فيما كانت منشغلة بالدعاية لترشيح صورة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة رغم عجزه التام عن الحركة وعدم وعيه بما يحيط به من أمور، اصطدمت السلطات في الجزائر بداية من يوم 22 فيفري 2019 بالحشود الشعبية التي اكتسحت شوارع العاصمة الجزائر وعددا من المدن الكبرى رفضا لذلك. كان المطلب الرئيسيّ لهذا الحراك يتمثل في المناداة بإصلاحات سياسية عميقة وجذرية لنظام الحكم وأسس قيامه للقطع مع الفساد الذي استشرى وغابتْ المحاسبة عنه.
ورغم مساعي قمع الحراك الذي لجأ إليه من كانوا يحكمون البلاد من خلف صورة الرئيس، وفي مقدمتهم مؤسسة الجيش، زاد زخم الحراك وتوسّع ليشمل المطالبة بإصلاح المؤسسات، وضمنا إرساء قضاء مستقل لا يعمل بتعليمات التليفون .
واقع غيرت بعده منظومة الحكم من أسلوب تعاطيها، فنحّت الرئيس ولاحقت المقربين منه قضائيا في ذات الحين الذي اتخذت فيه قرار إنشاء هيئة مستقلة للانتخابات وتنظيم الانتخابات الرئاسية [1] التي أنجزت في 12 ديسمبر2019 و حملت عبد المجيد تبون إلى سدّة الحكم في 13 ديسمبر [2]2019.
بعدها، عادتْ السلطة إلى عنفها بهدف إخماد الحراك وتركيعه كليّة بشتى الوسائل انطلاقا من الإيقافات وصولا إلى العمليات الممنهجة للهرسلة شملت ناشطين في المجتمع المدني والسياسي وبشكل عام كل من انخرط [3] في مسار المطالبة بإصلاحات جذرية. ولكنها فشلت مجددا. إذ تحوّلت المطالبة بالإصلاح لاستحقاق مؤسساتي كما كشف ذلك انخراط القضاة فيه سواء عبر نقابتهم أو ناديهم المنشأ في خضمّ الحراك [4].
سعتْ إثر ذلك السلطة التنفيذية وبتاريخ 1 نوفمبر 2020 إلى استعادة المبادرة من خلال تقديم ردّ سياسي كان عنوانه الأول تنظيم استفتاء [5] حول إصلاح الدستور. هذا الإصلاح المفترض ومن خلال جلّ مضامينه كان يرمي إلى التنازل على ما كان مقررا وبالتالي تقييد عدد فترات الرئاسة إلى فترتين فحسب وتوسيع نطاق الحريات العامة الأمر الذي سوف يُسهِّل وفق هذا المنظور عملية إنشاء الجمعيات وممارسة حق التنظم والتجمع والتظاهر.
بالإضافة إلى ذلك، تضمّن مشروع الإصلاح الإشارة إلى تكريس مبدأ الفصل بين السلطات كالتزام ومبدأ كوني [6] وإلى ضمان استقلالية وحياد كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية حفاظا على توازنها وبالتالي تجنّب كابوس تجميع وتراكم السلطة بشكل مفرط في يد شخص واحد أو هيئة واحدة. إجمالا، كانت هذه الإصلاحات على المستوى النظري تحديدا ترمي إلى تعزيز الأسس الديمقراطية للنظام السياسي في الجزائر، من خلال السعي إلى تركيز أسس العدالة واستقلالية السلطة القضائية، وتشجيع مشاركة المواطنين عبر فتح أكبر مجال ممارسة للحريات العامة والفردية.
ولكن هل كان الأمر كذلك فعلا؟ في محاولة أولى للجواب على هذا السؤال نبحث في القضاء فنسأل عن تأسيس السلطة المستقلة خصوصا وأنه مضت الآن سنة على سنّ القانون المنظم للمجلس الأعلى للقضاء[7] والنص المنظّم للتعيينات في الوظائف المدنية والعسكرية للدولة [8].
هل كانت بعبارة أخرى الإصلاحات التشريعية تهدف حقاً إلى تحقيق مطالب الحراك من تكريس لمبدأ فصل السّلط عن بعضها البعض الذي يتجلى فعلياً في استقلالية السلطة القضائية والحدّ من تأثير السلطة التنفيذية والتشريعية ضمانا للحقوق والحريات، أم هي مجرد مراوغات، تخفي أنصاف الحقائق طوّعت فيها السلطة السياسية السلطة القضائية؟ بعبارة أخرى وفي ظِلّ الانتهاكات السالف ذكرها أعلاه لمنظومة حقوق الإنسان ولقيام دولة القانون والمؤسسات، هل نجد تفسيراً من خلال دراسة وجود عوامل التأثير العضوي على استقلالية القضاء من عدمه؟
دعونا في هذا الإطار نلقي نظرة ولو سريعة على بعض ملامح البنى التحتيّة للنّصوص التشريعيّة المتّخذة خلال تلك الظروف العصيبة حقا.
رئاسة المجلس الأعلى للقضاء واليد المطلقة
بالتمحيص في الباب الرابع من دستور 2020، نجد أن هنالك إقرارا واضحا لمبدأ استقلالية السلطة القضائية (الفصل 165) يعطي للمجلس الأعلى للقضاء مهمة السهر على احترامها وتكريسها (الفصل 180). ويعزز القانون العضوي للمجلس هذا الدور بإفراده نظريا باستقلالية مالية وإدارية عبر تمكينه من شخصية معنوية (الفصل 2).
تجدر الملاحظة أنه ومن المفارقات وبالرغم من تغيير النصوص المتعلقة برئاسة المجلس الأعلى للقضاء في الفصل 180 الفقرة الثانية من الدستور والفصل عدد 3 من القانون العضوي للمجلس الأعلى للقضاء، يبقى رئيس الجمهورية هو رئيس المجلس على أن يكلف الرئيس الأول للمحكمة العليا برئاسته. مؤدّى ذلك أن بإمكان رئيس المحكمة العليا ترؤسه من دون الحاجة إلى تفويض من وزير العدل كما كانت عليه الحال في دستور[9]1963 ودستور 1976 ودستور 1989 ودستور 1996. وفي الواقع، ما زال رئيس الجمهورية يحتفظ بسلطة تعيين رئيس المحكمة العليا, مما يعطيه تأثيرًا مباشرا على أعضاء المجلس الأعلى للقضاء وعلى حسن سير القضاء. بالإضافة إلى ذلك، سيكون من الصعب تعديل هذا الواقع أي تشكيلة المجلس الأعلى للقضاء مستقبلا بفعل جعلها مادة دستورية.
صلاحيات واسعة وتأثير عضوي واسع للسلطتين التشريعية والتنفيذية على استقلالية القضاء يتشكل المجلس من ستة وعشرين عضوا [10] وفق الطريقة الآتية:
- الرئيس الأول للمـحكمة العليا،
- رئيس مجلس الدولة،
- خمسة عشر قاضياً يتمّ انتخابهم من قبل زملائهم من المحكمة العليا، من مجلس الدولة من قضاة من المحاكم، من قضاة من المحاكم الإدارية غير مجلس الدولة،
- ستة شخصيات مختارة بناءً على كفاءتهم، خارج جسم القضاء، اثنان منهم يختارهما رئيس الجمهورية، واثنان يختارهما رئيس المجلس الشعبي الوطني بخلاف النواب، واثنان يختارهما رئيس مجلس الأمة بخلاف أعضائه،
- اثنان قضاة من التكتل النقابي للقضاة،
- فضلا عن رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أنه و إن بدا في ظاهر النصّ الدستوري أن هنالك قطعا مع آلية التمثيل القديمة داخل المجلس التي كانت تمكن المؤسسة التنفيذية ببسط سلطتها بشكل لا لبس فيه على قراراته (وهذا ما كان يحصل بسبب التفوق العددي لممثلي وزارة العدل على حساب القضاة وخضوع ممثلي النيابة العامة للسلطة الرئيسية لوزير العدل)، إلا أنه يظهر جليا أن سلطة رئاسة الجمهورية على المجلس بقيت بكليتها خصوصا فيما يتعلق بسلطته في التعيينات. وهذا ما يتبيّن بوضوح عند مراجعة مضامين وتنصيصات الفصل 92 من التعديل الدستوري لسنة 2020 لجهة أن هناك تكريسا وهيمنة لفكرة الانحياز التام للسلطة التنفيذية على حساب بقية السلطات. ومن أهم تجليات ذلك أن رئيس الجمهورية يتمتّع بصلاحية حصرية مباشرة أو غير مباشرة في التعيين في أعلى المناصب القضائية. فعدا عن أن الرئيس يتولى تعيين رئيس المحكمة العليا ورئيس مجلس الدولة مباشرة، فإنه يتمتع بصلاحيات واسعة في التعيين في مختلف الهيئات القضائية بموجب المرسوم الرئاسي 39-20 المؤرخ في 2 فيفري [11]2020 والمتعلّق بالتعيين في الوظائف المدنية والعسكرية للدولة (والذي ألغى المرسوم 99-240 المؤرخ في 27 أكتوبر 1999). فبموجب هذا المرسوم، أمكن القول أن رئيس الجمهورية ما يزال يحتفظ بصلاحياته الكاملة في التعيين في الهيئات القضائية سواء بطريقة مباشرة أو من خلال وزير العدل. ومن أبرز التعيينات تلك، الآتية:
. التعيينات في المحكمة العليا: رئيس المحكمة العليا والنائب العام لديها.
· التعيينات في مجلس الدولة: رئيس مجلس الدولة ومحافظ الدولة والمستشارون ومساعدو محافظ
· الدولة لدى مجلس الدولة.
· التعيينات في محكمة التنازع: رئيس محكمة التنازع ومحافظ الدولة ونائبه، وقضاة محكمة · التنازع.
· التعيينات في مجلس المحاسبة: رئيس مجلس المحاسبة ونائبه، والناظر العام والنظراء، ورؤساء
· الغرف ورؤساء الأقسام.
· التعيينات في المحاكم: رؤساء المحاكم ووكلاء الجمهورية ومحافظو الدولة لديها.
تمثيلية القضاة
ولكن ماذا بشأن تمثيلية القضاة داخل المجلس؟ وهل من شأنها أن تخفف من سطوة السلطة السياسية على قراراته؟ أول ما نلحظه هنا يتصل بعضوية ممثليْن من التشكيل النقابي للقضاة، بحيث ينصّ الفصل 14 من الدستور على أنّ أعــضـاء الـمجـلــس الــوطـنـي والمـكــتب التـنـفـيـذي ورؤسـاء الـفروع النقابية للتشكيل النقابي للقضاة، ينتخبون من بينهم قــاضـيين اثـنين. ورغم أهمية هذا الأمر في دعم تمثيلية الروابط والتنظيمات التي يقوم بها القضاة داخل تشكيلة المجلس، إلا أن واقع الحياة التعددية معدوم. فقد تمّ حصر هذه التمثيلية في النقابة التي تضمّ فقط 800 من أصل 5000 قاضيا، ممّا يظهر اتجاها إلى تأطير القضاة ضمن النقابة من دون فتح مجال لأي تنظيم مختلف مهما بلغت صفته التمثيلية. ويتأكد ذلك في عدم وضع أيّ معايير موضوعية لتحديد الجمعية الأكثر تمثيلاً. وما يزيد من قابلية هذا الأمر للانتقاد هو أن مجموعة من القضاة قررت سنة 2016 أن ينتظموا ضمن “نادي القضاة الجزائريين” وقد التحق بهم فيما بعد أكثر من 2000 قاضٍ. وجهد القيمون على النادي في تأسيسه كنقابة في 2016 ثم كجمعية في 2019. إلا أن جهودهم باءت بالفشل بفعل رفض السلطة التنفيذية الاعتراف بهذا الهيكل الجديد على خلفية تقاطعه مع مطالب الحراك وما تبناه من مواقف ضد التمشي الفردي للسلطة التنفيذية وتصورات لإرساء قوام دولة ديمقراطية. لا بل عمدت السلطة التنفيذية إلى ممارسة ضغوط واتخاذ إجراءات بهدف إقناع المنضوين تحت هذا النادي على الانسحاب منهم. وعليه، تمّ استدعاء أكثر من 2000 عضو بشكل فردي من قبل المحامين العامين ورؤساء المحاكم. وقد قام تبعا لذلك 800 قاضٍ من القضاة الجالسين والنيابة العمومية بالتخلي عن التزامهم وتقديم اعتذار رسمي كتابي، في حين تعرض مائة قاضٍ تقريبًا، في مقدمتهم رئيس النادي لإجراءات انتقامية من خلال المجلس الأعلى للقضاء [2].