أصدرت محكمة الاستئناف بصفاقس في تاريخ 24/1/2022 حكما اعتبرتْ فيه أن تكدّس النفايات في جهة صفاقس لمدد طويلة بنتيجة سوء الإدارة إنما يشكل اعتداء صارخا على الحقوق والحريات ومنها الحق في البيئة السليمة وأنه يكون لها بنتيجة ذلك “سلطة استثنائية” تمكّنها من اتخاذ إجراءات تنفيذية مستعجلة لغاية حمائية.
وقد صدر قرار المحكمة (المكونة من القاضي مراد كعنيش رئيسا وعضوية القاضيين سالم الفتوي وإيناس مشرية) هذا بمناسبة نظرها استئنافيا في قضية استعجالية رفعتها هياكل مهنية وشخصيات حقوقية ناشطة في صفاقس بهدف معالجة أزمة النفايات التي تفاقمت في هذه الجهة، بعدما أغلقتْ وكالة التصرّف في النفايات مصبّ تجميع النفايات القنة منذ 27-09-2021 وامتنعت البلديات جرّاء ذلك عن رفعها. وقد لجأ هؤلاء إلى محكمة الاستئناف مطالبين إياها بإلزام وكالة التصرّف في النفايات بتهيئة الفضاءات اللازمة لاستقبال النفايات، بعدما كان قاضي العجلة الابتدائي ردّ دعواهم بعلّة عدم اختصاصه للنظر في دعوى مقامة ضدّ الأشخاص العامّين. وبخلاف هذا الأخير، قبلتْ محكمة الاستناف الدعوى بعدما دوّنت أن هذا المشهد البيئي هو “فعل مادي سلبي تواصل في الزمن” و”مخالفة جسيمة للقانون والعقد بما ينذر بكارثة بيئية محققة”.. “ويشكل خطرا حقيقيا محدقا بالحقوق المراد المحافظة عليها” “ومنها جملة من حقوق الإنسان” والذي يجب درؤه من دون تأخير باعتباره يشكّل ضررا جسيما وحالا على مواطني المدينة وزوّارها”. وقد رأتْ المحكمة أنّ من شأن تمسكها بصلاحية النظر في الدعوى أن “يساهم … في إنفاذ العهود والمواثيق الدولية في مجال حقوق الإنسان..”.
يكتسي هذا الحكم أهميّة خاصّة لكونه يعكس اجتهادا قضائيا من أجل وضع الإدارات العامة أمام مسؤولياتها صونا لحقوق الناس بالصحة والبيئة النظيفة. وهو يستدعي ملاحظات عدة أبرزها الآتية:
أولا: تكريس نظرية الاعتداء المادي
أهم الملاحظات هو أن محكمة الاستئناف كرّست من خلال حكمها نظرية “الاعتداء المادي”[1] بصورة غير مسبوقة في تونس، وهي النظرية المأخوذة عن الفقه والاجتهاد الفرنسي والتي يصبح القضاء العدلي بموجبها مختصا للنظر في النزاعات المقامة ضدّ الأشخاص من القانون العام خلافا للقاعدة العامة التي تنزع هذه الصلاحية منه. وإذ أسست المحكمة بشكل مستفيض لنظرية الاعتداء المادي على الحقوق الأساسية (حقوق الإنسان المكرسة في المواثيق الدولية) مستعرضة تطور الأخذ بها في فقه القضاء المقارن، يلحظ أنها لم تكتفِ بتنزيل تلك النظرية بل توسعت في مفاهيمها من زاويتين:
الأولى، أنها اعتبرت تقصير الإدارة في الاضطلاع بدورها المرفقي فعلا ماديا سلبيا يخرج عن القانون في حين أنه من المتعارف عليه فقهيا أن المقصود بالفعل المادي تصرف إداري تمّ خارج سلطة القانون،
الثانية، أنها تجاوزت موقف القضاء الفرنسي الذي بات بعد القرار المبدئي لمحكمة التنازع المؤرخ في 17-06-2013 يقصر الحقوق التي يشملها الاستثناء في الحرية الفردية وحق الملكية، حيث أنها طبقت هذه النظرية لحماية الحقوق الأساسية ومنها الحقّ في بيئة سليمة والصحة وحقوق الأجيال القادمة.
ويذكر تمشّيها هذا بالقرار الذي صدر عن محكمة التعقيب التونسية بتاريخ 11/03/1980 تحت عدد 3784 والذي اعتبرت فيه أنه “ولين كان من وظائفها السهر على سلامة تطبيق القانون موضوعياً وإجرائياً إلا أنه ينبغي كذلك أن لا يغرب عنها أن الغاية من تشريع القواعد الإجرائية إنما قصد به أولاً وقبل كل شيء تأمين السبل الكفيلة بإعلاء الحق وتمكين صاحبه منه، أما إذا تعارضت القاعدة الإجرائية مع ذلك الحق وأصبحت في بعض الصور حائلاً دون تأمينه بل وسبباً في هدره وضياعه، فإنه يصبح من أوكد واجبات القضاء وهو الحارس الأمين على حقوق المتقاضين ألا تصدّه الإجراءات الشكلية عن تغليب المبدأ القاضي بأن الحـقّ يعلو ولا يعـلى عليه وأن ما بعـد الحـق إلا الـــضلال”.. لما فيهما من تحلل جريء من الضوابط الإجرائية”. وينتظر تاليا أن يكون هذا الحكم كما كان القرار التعقيبي من قبله موضوعا لنقاش قانوني ثري.
كما تجدر الإشارة إلى أن عددا من قضاة العجلة اللبنانيين ذهبوا في الاتجاه نفسه، في اتجاه قبول صلاحيتهم للتدخل لوضع حدّ لاستهتار الإدارات العامة في تشغيل مكبات النفايات؛ علما أن تطبيق نظرية الاعتداء المادي (التعدي في لبنان) تشهد تطبيقا واسعا من القضاء المستعجل اللبناني عند وجود تعديات على الصحة (التصدي للامساواة في توزيع اللقاحات) أو على الحرية الإعلامية أو على الحرية الشخصية.
ثانيا: انحياز المحكمة لتصور القاضي الحامي للحقوق والحريات
كشفت المحكمة في تعليلها (تسبيبها) التزاما بقيمة القاضي حامي الحقوق والحريات الذي يتصدّى لخدمة شعبه في مواجهة استهتار السلطة في القيام بوظائفها. ويؤشّر هذا الأمر على تمثل المحكمة التقدمي للوظيفة القضائية المنسجم مع منطوق الفصل 102 من الدستور. وهي جهدتْ في حكمها لمراكمة الوسائل التي قد تتيح للقضاء أداء هذه الوظيفة، من خلال التركيز على جملة الحقوق الأساسية التي انتهكتها أزمة النفايات في صفاقس والمكرسة في المواثيق الدولية، بالإضافة إلى إعمال نظرية الاعتداء المادي.
ويؤكد حضور هذه القيم في عمل القضاء أن جهد إصلاح القضاء الذي تم في ظل الثورة وبفضلها أثمر تطورا هاما في الوعي القضائي، وهو تطور جدّ مؤثر في البيئة المهنية. وما يزيد من أهمية هذا الموقف هو أنه يأتي في فاصل زمني يسعى فيه رئيس الجمهورية قيس سعيّد لتغيير هذه البيئة من خلال استباحة معايير استقلال القضاء (مرسوم حلّ المجلس الأعلى للقضاء) وصياغة تعريف جديد للوظيفة القضائية يجعل بموجبه القاضي أداة في يد السلطة السياسية لفرض هيمنتها على المجتمع.
ثالثا: حكم ذات طابع توثيقي
بعد أشهر من محاولة قضاء صفاقس فرض حلّ لها، ما زالت أزمة النفايات تراوح مكانها لما كان من فشل لسياسات الرئيس وحكومته الرامية لإيجاد حلول مؤقتة لها ولامتناع الإدارة عن الإذعان لحكم القضاء. وقد يكون لهذا الاعتبار من المهمّ التنبه لما كان في حكمها من تحديد للمسؤوليات وتشخيص للواقع الذي تعانيه عاصمة الجنوب التونسي بما يعطيه أهمية توثيقية قد تعوض بعض الشيء ما كان يجب أن يكون له من قوة نفاذ.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.