استصدرت مؤسسة بنكية أمرا بالدفع عن المحكمة الابتدائية بالمنستير ضد أحد حرفائها في طلب خلاص بقية مبلغ قرض يدين لها به فكان أن استأنف المحكوم ضده ذاك القرار. وقد تمسك في استئنافه بكونه لم يتخلف عن الإيفاء بالتزامه تقصيرا منه، ولكن بسبب فصله تعسفيا عن عمله بعدما بلّغ عن حالة فساد بالمؤسسة التي كان يشتغل بها. وإثباتا لذلك، أفاد المحكمة أنه استصدر على قرار من الهيئة الوطنية للفساد يمتعه بالحماية المستوجبة للمبلغين عن الفساد، بما سيمكنه من تسوية الخلاف بينه وخصيمته. وطلب استنادا لذلك الرجوع في الإجراء المتخذ في حقه.
عند نظرها النزاع بجلسة يوم 22-10-2018، استندت محكمة الإستئئناف بالمنستير إلى الوثيقة الصادرة عن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لتستخلص أن المستأنف طرد من عمله تعسفا بسبب التزامه بمكافحة الفساد. واعتبرت أن فقدان مورد الرزق انتقاميا يتولد عنه تعليق ديون المبلِّغ عن الفساد إلى حين إرجاعه لعمله وتسوية المتخلد بذمة مشغلته من مستحقاته، بما يوجب الرجوع في الأمر بالدفع المتنازع فيه.
وللوصول إلى هذه النتيجة، استندت المحكمة على فكرتين اثنتين:
الأول، أن واجب إقامة العدل المناط بالقضاء وفق الفصل 102 من الدستور يفرض عليها أن تبحث عند نظر المنازعات عن المقاصد التشريعية طلبا لتحقيق غاياتها،
ثانيا، أن فكرة التشاركية في مكافحة الفساد التي فرضها المشرع على كل مكونات المجتمع تفرض انطلاقا من ذلك، أن تتوسع حماية المبلغين عن الفساد لتشمل مظلّتها ديونهم تجاه الغير التي منعتهم إجراءات طالتهم من الإيفاء بها.
وكان أن إستأنست الهيئة القضائية التي صدر عنها هذا الحكم والمكونة من الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بالمنستير أحمد رزيق والمستشارين محسن الأكحل ونجوى رزق الله إلى فقه قضاء سابق للمحكمة الابتدائية بمكناس (2013) قضى بتعليق دين أحد الأشخاص إلى حين انتهاء عطالته عن العمل.
يقطع حكم استئناف المنستير في بنائه النظري مع التصور الكلاسيكي الذي يحصر الوظيفة القضائية في تطبيق القانون ويتبنى كبديل عنه تصورا حديثا يرى أن الوظيفة القضائية تتجاوز “قول حكم القانون” لتصل لفهم المنازعات في مختلف أبعادها وتنزيل الأحكام عليها في سياق يخدم قيم المجتمع الديمقراطي ويكون فيه القاضي حاميا لتلك القيم عاملا على تطويرها[1]. ويؤكد هذا الحكم في توجهه هذا تنامي النزعة التجديدية في الوسط القضائي التونسي بما ينسجم مع توجهات الانتقال الديمقراطي. كما يبرز في اعتماده أحكام الدستور واستئناسه بفقه القضاء المقارن في تسبيبه أن تطور القيم القضائية لا يمكن أن يتم بمعزل عن فكرة كونية حقوق الإنسان ومبادئ المجتمع الديمقراطي.
ويعدّ في هذا الإطار الاستشهاد بحكم صدر عن المحكمة الابتدائية بمكناس من المملكة المغربية بمثابة المناصرة بين قضاءين من ذات المنطقة يواجهان ذات تحديات تطوير دورهما.
ويهمّ “المفكرة” التي تعمل على تطوير تبادل الخبرات بين المحاكم العربية، أن تنشر هذا الحكم الرائد ليكون موضوعا لتفاعلهم.
[1] نزار صاغية، القاضي النموذجي في النظام القضائي اللبناني، شؤون القضاة في لبنان آفاق وتحديات، المركز اللبناني للدراسات، 1999.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.