شهد قصر العدل في بيروت يوم أمس الثلاثاء أحداثًا أثارت تساؤلات في أوساط المحامين حول مدى ارتباطها بمسار تعطيل ملف جريمة تفجير مرفأ بيروت. فأوّلًا، استمعت نقابة المحامين في بيروت للمحامين واصف الحركة وعلي عبّاس وبيار الجميل في إطار النظر في طلب المحامي العام الاستئنافي في بيروت القاضي زاهر حمادة الإذن لملاحقتهم بجرائم القدح والذم وتحقير القضاء، على خلفية تواجدهم أثناء احتجاج نفذه طلّاب في قصر العدل في بيروت في الذكرى الثالثة لتفجير مرفأ بيروت قبل 7 أشهر. وثانيًا، تعرّض عدد من المحامين، من بينهم نقيب المحامين الأسبق النائب ملحم خلف، للضرب من قبل عناصر عسكرية أثناء مشاركتهم في وقفة تضامنية مع المحامين الثلاثة تزامنًا مع موعد الاستماع إلى هؤلاء من قبل مفوّضة قصر العدل في نقابة المحامين المحامية مايا الزغريني للنظر بطلب حمادة. وخلف هو مؤسّس مكتب الادّعاء في نقابة المحامين الذي يختصّ بمتابعة ملف تفجير مرفأ بيروت ويتولّى تمثيل ما يزيد عن ألف ضحية ومتضرّر من التفجير،
طلب الادّعاء على المحامين الثلاثة والعنف الذي شهده مدخل قصر العدل أمس، حدثان يقرأهما محامون شاركوا في الاعتصام في سياق أوسع. فهؤلاء يعتبرون أنّه يرتبط مباشرةً بقمع أي صوت يطالب بالعدالة في ملف تفجير مرفأ بيروت الراكد منذ 28 شهرًا جرّاء تقويض عمل المحقق العدلي القاضي طارق بيطار. وهذه المقاربة تأخذ في الاعتبار السياق العام وتوقيت تحريك الدعوى ضدّ المحامين الذي أتى بعد تقاعد المدّعي العام التمييزي السابق غسّان عويدات الذي يُعدّ الفاعل الرئيسي في الانقلاب على ملف مرفأ بيروت الذي يُقابله تعويل على المدّعي العام التمييزي بالتكليف جمال الحجّار المعيّن حديثًا، لإعادة إحيائه. والأخير يُنتظر منه أيضًا مباشرة التحقيق في حادثة الاعتداء على المحامين يوم أمس أمام قصر العدل، بخاصّة بعد أنّ أعلنت نقابة المحامين في بيروت اتخاذها صفّة الادّعاء الشخصي في هذه القضية.
حمادة يُلاحق ثلاثة محامين على خلفية إحياء الذكرى الثالثة لتفجير المرفأ
في 6 آذار الجاري استلمت نقابة المحامين في بيروت من المحامي العام الاستئنافي في بيروت القاضي زاهر حمادة طلب إذن بملاحقة المحامين واصف الحركة وعلي عبّاس وبيار الجميل بجرائم القدح والذم والتحقير، وأرفق طلبه بمحضر مفتوح قبل 7 أشهر وتحديدًا في 3 آب 2023 لدى شرطة بيروت في قوى الأمن الداخلي. وهذا التاريخ هو تاريخ تحرّك مفاجئ نظّمه عدد من الطلّاب في قصر العدل في بيروت بمناسبة الذكرى الثالثة لتفجير مرفأ بيروت. يومها دخل الطلّاب إلى القصر حاملين صور سياسيين وقضاة ورؤساء أجهزة أمنية مدّعى عليهم في قضية تفجير مرفأ بيروت، كتبوا عليها عبارة “فارّون من العدالة” ووضعوها على الأرض. ومن بين الصور، صورة النائب العام التمييزي السابق غسّان عويدات، والمدير العام للأمن العام السابق عباس إبراهيم ومدير عام أمن الدولة اللواء طوني صليبا والوزير السابق غازي زعيتر. وهتف الطلّاب حينها بشعارات مندّدة بالمعرقلين للتحقيقات في الجريمة من داخل قاعة “الخطى الضائعة” في قصر العدل. وكان المحامون الثلاث موجودين في قصر العدل، ووقفوا إلى جانب الطلّاب ودعموهم في تحرّكهم.
وعليه، فوجئ المحامون الثلاثة بالادعاء عليهم بعد سبعة أشهر من تلك الحركة الاحتجاجية، إذ اعتبر المحامي العامّ الاستئنافي في بيروت أنّهم دخلوا من الباب الخلفي مع أشخاص مجهولين إلى قصر العدل ووضعوا صور شخصيات قضائية وسياسية وأمنيّة على الأرض وداسوا عليها بأقدامهم وعملوا على تصوير الحدث مباشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقد طلب حمادة الإذن بملاحقتهم بجرائم جزائية، وهي المادة 383 من قانون العقوبات التي تعاقب على التحقير عبر الكتابة أو الرسم بوجه موظف أثناء قيامه بالوظيفة، والمادتين 386 و388 من قانون العقوبات اللتين تعاقبان على توجيه القدح والذم إلى المحاكم أو الهيئات المنظمة أو الجيش أو الإدارات العامّة.
وأمس الثلاثاء 12 آذار 2024، استمعت مفوّضة قصر العدل في نقابة المحامين في بيروت المحامية مايا الزغريني إلى المحامين الثلاثة. ومن المقرر أن يصدر مجلس النقابة عقب اجتماعه بعد غد الجمعة قراره بمنح الإذن أو رفضه وفقًا لتقديره ما إذا كانت أفعال المحامين ناشئة عن المهنة أو بمعرضها (المادة 79 من قانون تنظيم مهنة المحاماة). وقد استمعت الزغريني أيضًا إلى المحامي بيار الجميل، الذي فقد شقيقه جاك في تفجير المرفأ، في ملف آخر يتّصل بالادّعاء عليه بـ “التعرّض للقضاء” من قبل النيابة العامة التمييزية على خلفية تصريحاته خلال وقفة احتجاجية لأهالي ضحايا تفجير مرفأ بيروت أمام قصر العدل، في 23 كانون الثاني، اعتراضًا على قرار المحامي العام التمييزي القاضي صبّوح سليمان وقف قرار تنفيذ مذكرة التوقيف الصادرة بحق المدّعى عليه بتفجير المرفأ وزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس. وهو قرار دفع مكتب الادّعاء في نقابة المحامين إلى تقديم شكوى ضدّ سليمان أمام التفتيش القضائي، إضافة إلى تقديم طلب ردّه عن الملف أمام محكمة التمييز.
يتساءل المحامي علي عبّاس في اتصال مع “المفكرة القانونيّة” عن توقيت الادّعاء عليه وعلى زميليه بعد انقضاء سبعة أشهر من الحادثة موضوع القضية، مشيرًا إلى أنّ “ذلك قد يكون مؤشرًا على بداية موجة استدعاءات جديدة ضدّ كلّ من يرفع الصوت في قضايا الشأن العام ومحاولة جعلنا عبرة لغيرنا”. ويضع الاستدعاء في إطار “أسلوب المنظومة المعتمد لإسكات الناس”. ويشرح أنّ “القاضي حمادة يتّهمنا بأنّنا دخلنا من الباب الخلفي لقصر العدل ومعنا صور سياسيين وقضاة وشخصيات أمنية”. ويُضيف “أنا أصلًا لا يُشرفني أن أحمل تلك الصور غير أنّنا كمحامين دائمًا ما ندخل من باب نقابة المحامين (أي الباب الخلفي) وهذا أمر طبيعي”.
ويؤكد المحامي واصف الحركة بدوره لـ “المفكرة” أنّه أعلم النقابة تأييده لتحرّك الطلّاب في قصر العدل “كوننا لدينا موقف واضح من قضية مرفأ بيروت عدا عن مطالبتنا المستمرة بتحقيق العدالة في هذا الملف، بالإضافة إلى أنّني متطوّع في مكتب الادعاء في نقابة المحامين المعني بقضية تفجير مرفأ بيروت”.
وهذه ليست المرّة الأولى التي يتخذ فيها القاضي زاهر حمادة إجراءات بحقّ ضحايا تفجير المرفأ والمعترضين على تجميد التحقيق في هذه القضية. ففي شباط 2022، أمر القاضي حمادة باستخدام القوّة لفضّ اعتصام أهالي ضحايا تفجير المرفأ داخل قصر العدل. وفي كانون الثاني 2023 أوقف حمادة ويليام نون، شقيق الضحية جو نون، لمدّة يومين على خلفية انتقاده للقضاة وأعمال تخريب في قصر العدل خلال اعتصام للأهالي المطالبين بعودة التحقيق في جريمة المرفأ وبمنع تعيين قاض بديل عن القاضي طارق بيطار. كما استدعى بعدها عددًا من ذوي الضحايا إلى التحقيق على خلفية التظاهرة أمام قصر العدل في بيروت.
اعتداء على خلف والمحامين والمتضامنين: “عنفكم لن يُنتج خوفًا”
وقد احتشد عدد من الداعمين ظهر أمس أمام قصر العدل في بيروت دعمًا للمحامين الملاحقين، من بينهم نوّاب ومحامون، ومن ضمنهم نقيب المحامين الأسبق النائب ملحم خلف. ونشرت النائبة بولا يعقوبيان على حسابها على موقع “إكس” فيديو يوثّق لحظة حصول تدافع بين المتواجدين وعناصر من الجيش اللبناني أمام بوابة قصر العدل، وتعرّض عدد من المتواجدين، من بينهم خلف، للدفع والضرب لحظة توجّههم للدخول إلى قصر العدل من الباب الرئيسي. وكتبت يعقوبيان: “اعتداء جسدي مؤذ ومتعمّد عن سابق تصوّر وتصميم على النائب خلف”. ويظهر في الفيديو تعرّض عدد من المتواجدين للدفع، كما يظهر قيام أحد عناصر الجيش برفع الهراوة وتوجيهها ناحية خلف ليقوم عنصر من قوى الأمن الداخلي بإبعاده عنه.
وتأكدت “المفكرة” من شاهدين تواجدا إلى جانب النائب ملحم خلف خلال تعرّضه للعنف من قبل عناصر الجيش اللبناني، حيث أكدّا أنّ خلف كان قد توجّه إلى الضابط في قوى الأمن الداخلي وأعلمه أنّه وعدد من المحامين بصدد الدخول إلى قصر العدل لمؤازرة المحامين الملاحقين. فطلب منه الضابط أن يُطلعوا العناصر على بطاقاتهم النقابية قبل الدخول. وخلال توجّه المحامين للدخول إلى قصر العدل عبر البوابة الأماميّة، حضرت سرّية من الجيش اللبناني ووقف عناصرها أمام البوّابة ومنعوا خلف والمحامين من الدخول إلى قصر العدل. حينها أشار خلف للعناصر بأنّه محامٍ ونقيب سابق ويحق له الدخول مع المحامين الآخرين، فلم يتجاوب معه العناصر وقام أحدهم بدفعه بالقوّة إلى الوراء وضربه على ظهره، فيما رفع آخرون الهراوة نحوه، فتدخّل عناصر من قوى الأمن الداخلي مباشرة لردع الضربات. وينقل أحد المتواجدين لـ “المفكرة” أنّ الاعتصام كان سلميًا ولم يحصل أي استفزاز من أحد، ويؤكد أنّ العنف كان يستهدف النائب خلف بشكل مباشر، ويشرح أنّه لاحقًا هدأت الأمور وسمح العناصر للمحامين الدخول إلى قصر العدل.
واكتفى خلف بتغريدة على موقع “إكس” تعليقًا على الحادثة قائلًا: “العنف أوّل علامات اليأس، الرسالة وصلت، وعنفكم لن يُنتج خوفًا”. وتابع: “مواجهة الانقلاب مستمرَّة حتى النهاية”.
على أثرها، تواصل نقيب المحامين في بيروت فادي المصري مع المدعي العام التمييزي بالإنابة مطالبًا باتخاذ الإجراء اللازم لملاحقة المعتدين على المحامين. وصدر بيان عن مجلس النقابة أصرّ على “إجراء التحقيقات اللازمة واتخاذ أقصى التدابير والإجراءات القضائية والمسلكية اللازمة بحق المرتكبين والمسؤولين عنهم وإنزال أشد العقوبات بهم”، كما قرر مجلس النقابة اتّخاذ صفة الادعاء الشخصي في هذه القضية.
ويؤمل أن تتخذ القضية مسارًا مختلفًا عن سالفاتها من الشكاوى التي رفعها متظاهرون حول عنف العناصر الأمنية والتي أُحيل معظمها إلى مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، فوصلت إلى مصير واحد وهو حفظ الملفات من دون إجراء تحقيقات جديّة فيها ضمن نهج الإفلات المعمم عن العقاب.