المقاصد، إنّها كانت في ملعب المدرسة، لحظة حصول الغارة: وتضيف: “سمعنا بداية ضربات عدّة كانت تستهدف الضاحية، وقيل لنا إنّها تأتي من بوارج حربيّة، ما دفع الكثير منّا إلى الدخول إلى المدرسة بسبب الخوف، عندها حصلت الغارة، وقد كان الدخان كثيفًا، والصوت مرعبًا، فظننّا أنّ الضربة أصابت المدرسة”.
وعانت مريم من حساسية شديدة بسبب الدخان الكثيف الذي اجتاح المدرسة / المأوى، ووصفت لـ “المفكرة” رائحة كريهة انتشرت بالجو. وقالت إنّ العديد من الأطفال أصيبوا بحالات اختناق، كما عانى بعض كبار السنّ من صعوبة في التنفّس. وقد دفعت الغارة بالعديد من سكان المنطقة للنزوح نحو منطقة البيال بمحاذاة البحر، طلبًا للهواء وخوفًا من تجدّد القصف.
ونشعر مريم بتأثّر خاص بسبب معرفتها بفريق الهيئة الصحيّة في المنطقة من خلال عمله الإنسانيّ: “فهذا الفريق، كما سائر فرق الهيئة الصحيّة، يزوروننا يوميًّا من أجل تقديم خدمات صحيّة منوّعة، وقد حصلت على دواء للزكام منهم قبل يومين فقط، وقد كانت معاملتهم إنسانيّة ونحن بأمسّ الحاجة لخدماتهم، لكنّ إسرائيل قتلتهم”.
وتقول مريم إنّ الاستهداف يأتي “للضغط علينا أكثر، فأنا تهجّرت من ميس الجبل إلى الضاحية في بداية العدوان، ثمّ من الضاحية إلى هنا، ويبدو أنّ لا أمان في أي مكان، وهو أمر لم نشعر به في عدوان تموز 2006 الذي أذكره جيّدًا، لكنّني أشهد اليوم مستوى آخر من الوحشيّة”. وتتابع مريم أنّها لا تنوي النزوح مجدّدًا “لأنّ لا أمان في أيّ مكان”، واضعة الاستهداف بحسبها “في إطار الضغط علينا كمدنييّن في سياق الحرب العسكريّة ـ وباعتبارنا بيئة حاضنة للمقاومة”، وهو الرأي الذي يردّده السكّان الذين التقتهم “المفكّرة”.
ويصف زهور في حديثه لـ “المفكّرة” الهجوم بأنّه “وحشيّ وغوغائيّ، يناقض كافّة المواثيق الإنسانيّة والدوليّة”، مشددًّا على أنّ المكان: “مدنيّ، لا يوجد فيه أيّ عمل ذي جانب عسكريّ أو أمنيّ، تتردّ عليه سيّارات الإسعاف بشكل واضح وعلنيّ، وبشعارات واضحة وضعت عليها”. لكنّه يعتبر أنّ “عدم احترام العمل الإغاثيّ والإسعافيّ خلال العدوان، نراه اليوم غير محترم في مكان سكنيّ يأوي نازحين”.
جهاز لقياس الضغط في مكان الغارة وتظهر آثار الدماء على كتيّب مرافق
تصاعد جرائم الحرب
وإضافة إلى استشهاد 97 عاملًا في مجال الطوارئ والصحّة، وتضرّر أكثر من 10 مستشفيات. أُخرج مستشفى بنت جبيل عن الخدمة يوم الإثنين، خلال الاجتياح الجوّي الإسرائيليّ، بعد تضرّر سقفه وألواح الزجاج نتيجة غارة على منزل مهجور ملاصق.
وقد سقط شهداء من الدفاع المدنيّ اللبناني وجمعيّة الرسالة للإسعاف الصحّي وجمعية الإسعاف اللبنانيّة، إضافة إلى الهيئة الصحيّة الإسلاميّة. كما سجّل اليوم تعرّض فريق من الجيش اللبناني وآخر من الصليب الأحمر اللبناني للاستهداف في منطقة الطيّبة خلال توجّههم لإخلاء جرحى، ممّا أدى إلى استشهاد عنصر من الجيش اللبنانيّ وإصابة أخر بجروح في الاستهداف عينه.
ولفرق الإنقاذ والإسعاف في الدفاع المدني التابع للهيئة الصحية الإسلاميّة نصيب كبير من الاستهداف، وقد سقط منها 53 مسعفًا شهيدًا، إضافة إلى 136 جريحًا، فضلًا عن استهداف عشرة مراكز بشكل مباشر، وتضرّر 41 سيارة بشكل جزئي أو كلي، بحسب أرقام ومعطيات شاركتها المديريّة مع “المفكّرة”.
وقد نعى الدفاع المدنيّ التابع للهيئة 31 شهيدًا من عناصره في الأيام الأربعة الأخيرة وحدها. وقد سجّل يوم أمس وحده استشهاد 11 مسعفًا، هم 7 في الباشورة، و4 شهداء في غارتين على مركز الهيئة الصحية الإسلامية في عيترون الجنوبيّة وعلى مستوصفها الملاصق للمركز.
أوراق تعود للهيئة الصحيّة بين الركام
ومنع العدوان الإسرائيلي اقتراب أي سيارة إسعاف من 8 مسعفين تابعين للدفاع المدني التابع للهيئة الصحية بعد استهدافهم أمس الأربعاء في الطيبة، في تكريس لمنع أي عمل إنقاذي جنوب لبنان، وهو ما نقله إلى قلب بيروت عبر استهداف المسعفين في الباشورة أمس.
وتؤمّن المادّتين 9 و10 من البروتوكول الإضافي الثاني لاتفاقية جنيف الرابعة، حماية خاصّة للطواقم الطبية والإغاثية. وكذلك يحرم التعرّض لطواقم ووسائل النقل الطبية (المادة 11). وقد حددت لجنة الصليب الأحمر الدولي مفهومًا واسعًا لهذه الوسائل[1] ولأغراضها[2]. وهي حماية لا يمكن أن تسقط بسبب علاقة هذه الفرق بحزب الله.
ولهذه الحماية، دواعمها القانونيّة، أوّلًا، لأنّ القانون يحرّم التعرّض لوسائل النقل الطبية “العسكرية والمدنية” على حد سواء على أن تكون مخصصة للأغراض الطبية حصرًا. وبمعنى آخر، فإنّ ارتباط جهة الإغاثة بأحد أطراف النزاع لا يحرمها من الحماية القانونية طالما أنّ غرض عملها يبقى محصورًا بالأغراض الطبية والإغاثية.
وثانيًا، لأنّ المقصود بالمركبات “العسكرية” هي تلك التابعة مباشرةً للمجموعات المسلّحة المنظّمة. تعتبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر أنّ “المجموعات المسلّحة المنظّمة” تشير حصرًا إلى الفرع المسلّح أو الفرع العسكري لطرف غير دولي، أي إلى قوّاته المسلّحة بالمعنى الوظيفي. كما فسّرت بطريقة ضيّقة أعضاء هذه المجموعات لتقتصر على الأشخاص الذين تكون وظيفتهم المستمرة هي المشاركة بشكل مباشر في الأعمال القتالية.
إذًا، على عكس ما يحاول الاسرائيلي ترويجه، والدعاية المرافقة له، لا يفقد المدنيّون صفتهم المدنية بمجرّد انتمائهم لتنظيمات وهيئات مدنية قريبة من التنظيم العسكريّ. لا بل يبقى هؤلاء محميين قانونًا. ومن خلال تكرار هذه الاستهدافات وتوسّعها، نكون أمام تصاعد لجرائم الحرب ضدّ المدنيّين، بما يجعل اللبنانيّين يرزحون تحت وطأة المأساة الإنسانيّة مع كلّ غارة.
لوائح مطبوعة بالتجهيزات الطبيّة وجدت في مكان الغارة
[1] “أي مركبة برية (سيارات، شاحنات، قطارات، إلخ)، أو سفينة أو قارب أو طائرة مخصصة لنقل الجرحى والمرضى والغرقى والعاملين في المجال الطبي والديني والمعدات الصحية”.
[2] “ويجب فهم مفهوم “الأغراض الصحية” بمعناه الواسع. ولا يقتصر هذا على الرعاية المقدمة للجرحى والمرضى والغرقى فحسب، بل يشمل أيضًا أي نشاط للوقاية من الأمراض ومراكز نقل الدم ومراكز النقاهة التي تقدم العلاج الطبي وعلاجات الأسنان”.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.