![اتهامية بعبدا تنخرط في مهرجان المادة 751: سلامة مجدّدًا فوق المحاسبة](data:image/gif;base64,R0lGODlhAQABAAAAACH5BAEKAAEALAAAAAABAAEAAAICTAEAOw==)
اتّخذت الغرفة الاتهامية في جبل بعبدا في تاريخ 26/12/2024 بالأكثرية قرارا بإبطال الادعاء الذي أقامته النائبة العامة الاستئنافية في جبل لبنان غادة عون ضده على أساس تزوير قيود مصرف لبنان والتلاعب بها. وقد برّرت الأكثرية موقفها بأن سلامة كان خاصم الدولة على خلفيّة أعمال النائبة العامّة عون قبل ادّعائها ضده، مما يجعل هذا الادّعاء باطلا طالما أن المادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية تمنع القاضي القيام بأيّ عمل يتّصل بالمدّعي إلى حين النظر في جدية مطلبه من الهيئة العامة. وقد صدر القرار عن أكثرية المحكمة المكوّنة من رئيس الغرفة ربيع الحسامي والمستشارة زينة حيدر أحمد، فيما دوّنت المستشارة الثانية أنياس معتوق رأيا مخالفا على هذا القرار جاء فيه أن النيابة العامة هي أصلا ودائما خصم في الدعوى ولا يجوز بالتالي إقصاؤها عن تحريك دعوى الحقّ العامّ ما لم تقرّر الهيئة العامة هذا الأمر، وبخاصة أن المادة 749 تعطي هذه الهيئة وحدها إمكانية وقف تنفيذ القرارات المشكو منها.
هذا القرار يستدعي الملاحظات الآتية:
- إنه يشكّل شاهدًا آخر على المنحدر العبثي الذي أخذته دعاوى مخاصمة الدولة على أساس المادة 751 منذ تعطيل نصاب الهيئة العامة لمحكمة التمييز في بداية 2022، تبعا لتقاعد أكثر من نصف أعضائها من دون تعيين بدائل عنهم. فلئن كانت “مخاصمة الدّولة على خلفيّة أعمال القضاة” تؤدّي، عملًا بهذه المادة، إلى كفّ يد القضاة المشمولين بها عن النظر في القضيّة المعنيّة لفترة قصيرة بانتظار بتّ الهيئة العامّة لمحكمة التمييز في مدى جدّيتها، فإنّها باتتْ بعد فقدان هذه الهيئة نصابها، تؤدّي إلى كفّ أيديهم بصورةٍ شبه دائمة، أقلّه بانتظار إتمام التعيينات في رئاسات محكمة التمييز بموجب تشكيلات جديدة، وهو حدثٌ ما برحنا ننتظره منذ أكثر من 3 سنوات ولا يوجد أيّ مؤشّر على حصوله في المستقبل المنظور. وبفعل ذلك، تحوّلت دعوى مُخاصمة الدّولة من دعوى استثنائيّة، يتمّ اللجوء إليها فقط في حالات وجود “خطأ جسيم” وهو في طبيعته نادر الحصول، إلى مجرد إجراء شكليّ يؤدّي، بمجرّد تقديمه، إلى تعطيل الملاحقات والتحقيقات القضائية بصورة شبه دائمة، من دون الحاجة لإثبات أي شيء. وفيما تمّ استخدامها أوّلًا من أجل تعطيل التحقيقات في قضية المرفأ، فإنّ نجاحها التعطيلي سوّق لها في أوساط المحامين الذين سارعوا إلى استخدامها في مجمل القضايا الهامّة اجتماعيًا. ومن المفيد أن نعلم هنا أن رياض سلامة قد حقق حتى الآن رقما قياسيّا في اللجوء إلى هذه المادة، بحيث استخدمها تباعا ضد النيابات العامّة التمييزية والمالية فضلا عن النيابة العامّة الاستئنافية في بيروت وجبل لبنان، على حدة. كما استخدمها ضدّ 3 هيئات للهيئة الاتهامية في بيروت.
- إنه يشكل شاهدا آخر على الانقسام الحاصل داخل القضاء بين اتجاهين:
- اتجاه ما يزال غالبا وهو الاتجاه الذي يمثله النائب العام التمييزي جمال الحجار ويتماهى مع موقف رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وهو يعدّ أنّ مجرد تقديم دعوى المخاصمة بحقّ قاضٍ ما يؤدّي إلى كفّ يده بصورة فورية من دون أن يكون له حق اتخاذ أي قرار. وهو الاتّجاه الذي اعتمدتْه أكثرية الهيئة الاتهامية في جبل لبنان لتنتهي إلى إبطال الادعاء الذي حركته عون ضد سلامة في تاريخ لاحق لتفديم دعوى المخاصمة.
- واتجاه ثانٍ ما يزال أقلويّا، وهو يتكوّن من قضاة باتوا يعُون تماما الاستخدامات العبثية لهذه المادة والتي تحولت في ظل تعطيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز بمثابة جواز للإفلات من العقاب من شأنه أن يؤدّي عمليّا إلى تقويض السّلطة القضائيّة ومبدأ فصل السّلطات ومعهما حقّ التقاضي، وكلها قيم ذات قوّة دستورية. هذا الاتجاه عبرت عنه بشكل خاص النائبة العامة الاستئنافية عون مذكرة بعدم جواز كفّ يد النيابة العامة التي هي أصلا خصم في الدعوى، بل ذهبت إلى حدّ رفض تبلّغ دعاوى المخاصمة درءا للذرائع مما تسبب لها بصدور قرار تأديبي (ما يزال غير مبرم) بصرفها من الخدمة. وهذا أيضا ما عبر عنه المحقّق العدليّ طارق البيطار بعدما حرر نفسه كقاضٍ عدلي من أدوات التعطيل المستخدمة بكثرة ضده، وبشكل خاص من دعاوى المخاصمة. وهذا هو الاتجاه الذي اعتمدته القاضية أنياس معتوق في رأيها المخالف، مؤكدة أن النيابة العامة تبقى خصما دائما في الدعوى ولا يجوز إقصاؤها إلا بقرار من الهيئة العامة لمحكمة التمييز.
ويستند هذا الاتجاه إلى أساسين قانونيين:
الأول، أنه اتجاه ضروري لوضع حدّ لحالة بلغت من العبث مستوى لم يعد من الممكن قبوله قانونًا. فهذه المادة تستمدّ معناها من قدرة الهيئة العامة لمحكمة التمييز النظر في مدى جديتها ضمن مهل قصيرة. فإذا تعطلت هذه الهيئة، فإن تطبيقها على النحو الذي يحصل يؤدي عمليا إلى نتائج عبثية تماما قوامها تخويل أي مدعى عليه تعطيل أي دعوى ضدّه ومعه دور السلطة القضائية وحقوق التقاضي لخصمه. فما هو الأبدى؟ تطبيق نص في قانون أصول المحاكمات المدنية بصورة عمياء رغم تغير ظروف انطباقها تماما أم تغليب أسس النظام الديمقراطي الذي لا يمكن تصوره من دون سلطة قضائية ومبدأ الفصل بين السلطات وحقوق التقاضي؟ من منظار حقوقي، لا نجد أي مجال للشك في وجوب تغيب أسس النظام الديمقراطي.
الثاني، أنه من البدهي وفق اجتهاد راسخ للهيئة العامة لمحكمة التمييز (قبل تعطيلها) قوامه عدم جواز تقديم دعوى مخاصمة ضد قرارات النيابة العامة وكما ضدّ أي قرارات غير مبرمة. (مثال على ذلك: القرار رقم 119/2016 والذي رد طلب المخاصمة بشأن ورقة طلب صادرة عن نيابة عامة جبل لبنان حيث جاء حرفيا: “وحيث أن مداعاة الدولة بشأن المسؤولية الناجمة عن أعمال القضاة العدليين هي طريق طعن استثنائي يلجأ إليه عند استنفاد الخصوم لسائر طرق الطعن الأخرى، بحيث يتناول الطعن حكما قضائيا يحوز على الصفة المبرمة، وحيث أن ورقة الطلب التي تنظمها النيابة العامة لا تحوز صفة القرار القضائي المبرم الذي يمكن أن يشكل موضوع مداعاة الدولة لمسؤوليتها عن أعمال القضاة العدليين أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز” وأيضا القرار رقم 126/2016 المتصل بدعوى أتعاب أحد المحامين، حيث ردت الهيئة العامة هنا أيضا دعوى المخاصمة على أساس أن القرار المطعون فيه غير مبرم طالما أنه “لا يزال عالقا أمام محكمة الاستئناف وفق ما هو مبين أعلاه، فيكون شرط الانبرام غير متوافر فيه”. فأن تكون دعوى المخاصمة مردودة بداهة وفق الاجتهاد الراسخ للهيئة العامة لمحكمة التمييز إنما يدعو القضاة من باب أولى إلى ممارسة حقهم في الاجتهاد لوقف العبث.
أما أن أكثرية الهيئة الاتهامية فعلت خلاف ذلك، فإنها بذلك تحوّلت إلى شريك في تعطيل القضاء، وهو أمر جدّ مؤسف. فلنتابع.
متوفر من خلال: