“
الزواج والعمل المبكران
“وقتها ما كان في تلفونات لشوف صورته حتى” ترد أم بلال على اعتراض ابنتها على خطوبتها من شاب لم تره، ولو لمرة واحدة في حياتها. تقول أم بلال أنها تزوجت قبل 17 عاماً، وكانت في الرابعة عشرة من عمرها، من رجل لم تشاهده حتى عند “كتب الكتاب”. توكل والدها عنها أمام الشيخ. عندما نقلوها إلى منزل حماها، أجلسوها في غرفتها الزوجية وحيدة، وتركوا الباب مفتوحاً. صارت ترى رجالا يعبرون من أمام الباب، ولا تعرف أي منهم هو زوجها. تضحك اليوم حين تتذكر أنها تمنت أن يكون شاباً جميلا “صرت قول يا رب يطلع شاب حلو”. لكن أمنتيها لم تتحقق “كلهم مش حلوين هو وأخوته السبعة”. يومها دخل إلى الغرفة، أغلق الباب وراءه وقال لها “أنا زوجك”.
روت أم بلال قصتها على مسمع ابنتها لتبرر إقناعها لها بالزواج من شاب يعيش في سوريا، بينما تعيش هي في لبنان. سعاد، العروس، ستتزوج في موعد عيد الأضحى، وهي لم تبلغ الخامسة عشرة من عمرها بعد “عمري 14 سنة وكم شهر”. تفتح حقيبة جهاز العروس وفيه لفت الفساتين المتشابهة البراقة مع بعضها البعض “هيدا جهازي”. أرسل لها العريس مبلغ 500 دولار لتجهز نفسها. ماذا تعرفين عن الزواج يا سعاد؟. “ما بعرف شي” تقول، فتعترض شقيقتها وعمرها 22 عاماً “بلا كذب، أنا خبرتك من أسبوع”.
عُقدت خطوبة سلمى، شقيقة سعاد على إبن عمها قبل ثماني سنوات “كنا بعدنا بسوريا” وكان عمرها 14 عاماً. اندلعت الحرب، نزحت مع عائلتها إلى عكار، فيما غادر هو إلى الأردن. من يومها، لم تره أبداً. اليوم لم تعد تريد الزواج منه، فيما هو يرفض أن يتركها بحالها “بنت عمي وبدي أتزوجك” يقول لها برغم كل الخلافات التي تستعر بينهما يوميا على الهاتف “ما بحبه، وما بدي إياه”. قرار لم يحل دون توكيله عمه العام الماضي حيث تم “كتب الكتاب” في المحكمة تمهيداً للم الشمل في الأردن، ولم تستطع الرفض: “عاداتنا ما بتسمح لي، هيدا إبن عمي”.
تقول أم بلال التي قتل زوجها في سوريا، أنها غير قادرة على إعالة سبعة أولاد وحيدة “يتزوجوا أستر لهن” وفق ما تبرر قرارها بعقد خطوبة الفتيات بعمر 14 سنة. غير الكلفة المادية ترى أن “مستقبل البنت هو بيت زوجها”. أما الزواج المبكر فيجنبهن “الأمرّ منه”. وما هو الأمرّ يا أم بلال؟ “بس تصير البنت بالعشرين ما بيعود حدا يتزوجها، إلا الأرمل أو المطلق وعنده أولاده، أو بدها توقع ضرة على زوجة أخرى”.
هكذا ترى أم بلال حياة بناتها، ولذا هي تصر على تزويجهن الواحدة تلو الأخرى “زوجت وحدة، وعندي تلاتة مخطوبات، وهلأ يجي نصيب الرابعة بخطبها، وبس تصير بال 14 بزوجها”. الرابعة، بالكاد أتمت ال 12 من عمرها. تعمل فتيات أم بلال في الزراعة، “يعني مش أحسن ما يضلوا عايشين هون بهالخيمة”. ومع ذلك، فإن ابنتها المتزوجة قبل شهر من اليوم، انتقلت من خيمة أمها إلى خيمة زوجها “شو بعمل؟ حتى لو عاشت بالخيمة أحسن تكون مع زوجها”، وفق ما ترى. “بعدين الوضع صعب، من وين بدهم يجيبوا الشباب مصاري ليعمروا أو يستأجروا بيوت بلبنان؟”، تقول لتضيف “إذا بدنا نتشرط متل ما كنا نعمل بسوريا، ما حدا بيتزوج”.
هناك فرق واحد بين خيمة الأهل وخيمة العريس: تمت تغطية خشب الثانية بقماش “الساتان” الخاص بالعرائس.
الحال الهشة للفتيات السوريات وزواجهن المبكر لا يقتصر على اللاجئات إلى لبنان. ما بين سوريا ولبنان، تحاك قصص متشابهة في الظروف والعقلية وطريقة تفكير العائلات، والأهم الأمر الواقع. وفرح واحدة من هؤلاء.
الإمتاع ليلا والعمل نهارا وعنف منتظم…
بعد شهر واحد على نزوح عائلة أبو حامد من ريف حماه إلى ريف إدلب، جاءت سيدة خمسينية تزور العائلة مع إحدى الجارات. لم تطل السيدة الجلوس كثيرا قبل أن تطلب يد ابنتهم الثانية التي لم تكن قد بلغت 14 من عمرها “بدي أخطبها لأبني”. فرح، العروس المطلوبة لم ترد الزواج “ما كنت بعرف شو يعني زواج”. عندما غادرت المرأة، قال لها والدها “نحن بدنا نروح ع لبنان، بدي زوجك وإطمن عنك، ما بقدر إحملكم كلكن معي”. شهر و”تخفف” أبو حامد من ابنتين، فرح وميسلون، كبيرتي المنزل. ميسلون كانت في ال15 من عمرها أيضاً.
أم حامد أخذت فرح جانباً عندما بكت رافضة الزواج وقالت لها “مش شايفة أبوكي شو صعب وقاسي؟ يمكن يطلع لك ابن حلال تعيشي معه أفضل مني”. فعلاً كانت عينا أم حامد متورمتين ومزرقتين نتيجة العنف الذي مارسه عليها زوجها قبل يومين من خطبة ابنتها.
قبل زواجها بيومين، جاءت أم العريس واصطحبت معها فرح إلى منزلها. هناك أخبرتها عن “ليلة الدخلة، وشو بده يعمل لي زوجي”. لم تعلق فرح على كلام والدة خطيبها “وقفت، تركتها وركضت ع بيتنا”. ليلتها شعرت بخوف كبير “ما نمت قد ما خفت”.
بعد أسبوع واحد من خطبتها، تزوجت فرح من ميلاد (19 سنة) وسكنت مع أهله، بعدما دفع هؤلاء 400 ألف ليرة سورية لوالدها: “قبض عني وعن أختي التي تزوجت أيضا 400 ألف عن كل وحدة”. اشترى لها والدها غرفة نوم وبعض الأواني الزجاجية “بس أخدتهم مرات عمي”، تقول.
بعد عشرين يوماً من الزواج، تعرضت للعنف للمرة الأولى من زوجها. “كنت تعبانة من شغل البيت كتير، وقلت له ماني قادرة كون معه ليلتها” (في علاقة حميمة). ضربها بعنف، وتوقف عن الحديث معها لثلاثة أيام “حتى أنا جيت واعتذرت منه وصالحته”. تصالحت فرح مع زوجها لأن والدته قالت لها: “ما تخربي بيتك وحقه ينام معك ساعة ما بده”.
بعد زواجها بشهر واحد، أخبرها زوجها أن عليها أن تخرج إلى العمل مع أخوته البنات “بتشتغلي متلك متلهن”.
صارت فرح تصحى من النوم عند الخامسة والنصف صباحا وتعمل لغاية الظهر (الساعة 12) ثم تعود إلى المنزل لثلاث ساعات لتعود إلى وردية المساء “إرجع أحيانا خمسة أو سبعة، وهو بارك (قاعد) بالبيت”. يقبض زوجها ووالدته كل ما تجنيه من مال “وبس بدي إشتري أي شي بيقلي روحي خلي أهلك يشترولك، أخدوا منا مصاري لعطيونا اياك”.
تقول فرح أن وتيرة عنف زوجها تجاهها ارتفعت مع نزوح أهلها إلى لبنان “صرت وحيدة وما إلي سند”. لم تجرؤ يوما على رفض العلاقة الحميمة معه، حتى وإن كانت غير قادرة على الحركة “برجع من شغل نهار كامل بالأرض لإشتغل بالبيت وبالليل بدي كون جاهزة وممنوع ما لبي رغباته”. تقول أنها لم تكن تستمتع بالعلاقة معه “ما حبيته ولا نهار، وما حسيت إنه بدي إياه أبداً، وما كنت إنبسطت معه”.
بعد أربعة أشهر من زواجها حملت فرح. لم يحمِها حملها بطفلها الأول من العمل اليومي في الزراعة. كان جسدها صغيرا ونحيلاً، ولم تكن حالها النفسية جيدة، فوضعت طفلاً ضعيفاً ما لبث أن توفي بعد عشرة أيام من ولادتها.
بعد وفاة طفلها بشهرين، بدأ زوجها يعرضها على طبيبة نسائية “لأنك عاطلة ما بيلبق لك تجيبي أولاد” كان يقول لها. بقيت تتناول أدوية تساعدها على الحبل لمدة عام كامل من دون جدوى، وهو ما زاد تعرضها للعنف على أنواعه من زوجها وعائلته. أحياناً كانت والدة زوجها “تتلاطف” معها وتقول “الحبل من الله هي ما خصها”، لتهدئ من روع زوجها.
طالق بعمر 15 سنة
بعد عام ونصف على زواجها، أخبرت فرح أهلها بكل ما يحصل معها. قصدت والدتها ريف إدلب ودخلت في إشكال كبير مع زوج ابنتها حتى تمكنت من جلبها إلى لبنان معها: “إذا بتطلع من البيت بتعتبريها طالق”، قال لها. غادرت فرح منزلها بالفستان الذي تلبسه فقط لا غير. دفعت والدتها 700 دولار من أجل تهريبها عبر الجبال إلى البقاع.
اليوم عادت إلى العمل الزراعي في البقاع “ع القليلة عم إعطي المصاري لأهلي، مش للغربا وبيضربوني فوق تشغيلي”. تريد أن تتطلق، تقول بأسف “عمري 15 سنة ونص وبدي صير مطلقة”، تضيف. تتدخل والدتها “بكرا الله بيبعت لك إبن حلال أحلى منه”، وهي ترفع يديها نحو السماء.
تزويج القاصرات: الأسباب
تفيد أرقام التقييم الذي أنجزته مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تحت عنوان “تقييم الهشاشة لدى اللاجئين السوريين في لبنان 2017” أن هناك 22% من الفتيات اللاجئات تزوجن بين عمر 15 إلى 19 عاماً، وأن 18% من بينهن اقترن بشركاء يكبرهن ب 10 سنوات أو أكثر. وكذلك الأمر، بالنسبة للواتي تزوجن بين عمر 20 و25 عاماً. احتلت محافظة الجنوب أعلى نسبة للإناث المتزوجات من 15 إلى 19 سنة بنسبة 37%، تليها عكار (27٪) ثم الشمال (27٪). في المقابل، جاءت بعلبك الهرمل والبقاع في المرتبة الأدنى بنسبة 16%.
ترد لورنزا ترولي من وحدة الحماية في المفوضية أسباب الزواج المبكر لسببين رئيسيين: الوضع الاقتصادي الصعب الذي تمر به عائلات اللاجئين، والرغبة بضمان حماية الفتاة من أي خطر خارجي قد تتعرض له.
لا تغفل ترولي عادات العائلات وتقاليدهن والعقلية السائدة في الزواج المبكر قبل اللجوء ولو بوتيرة أقل، فهي تؤكد أن العائلات تعتقد أن تزويج الفتيات هو لصالحهن، ولمنحهن فرصة لحياة أفضل.
هذه المعطيات تتطابق مع ما خرجت به دراسة “محاولة فهم زواج الأطفال بين اللاجئين السوريين في لبنان” التي نشرتها منظمة “أبعاد” مؤخراً (تموز 2018). تقول سجى مخائيل المشرفة على الدراسة أن الباحثين بنوا العينة على 1346 شخص (ذكور وإناث). وكتب المشاركون لفريق الدراسة 1422 قصة. لم تشترط الدراسة أن يكون الزواج المبكر عنواناً للقصة أو مضموناً “بل اختار 40% من الذين أرسلوا قصصاً الزواج المبكر موضوعا لقصصهم”.
كان لافتاً بالنسبة لمخائيل أن نحو 95% ممن كتبوا قصصا حول زواج القاصرات اعتبروه غير محبب، وينظرون إليه بطريقة سلبية، ويدركون تأثيراته السيئة على الفتيات حاضراً ومستقبلاً “ومع ذلك يرتكبونه”، وهذا يعني “أننا نحتاج أن نعمل أكثر لنفهم الأسباب”، تضيف. وفق التحليل أيضاً، ربط الرجال الأسباب بالوضع المادي، فيما لحظت النساء حماية الفتيات كأحد الأسباب الرئيسية لتزويجهن، وكذلك موضوع التعليم، وهو ما لم يشر إليه الرجال نهائياً.
توضح نتائج الدراسة تغيّر ظروف الزواج بحد ذاته، فقد قال رواة القصص أن التعامل مع الزواج اختلف إذ كانوا يحتفلون بالعرس لمدة أسبوع، اليوم تنتقل العروس إلى خيمة أخرى. |
- نشر هذا المقال في عدد | 56 | تموز 2018، من مجلة المفكرة القانونية. لقراءة العدد انقر/ي على الرابط ادناه:
هل حقا نريد ردع الإتجار بالبشر؟ هل حقا نريد حماية ضحاياه؟
“