لدى أبو نسيم الرجل السبعيني عشر بقرات واحدة منها ولَدت قبل أيّام. يسير كلّ يوم من منزله وسط بلدة عيتا الشعب الحدودية جنوب لبنان للوصول إلى الحظيرة التي تقع على بعد كيلومترين. يتحتّم على أبو نسيم اليوم الوصول إلى المزرعة تحت القصف الإسرائيلي الذي يستهدف القرى الحدودية منذ الثامن من تشرين الأوّل. يشرح أبو نسيم لـ “المفكرة القانونيّة” الصعوبات التي يعيشها منذ بدء العدوان: “أزور البقرات مرّة في اليوم لإطعامها، أضع لها أوراق الشجر التي أشحّلها من جانب الحظيرة بسبب غلاء الأعلاف”. ونقل الأبقار إلى مكان آمن ليس موضوع نقاش بالنسبة لأبو نسيم إذ يقول: “لست مستعدًّا للمخاطرة مع أي من سائقي الشاحنات تحت القصف لنقل الأبقار، هذا عدا عن كلفة النقل المرتفعة وأجرة الحظيرة التي علينا أن ننقلها إليها”. ويحسم الأمر مسلّمًا أمره للقدر “ابن شقيقتي نقل قطيعه إلى داخل بلدة عيتا الشعب خشية القصف، لكنّ القصف طالها في المكان الذي اعتقد أنّه آمن”.
ولا يقتصر الاستهداف على الماشية التي خسرت منذ بدء العدوان 700 رأس، بل طال أيضًا مناطق الرعي التي اندلعت فيها الحرائق. وهذه التطوّرات وعدم وضوح الظروف الأمنية في الأيام المقبلة، يضع الرعاة أمام خيارات أفضلها سيّئ: إمّا النزوح ومعهم أغنامهم مع ما يترتّب عن ذلك من أكلاف، أو بيع قطعانهم وإزاحة همّها عن صدورهم أو المخاطرة بحياتهم وقطعانهم والبقاء في القرى الحدودية. وإن قرر الرعاة البقاء في قراهم الحدودية فالوضع الأمني فيها يمنعهم من أخذ قطعانهم للرعي بسبب تواجد مُعظم الأراضي الخاصّة بالرعي عند النقاط الحدوديّة، ويترتب على الراعي جرّاء ذلك شراء العلف والتبن. ويصل سعر شوال العلف إلى 30 دولارًا، وكيلوغرام التبن إلى 55 ألف ليرة. ويحاول الرعاة التقشّف في هذه المرحلة عبر وضع القليل من العلف مع التبن.
والمصيبة مضاعفة على “المشتّية” وهم الرعاة في قرى قضاء حاصبيا الّذين ينتقلون في كلّ شتاء من قراهم إلى قرى أقل برودة مثل الناقورة، لكنّ هذا الأمر غير ممكن الآن إذ أنّ تلك القرى غير آمنة أيضًا.
سقوط راعيين بالرصاص الإسرائيلي
زاد قلق الرعاة على حياتهم بعدما استهدف الرصاص الإسرائيلي في 1 تشرين الثاني الراعيين ربيع الأحمد (30 عامًا) وأمجد المحمد (17 عامًا) في خراج بلدة الوزّاني الواقعة عند مثلث التقاء بين لبنان والجولان السوري المحتل وفلسطين المحتلة أثناء رعيهما الماشية في المشاعات الزراعية. يشرح علي شقيق أمجد لـ “المفكرة” أنّ المكان (المرعى) الذي استشهد فيه أمجد وربيع كانا “يقصدانه بشكل شبه يومي لرعي القطيع”. ويُضيف: “كان ربيع وأمجد يستيقظان باكرًا ويخرجان مع القطيع عند الساعة الثامنة صباحًا ولا يعودان قبل الرابعة عصرًا. في اليوم المشؤوم وحين تأخّر ربيع وأمجد عن موعدهما المعتاد، حاولت الاتصال بهما لكن الاتصالات كانت مقطوعة. بعدها بدأنا نسأل في القرية إن رآهما أحد، كان الناس يقولون إنّهم سمعوا صوت إطلاق نار في الناحية التي كانا فيها”. ويُضيف: “تواصلنا مع اليونيفيل ومخابرات الجيش وبدأنا نبحث في المرعى حتّى بعد حلول الظلام، لكنّنا لم نجدهما”. من جهته، يروي سامر شقيق ربيع الأحمد: “ذهبنا نبحث عنهما منذ العصر، كان الوضع خطيرًا وبقينا رغم تهديدات الجيش الإسرائيلي الذي تواصل مع الكتيبة الإسبانية لإعلامنا بضرورة مغادرة المنطقة عند السابعة والنصف مساء”. التهديدات الاسرائيلية لم تمنع سامر ومعه فرقةٌ من الجيش اللبناني وضابطٌ وشابان سوريان من مواصلة البحث حتى العاشرة ليلًا، “كان معنا عناصر من الجيش اللبناني، الجيش لم يتركنا، كما الشابان السوريان الّلذان رفضا تركنا نبحث وحدنا. إلّا أننّا توقفنا بعدما قطعنا الأمل من إمكانية إيجادهما في الظلام”، يقول. وفي صباح اليوم التالي، خرج سامر ومعه عدد من أقاربه للبحث حيث توقفوا في اليوم السابق، يقول: “وجدناهما بمجرّد وصولنا، كانا على مقربة منّي في الليلة الماضية لكني لم أرهما بسبب العتمة”. ويُضيف “حين وجدناهما تواصلنا مع الجيش والصليب الأحمر الذي أرسل سيارة نقلت جثمانيهما إلى مستشفى مرجعيون”.
يقول سامر عن شقيقه ربيع إنّه “كان شابًا حالمًا يتوق لإكمال منزله الذي نبنيه له”. ويُضيف “أكملنا جزءًا كبيرًا من المنزل وبقي القليل، اليوم بقي المنزل لكن صاحبه تركنا”. يُتابع سامر: “كان ربيع يطمح مثل أي شاب في عمره، أن يتزوّج ويكوّن عائلة”.
يؤكد سامر: “نحن نعلم من قبل أنّ رعاية الماشية خطرة في هذه المنطقة لكن لم يحصل من قبل أن قُتل رعاة. منذ سنوات وإسرائيل تُضايقنا، يحصل إطلاق نار أحيانًا وخطف أحيانًا أخرى ونحن اعتدنا ذلك ونرفض ترك أرضنا”. ويعتبر سامر أنّ “استهداف الرعاة يحصل لأنّ إسرائيل تخافنا، لأننا نعرف الأرض ونحفظها”. ويُضيف: “إذا مرّ كلب تخاف إسرائيل ويبدأ عناصرها بإطلاق النار”.
عبارة سامر الأخيرة تُذكّر بالطفل حسين ابن بلدة ميس الجبل الذي اشترى دجاجتين ووضعهما في القن في مزرعة عائلته الواقعة على الحدود مع فلسطين المحتلة، وفي الصباح اليوم التالي ولسوء حظه هربت واحدة منهما نحو الخط الأزرق وعبرت الشريط الشائك. يومها انتشر فيديو لحسين يروي ما حصل معه قائلًا: “كنّا عم نفتح القن لإطعام الدجاج، فخرجت إحداها نحو الخط (الأزرق) ركضت خلفها لأعيدها فجاء اليهود من خلف الشريط، خافوا وبدأوا إطلاق النار نحو السماء”. صلابة هذا الطفل تُفسّر صلابة رعاة الأغنام الّذين يرفضون ترك أرضهم اليوم إذ قال ردًّا على سؤال مصوّر الفيديو “هل خفت؟”، “ما خفت عشان بدي الدجاجة”.
أضرار كبيرة للرعاة ومساحات الرعي جرّاء القصف الإسرائيلي
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على الأراضي اللبنانيّة خسرت الثروة الحيوانيّة في الجنوب 700 رأس من الماشية و200 ألف طير و250 قفير نحل في المناطق الحدودية، بحسب مستشار وزير الزراعة عبدالله ناصر الدين في اتصال مع “المفكرة”. وشرح ناصر الدين أنّ الوزارة غير قادرة في ظل الظروف الأمنية على إجراء مسح ميداني للأضرار، وهي تتواصل بشكل مباشر مع المزارعين في المناطق الحدودية لرصد الأضرار.
وطال القصف الإسرائيلي مساحات الرعي التي اندلعت فيها الحرائق وتتعرّض للتلوث بسبب القصف الإسرائيلي الذي يشتمل على قنابل الفوسفور. وحتى القصف بالقذائف العادية لا يقلّ خطورة لناحية تلويث التربة، إذ أنّ كلّ مواد التفجير تحتوي على معادن ثقيلة كالـ Cadmium و Strontium، وتواجدها بنسب كبيرة يسمّم التربة.
وفي آخر تقرير نشرته وزارة الزراعة في 14 تشرين الثاني رصدت فيه الأضرار الزراعية على 53 بلدة جنوبية، 41 منها في محافظة النبيطة و12 بلدة في محافظة لبنان الجنوبي. وأظهرت الإحصاءات حصول 340 حريقًا على مساحة 900 دونم، 60% من هذه المساحة مناطق حرجية تحتوي على أشجار السنديان والملول والغار، و30% هي مناطق زراعية تشتمل على حمضيات وأشجار مثمرة، فيما 10% من الأراضي تحتوي على أعشاب، إضافة إلى تدمير 47 ألف شجرة زيتون. ويُشير ناصر الدين أنّ هذه الإحصاءات أوّلية، بخاصّة أنّ وزارة الزراعة تتواصل مع المزارعين والبلديات عن بعد نظرًا لانتفاء إمكانية إجراء مسح ميداني.
ويلفت ناصر الدين إلى أنّ القنابل الفسفورية التي يستخدمها العدو تُحدث أضرارًا جسيمة في الأراضي الحرجية والزراعية والغطاء النباتي والثروة الحيوانية. ويجزم أنّ هدف إسرائيل إحداِث أكبر ضرر بالأراضي المحاذية للشريط الحدودي بهدف منع استغلالها زراعيًا في المستقبل. وعن وجود أي خطّة للوزارة للاستجابة لنتائج هذا القصف على المزارعين، يؤكد ناصر الدين أنّ “الأمر لدى الحكومة التي أصدرت خطّة طوارئ تلحظ مهام وزارة الزراعة. وفي الجزء الخاص بنا، نحن بعثنا رسائل لمنظمات الأمم المتحدة الشريكة لاستدراج الهبات للتعويض عن الأضرار ودعم المزارعين، وتلقينا وعودًا بالتجاوب مع مطالبنا”. ويُضيف “تقدمنا بشكوى عبر الحكومة إلى الأمم المتحدة ضدّ إسرائيل بشأن استخدامها الفوسفور الأبيض في اعتداءاتها على لبنان”.
الكلفة عالية للبقاء وللنزوح
يروي علي سرور (52 عامًا)، وهو ابن شقيقة أبو نسيم، لـ “المفكرة” أنّه حين بدأ القصف الإسرائيلي على عيتا الشعب “كانت الأغنام في حظيرة المنزل في منطقة مكشوفة على الحدود اللبنانيّة الفلسطينيّة، نقلتها إلى الجهة المقابلة للحدود لكنّ القصف طالها هناك”. يُضيف: “كان عندي نحو 40 رأس غنم قتل نحو 30 منها وما تبقى أصيبت بجروح وبينها واحدة تلد قريبًا، فيما قتلت جميع الدجاجات والبط وعددها نحو 30”. بعد القصف نقل علي البقرات إلى حظيرة أحد الرعاة لكنّه طلب منه بعد أسبوعين استعادتها “فلم أجد أمامي خيارًا غير إعادتها إلى المكان الذي قصفت فيه، حيث أزورها كلّ يوم”، يضيف.
العمل في تربية الماشيّة كانت المهنة التي لجأ إليها علي بعد تقاعده عام 2022 من قوى الأمن الداخلي، فحينها قرر مع شقيقه شراء عدد من الأغنام، وهي أساسًا مهنة العائلة إضافة إلى الزراعة. يقول علي اليوم بعد أن انهار مصدر رزقه إنّ “الخسارة الكبيرة أجبرتني على عرض الأغنام للبيع، لكن مهما كان سعرها فلن يعوّض الخسارة، فرأس الغنم سعره لا يقل عن 200 دولار لكن لن يشتريها أحد بسعرها الفعلي موضحًا أنّ رأس الغنم اليوم يُباع بـ 80 دولارًا كحد أقصى فكيف إن كانت مصابة. أما إبقاؤها فسيحتّم عليّ تأمين احتياجاتها ونحن لا نعرف ماذا يحصل في الأيّام المقبلة”.
يرفض علي علويّة وهو صاحب مزرعة فيها نحو 500 رأس غنم في بلدة عيترون الحدودية، أيضًا الخروج من القرية على الرغم من أنّه ذاق لوعة القصف الإسرائيلي في حرب تمّوز حين خسر 300 رأس غنم في القصف الإسرائيلي على حظيرته. يقول لـ “المفكرة” “يومها كنت قررت البقاء في المنزل، لكن حين حصل القصف خرجت أنا وعائلتي وكان لديّ طفل رضيع”.
يشرح علوية عن الأكلاف التي يتكبّدها الرعاة الّذين قرروا الخروج من القرية مع قطعانهم، أحدهم شقيقه حسين. يقول: “نقل القطيع اليوم فيه خسارة للراعي، مثلًا شقيقي، بعدما تعرّضت حظيرة الأبقار لديه للقصف الإسرائيلي وقتلت إحدى بقراته، قرر نقل قطيعه إلى البقاع حيث احتاج ثلاث نقلات دفع 200 دولار عن كلّ منها. هذا عدا عن الأسعار المرتفعة للأعلاف، حيث يبلغ ثمن الشوال نحو 30 دولارًا إذ يضطر المزارع لاستخدام العلف لعدم وجود مساحات رعي هناك مثل قرانا حيث نرعى القطيع في المشاعات”. ويُضيف “أيضًا المزارع يتكبّد أجرة منزل وحظيرة”. ويعتبر علويّة أنّ “الانتقال في هذا الموسم صعب، بسبب الشتاء وأيضًا لأنّ الماشية تلد في هذا الفصل”. ويُضيف “من ترك القرية ذهب إلى بلدات مجاورة لكن ليست قرى حدودية، وأنا أقول إنّ من لديه نصيبًا يأخذه أينما ذهب”.
استهداف إسرائيلي ممنهج للرعاة
حسن قاسم علي زهرة (24 عامًا) جرّب الخطف الإسرائيلي مرّتين، مرّة عام 2015 حين كان عمره 15 عامًا والمرّة الثانية قبل عامين. يروي حسن لـ “المفكرة” أنّ المرّة الأولى خطفه جنود إسرائيليون كانوا قد حضّروا له ولشقيقه كمينًا في مزرعة بسطرة وهي إحدى مزارع شبعا المحرّرة تقع قرب الشريط الشائك الذي وضعته إسرائيل عند المزارع التي تستمر باحتلالها منذ العام 1982 ورفضت الخروج منها بعد تحرير الأراضي اللبنانيّة عام 2000. يقول حسن: “تمكن جنود الاحتلال يومها من خطفي أنا وشقيقي وبقينا معتقلين ليوم واحد وأعادتنا اليونيفيل عبر الناقورة”. وفي المرّة الثانية يروي حسن أنّه اعتقل وحده فيما تمكّن شقيقه من الفرار و”حصل الاعتقال بالطريقة نفسها، عبر كمين مجهّز داخل الأراضي اللبنانيّة ولم نكن تخطينا الخط الأزرق بل كنّا في الأرض التي تملكها العائلة”. ويشرح حسن: “طمّشولي عيوني وصاروا ينقلوني من مكان إلى آخر، وفي آخر المطاف دخلت إلى أحد المراكز حيث جرى التحقيق معي واتهامي بأننّي أعمل مع حزب الله، ثم أبقوني في غرفة لثلاثة أيّام”. ويُضيف: “بعدها تم إطلاق سراحي وسلّموني لقوّات اليونيفيل أيضًا عبر الناقورة”. هذا الاستهداف لم يتوقف، إذ قصفت إسرائيل مزرعة العائلة في بسطرة قبل أيّام، وهي المزرعة التي تستخدمها العائلة في فصل الشتاء كونها أكثر دفئًا من شبعا. يقول علي: “كلّ شتاء ننتقل مع الماعز إلى بسطرة لكن اليوم ما عاد أمامنا أي خيار سوى البقاء في شبعا، خاصّة وأننا بحثنا عن مكان لنبيت فيه الشتاء لكنّنا لا نجد”.
ويتعرّض الرعاة الّذين يقصدون المساحات الحدودية لرعي قطعانهم لانتهاكات كثيرة على يد الجيش الإسرائيلي. فإضافة إلى الألغام المزروعة في مساحات من القرى الحدودية منذ أيام الاحتلال، والتي تهدّد الرعاة وقطعانهم، فإنّهم يتعرّضون للخطف أو لإطلاق النار باتجاههم من القوات الإسرائيلية. وغالبًا ما تكون الحجّة الإسرائيلية أنّ الرعاة يتجاوزون الخط الأزرق، وهو خط مؤقت حددته الأمم المتحدة عام 2000 بغرض التحقق من انسحاب الجيش الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية بما يتفق مع قرار الأمم المتحدة رقم 425 (1978).
ويلفت الصحافي الجنوبي طارق أبو حمدان لـ “المفكرة” إلى أنّ “استهداف الرعاة في المناطق الحدودية يحصل منذ زمن، وهو استهداف ممنهج، ونحن كلّ شهر نسمع عن حالة أو حالتي خطف أو محاولة خطف، وغالبًا ما تحصل هذه الحالات في القرى القريبة من الشريط الحدودي مثل كفرشوبا، شبعا، حلتا، الوزاني والمجيدية”. وبرأي أبو حمدان، فإنّ إسرائيل تعتبر أنّ كل راع يعمل مع حزب الله، كونه يوميًا يخرج مع قطيعه إلى البرّية، وهو ما ينفيه الرعاة الذين يؤكدون أنّهم لطالما قصدوا تلك الأراضي التي كانت ولا تزال جزءًا من بلداتهم.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.