بعد أيام من الإعلان عن استقالة قاض مشتبه به بالإرتشاء (وهو المستشار المعاون في مجلس شورى الدولة السيد نديم غزال)، أصدر وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال سليم جريصاتي بتاريخ 17 تموز 2018 تعميما على القضاة بوجوب الامتناع عن "التواصل بأي شأن كان عبر الوسائل كافة مكتوبة أو مرئية أو مسموعة قبل الحصول على إذن من وزير العدل". ومن البيّن أن وزير العدل استند في هذا التعميم على المادة 15 من قانون الموظفين العامين التي تحظر على هؤلاء التصريح إلا بإذن من رئيسهم الإداري، معطوفة على المادة 132 من قانون نتظيم القضاء (وهي المادة المذكورة في التعميم) والتي تجعل قانون الموظفين العامين مطبقا على القضاة بكل ما لا يتعارض مع أحكام هذا القانون.
ومن البيّن أن جريصاتي استهدف من خلال هذا التعميم بالدرجة الأولى المدعي العام التمييزي سمير حمّود. فعدا عن أن التعميم تضمن في خاتمته عبارة غير مألوفة مفادها أنه "يعني جميع القضاة من دون تمييز حين لا يميز النص"، فإنه صدر بعدما أعلن النائب العام التمييزي أنه وضع يده على القضية وأنه بصدد ملاحقة ثلاثة قضاة جزائيا على خلفية الشبهة بإرتشائهم.
وما يعزّز هذه القراءة هو البيان اللاحق الصادر عن حمود بتاريخ 23 تموز 2018 والذي أكد فيه أن القانون يتيح له الادعاء تلقائيا على القضاة جزائيا (بما فيهم قضاة مجلس شورى الدولة) من دون حاجة للحصول مسبقا على موافقة وزير العدل. وهو بيان يكشف تجاذبا بشأن الصلاحيات بين حمود ووزير العدل في هذا الشأن.
ومن هذه الزاوية، بدا التعميم وكأنه يهدف ليس فقط إلى تقييد حرية القضاة عملا بتصوّرات تقليدية للوظيفة القضائية وما تفرضه من أخلاقيات، بل بالدرجة الأولى إلى تمكين الوزير من احتكار الكلام في هذه القضية تمهيدا لتمكينه من احتكار القرار بالمحاسبة أو عدمها. وهذا ما سنفصله ضمن ملاحظات ثلاث:
أولا، حرمان القضاة من حرية التعبير: كلن يعني كلن
في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن التعميم يتمسك بقراءة تقليدية للوظيفة القضائية وما تفترضه من أخلاقيات، باتت في تعارض تامّ مع الدستور والتوجهات الحديثة وبخاصة مع المعايير المعمول بها لاستقلال القضاء. فالتعميم يساوي في مسألة حرية التعبير بين القضاة والموظفين العامّين. فالمادة 15 من قانون الموظفين توجب على القضاة كما على الموظفين العامين الحصول على إذن مسبق للكلام من رئيسهم الإداري، وهو في حالتهم وزير العدل وليس أي شخص آخر. وعدا عن أن هذه القراءة تجعل علاقتهم بالوزير بمثابة علاقة مرؤوس برئيسه (ولو إداريا)، فإنها تُجرّد القضاة من حرية التعبير التي يضمنها الدستور في مادته 13 لجميع المواطنين من دون تمييز، وتحرمهم من امكانية استخدام حرية التعبير عند الاقتضاء للدفاع عن استقلالهم. وهذا ما يتنافى تماما مع مبادئ الأمم المتحدة وشرعة بنغالور الدولية حيث باتت حرية التعبير وحرية إنشاء جمعيات جزءا من الضمانات الأساسية لاستقلالية القاضي[1].
وتبعا لذلك، يكون الوزير قد أخطأ حين طبق المادة 15 من قانون الموظفين (أقله فيما يتصل بحرية الكلام) على القضاة طالما أن هذه المادة تتعارض تماما مع أحكام قانون تنظيم القضاء العدلي الذي يعلن في مادته 44 أن القضاة مستقلون لا سلطان عليهم إلا القانون.
وما يزيد التعميم قابلية للانتقاد هو تأكيده على أنه ينطبق على القضاة جميعا، بحجة أن القانون لا يميز بينهم. ولم يجد الوزير في ذلك حرجا من أن ينقض بالإضافة إلى معايير استقلال القضاء، مجموعة من التدابير والممارسات المعتمدة مؤخرا والتي فتحت طاقات هامة تسمح للقضاة بالتعبير عن آرائهم ولفصور العدل بأن تكون أكثر التزاما بمبادئ الشفافية.
فأن يشمل التعميم النائب العام التمييزي، أمرٌ يطيح بأعراف قديمة، يفترض أنها تعززت بصدور قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد في 2001، حيث بات هذا الأخير رئيسا للنيابات العامة كافة وصاحب الصلاحية في وضع التعاميم والتعليمات العامة الملزمة للنيابات العامة. فهل يعقل أن يُعطى النائب العام التمييزي صلاحية وضع السياسة الجزائية للدولة بالطريقة التي يريدها، من دون أن يكون له حق (بل واجب) تفسير وشرح اتجاهات هذه السياسة وجوانبها للرأي العام بالأسلوب الذي يريده؟
الأمر نفسه يتصل بالمكتب الإعلامي لمجلس القضاء الأعلى والذي نشأ بقرار مشترك من المجلس ووزير العدل الأسبق شكيب قرطباوي بحجة تعزيز الشفافية في العمل القضائي، قبلما يتم تكريسه قانونا ضمن أمانة سر هذا المجلس بموجب المرسوم الصادر في نيسان 2014. فهل يُعقل أن يشمل التعميم المكتب الإعلامي للمجلس بعدما تم تكريس وجوده بمرسوم؟ وألا يستدعي الوزير من خلال ذلك مجدّدا هيمنة التعتيم في كل ما يتصل بقصور العدل؟ وبالطبع، ما يصحّ من تقييد على مجلس القضاء الأعلى، يصحّ من باب أولى على مكتب مجلس شورى الدولة الذي دأب رئيسه السابق شكري صادر على الظهور الاعلامي ليدافع عن وجهة نظره وقراراته كلما تعرض لهجمات سياسية، ليعود رئيسه الحالي هنري خوري إلى الانكفاء مؤثرا التزام الصمت، حتى في قضايا جدّ خطيرة كقضية القاضي المشتبه بإرتشائه.
والأهم أن التعميم لا يستثني المسؤولين في جمعيات القضاة المخولين عرفا التوجه إلى الرأي العام، وبخاصة فيما يتصل بالدفاع عن مصالح القضاء واستقلاله. وقد جاء بيان نادي قضاة لبنان الناشئ حديثا والصادر بتاريخ 24/7/2018 ليعلن رفضا جماعيا لهذا التعميم.
ثانيا، التعميم بالقوة: أول ملاحقة تأديبية لقاضي شرف
لم يتوقف وزير العدل عند إصدار التعميم، إنما ذهب إلى حدّ التهديد بالملاحقة التأديبية بل ممارستها فعليا. وقد تجلى ذلك من خلال الموقف المتوتر الذي أخذه هذا الأخير بإحالة القاضي المتقاعد راشد طقوش إلى هيئة التفتيش القضائي، بجرمي التحقير والمس بهيبة القضاء وكرامته، وذلك بهدف شطبه من لائحة قضاة الشرف وتجريده من الامتيازات. وقد حصلت الملاحقة المذكورة تبعا للتصريح الذي أدلى به طقوش على صفحة الفايسبوك العائدة له، تعليقا على التعميم واللهجة التي استخدمها الوزير لمخاطبة القضاة من خلاله. وقد رأى طقوش في تصريحه أن ما من وزير خاطب القضاة كما فعل جريصاتي، وأنه أقدم خلال ولايته على أعمال مسيئة للقضاء لم يسبقه إليها أحد، وقد اتّخذ بعضها طابع التدخّل في القضاء وبعضها الآخر طابع التوسّط لقضاة لدى سياسيين في سياق إعداد التشكيلات القضائية.
وفيما استخدم طقوش عبارات قاسية في اتجاه الوزير من قبيل (الأسلوب الفوقي والاستفزازي، سوء النية، رائحة الحقد، غير متوازن)، فإنه برر قسوة أسلوبه بأن "لكل مقام مقال ومقامك (أي مقام الوزير) يستحق هذا المقال".
وإذ تشكّل هذه الملاحقة الملاحقة الأولى من نوعها ضد قاضٍ متقاعد (قاضي شرف)، فإنها تؤدي عمليّاً إلى توسيع إطار موجب الصمت، ليشمل ليس فقط القضاة العاملين (كلهم) إنما أيضا القضاة المتقاعدين (الذين تمتعوا تقليديا بحرية رأي واسعة غالبا ما عوضت عن الصمت المهيمن على القضاة العاملين) والذين باتوا يفقدون امتياز قاضي الشرف في حال النكول به.
وما يزيد من قابلية هذه الملاحقة للنقد هو أنها استهدفت أحد أكفأ القضاة وأنزههم، وأن الذي بادر إليها أي وزير العدل هو نفسه الشخص الذي طالته سهام التصريح موضوعها، مما يجعلها بمثابة انتقام شخصي. وتصل الغرابة حدها الأقصى عند النظر في مرتكزات الملاحقة وهي المس بهيبة القضاء وكرامته. فبمعزل عن فحوى الانتقادات التي وجهها طقوش لوزير العدل ومدى سدادتها، فإن بيانه يندرج منطقيا في إطار الدفاع عن استقلال القضاء وعن حرية القضاة بالكلام وعليه في إطار مختلف تماما عما يصوره الادعاء! ولا يكون خلاف ذلك إلا إذا اعتبرنا فضح تهديد قاضٍ أو التوسط لآخر تعرّضا لكرامة القضاء. وهذه هي قمة العبث.
وأغلب الظن أن جريصاتي اضطر على تبرير الملاحقة على هذا الوجه العبثي، ليس فقط لحجب اعتبارات الثأر أو الرغبة باحتكار الكلام التي تحدوه على الملاحقة، بل بالأخص للتكيف مع قانون قضاة الشرف والذي يفتح باب الملاحقة ضد هؤلاء فقط في حال التعرض لشرف القضاء وكرامته، وليس لأي سبب آخر.
ثالثا، احتكار الكلام و… الحقيقة
الملاحظة الثالثة على هذا التعميم تتصل بمؤداه، وقوامه احتكار الوزير للكلام بشأن استقالة القاضي نديم غزال وتبعاتها وتاليا تحكّمه بالمعلومات التي يُكشف أو لا يُكشف عنها، تمهيدا لتحكمه في مآل ملاحقته أو عدمها.
وفيما بدا واضحا أن الوزير لا يجد حرجا في التلميح إلى تورط القاضي المستقيل من دون نفيه أو الجزم فيه، فإنه من البين أيضا أنه يؤثر أن تنتهي قضية غزال باستقالته من دون أي محاسبة، أو على الأقل، وفي حال اقتضى إجراء المحاسبة، أن تقتصر عليه من دون أن تمتدّ لشركائه المحتملين داخل القضاء أو خارجه (الجهات الراشية المحتملة). وهذا ما نستشفه بوضوح كلي من حديث جريصاتي للنهار بتاريخ 13 تموز2018 حيث قال: "أن القاضي المعني جوبِه بمسألة ارتكاب في ملف معين، فأشار إلى أنه حتى لا يبقى في دائرة الشك، آثرَ الاستقالة. وهو تقدم بها ووافقْتُ عليها ووزير المال علي حسن خليل…". ويتعزز التلميح بحصول التورط بتأكيد الوزير على أن الاستقالة لا تمنع "المساءلة أمام التفتيش القضائي (وهي مساءلة تقتصر على القاضي دون شركائه)، فالاستقالة لا تعفي والتحقيق مستمر". ورغم هذا التلميح الواضح بشبهة حصول ارتكاب ما، فإن الوزير لم يجد حرجا في نسف ما تتداوله وسائل الإعلام، واصفا إياه بأنه تشويه وكلام خاطئ.
ونفهم تاليا أن ما يستثير الوزير ليس الحديث عن احتمال ارتشاء قاض (فهو بدوره أكد هذا الأمر وبدا مقتنعا به بفعل موافقته السريعة على استقالته)، ولكن الحديث عن وجود أدلة دامغة أو ارتباط الرشوة بملفات محددة (وبخاصة ملف إنشاء منتجع الإيدن بي في الرملة البيضا)، على نحو يجرد صرف النظر عن الملاحقة الجزائية في جرم الرشوة أو صرف النفوذ من أي مبرر جدّي. فكأنما همّه ليس الدفاع عن كرامة القاضي المذكور، إنما تجنّب أي تحقيق جزائي وبخاصة التفرعات التي قد تنتج عنه على صعيد المسؤولية الجزائية للجهة الراشية من قوى يرجّح أن تكون نافذة من خارج القضاء، أو ربما على صعيد انقشاع فضائح أخرى قد تخرج من ملف التحقيقات، أو مما يصطلح عليه بلاغةً، "علبة باندورا".
وتصرف الوزير على هذا النحو يماثل تماما تصرفه في قضية إقالة أو استقالة القاضي رئيس مجلس شورى الدولة شكري صادر في آب 2017. فبعدما نُقل عنه تبرير الإقالة في جلسة مجلس الوزراء بمؤاخذات وملفات ضدّ صادر، عاد ودعا هذا الأخير إلى لزوم الصمت المتبادل بحجة أن كلاهما ملزم بموجب التحفظ. إذ ذاك، توقف الحديث عن المؤاخذات، ليكثر الحديث عن أحقية العهد بتعيين قضاة مقربين منه وملتزمين بمبادئه. وبالطبع، هذه الحجة لا تستقيم إطلاقا بحيث أن قانون الوصول إلى المعلومات يفرض على الحكومة مثل أي إدارة عامة أن تعلل جميع قراراتها الفردية، بما فيها قرارات الإقالة، تحت طائلة إعلان بطلانها.
وما يؤكد على ما تقدم، هو الجدل الحاصل بين جريصاتي والنائب العام التمييزي، وبشكل خاص البيان الصادر عن هذا الأخير بتاريخ 23 تموز 2018. وقد جاء في البيان أن للنائب العام التمييزي، وله وحده، صلاحية تحريك دعاوى جزائية تلقائيا ضد القضاة بما فيهم قضاة مجلس شورى الدولة. وقد أكمل البيان أن هذه الصلاحية يستمدها النائب العام التمييزي من المواد 345 وما يليها من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تعطيه حق ملاحقة القضاة، والمادة 428 التي ألغت ضمنا المادة 29 من نظام مجلس شورى الدولة التي كانت تشترط لملاحقة أعضاء مجلس شورى الدولة بالجنايات والجنح الناشئة عن الوظيفة، أن يتم ذلك بناء على طلب وزير العدل وبعد استشارة مكتب مجلس شورى الدولة. ومجرد قيام حمود بنشر هذا البيان (المفاجئ) إنما يعكس حدّة النقاش الحاصل بينهما حول أحقيته بمباشرة ملاحقات جزائية بحق القاضي المستقيل أو سواه من القضاة في ظل رفض وزير العدل لذلك، وتحديدا حول أحقيته بمطالبة مجلس شورى الدولة بإيداعه ملف التحقيق مع القاضي المذكور، وهي المطالبة التي تم الإعلان عنها في وقت سابق من دون أن يعرف فيما إذا تمت تلبيتها أم لا.
من هذه الزاوية، يظهر تعميم جريصاتي في كل أبعاده. فمنتهى التعميم ليس فرض قناعة بشأن آداب قضائية معينة وحدود حرية التعبير بالنسبة إليهم، بل قبل كل شيء إلزام القضاة بالصمت، تمهيدا لتجريدهم من امكانية الدفاع عن صلاحياتهم أو قناعاتهم بما يخالف توجهات الوزير. وبذلك، يظهر بوضوح أن "موجب التحفظ" للقضاة يرادف في ظروف معينة، تمكين وزير العدل من فرض الحقيقة، بالحدود التي يريدها من دون تجاوز. لحسن الحظ أن أصواتا كثيرة، من بينها صوت نادي قضاة لبنان، أعلنت صراحة أو ضمنا رفضها لهذا الواقع.
يتبع ثلاث حلقات بشأن: "استقالة قاضٍ مشتبه به بالإرتشاء"
مقالات أو أبحاث ذات صلة:
[1] المفكرة القانونية، دليل حول معايير استقلال القضاء، بيروت 2016.