في 21-9-2014، وُقّع اتفاق السلم والشراكة الوطنية في اليمن لتسوية الأزمة بين الحوثيين (أنصار الله) والسلطة والمكوّنات السياسية. وقد اشتمل الاتفاق على سبعة عشر بنداً وورد في البند السادس منه أن على الرئيس ممارسة صلاحياته الدستورية لضمان تمثيل عادل لجميع المكوّنات السياسية في الهيئات التنفيذية، ووجوب ضمان المشاركة العادلة في الهيئات القضائية بما يتوافق مع مخرجات مؤتمر الحوار الوطني[1]. وقد فرض هذا الاتفاق واقعاً جديداً قلب جميع الحسابات، وبه وضعت الحرب أوزارها، وشرع الساسة رسم خريطة جديدة للعملية الانتقالية. والواقع أن النص على الهيئات القضائية وإفرادها ببند كامل في هذا الاتفاق أمر في غاية الأهمية بعد ما شهده القضاء من محاصصة للأحزاب المشاركة في السلطة عقب المبادرة الخليجية في 2012. محاصصة ما بعد المبادرة الخليجية
تبعاً للمبادرة الخليجية، سادت سياسات المحاصصة بين المكوّنات الجديدة للسلطة. وانطلاقاً من ذلك، استحوذ حزب الإصلاح الإسلامي على نصف مقاعد مجلس القضاء عبر تعيين شخصيات قضائية لم يثنها عملها القضائي عن التلويح بانتمائها لتياره السياسي، وأُبقي على النصف الآخر من شاغلي رئاسة الهيئات القضائية كمحسوبين على النظام القديم، حزب المؤتمر، ومنح رئيس الجمهورية حق تسمية رئيس مجلس القضاء من القضاة المقربين اليه. وقد نتج من ذلك انقسام حاد داخل المجلس أثّر سلباً على عمله وواجباته، وما انفك الولاء السياسي المعيار الوحيد للترقيات والتعيين، وخضع المجلس للإملاءات وأصبح عاجزاً عن انتشال السلطة القضائية من واقعها، بل زاد في إضعافها وتدمير استقلالها. وضربت مدخلات معهد القضاء في مقتل من خلال قبول دارسين من جامعات أهلية حزبية لا تتوافر فيهم أبسط شروط القبول، ولم يسبق لهم دراسة مقررات القانون.
وقد نجحت المحاصصة آنذاك في إجهاض الاتفاق الذي كان القضاة قد تمكنوا من تحقيقه تبعاً لحراكهم مع رئيس الجمهورية في 2012 على صعيد ضمانات الاستقلالية (اختيار إدارة مستقلة قوية وفقاً لمعايير الكفاءة والنزاهة ولا ترتهن لإملاءات أي سلطة أو جهة سياسية، ومنح القضاة الحق في ترشيح ثلاث شخصيات قضائية لكل منصب قضائي وفقاً لهذه الأسس).
والسؤال الملح الذي يُطرح هنا يتصل بما قد ينتج من الاتفاق الجديد (اتفاق السلم والشراكة الوطنية). فهل تستمر المحاصصة تحت تسمية المشاركة مع تغيير هوية أصحاب الحصص، أم يتحوّل مبدأ المشاركة على العكس من ذلك الى ضمانة لاستقلال القضاء منعاً للتهميش والإقصاء في مختلف أشكاله؟
مفهوم المشاركة؟
كما سبق بيانه، ميز الاتفاق لجهة تحديد شروط الشراكة. ففيما أخضع الهيئات التنفيذية للتمثيل العادل من جميع المكوّنات السياسية، أخضع بالمقابل الهيئات القضائية لمبدأ المشاركة العادلة وفقاً لما نصت عليه مخرجات الحوار الوطني.
ولا ريب في أن الفرق شاسع بين مصطلحي التمثيل العادل والمشاركة. فالأول يعني الشراكة السياسية والتوزيع المتناسب للسلطة بحيث تقوم العلاقة على مبدأ تقاسم السلطة، وفقاً للمصلحة والفائدة التي تعود لقاعدة التأييد لكل من الحكومة والحزب والحركة، كونها المحرك الأساسي لسلوك القوى السياسية. وقد تتطابق الشراكة مع المصلحة الوطنية العامة في ظروف معينة، لكنها في جميع الأحوال لا تعدو أن تكون تحالفاً سياسياً يمثل المصلحة الوقتية للأطراف الداخلة فيه، وتتحدد سلطة كل طرف حسب وزنه وأهميته لاستمرار هذا التحالف. ومثل هذا التحالف لا يعمّر إجمالاً طويلاً ويكون في أضعف حالاته عندما تكون المواقف المبدئية للأطراف المكونة له متناقضة ومصالحها متعارضة.
أما المشاركة، فمصطلح مختلف لا يرتبط بالوصول إلى سلطة تنفيذية معينة أو الحصول على منفعة محسوبة، بل تعني حق الجميع في صنع القرار بالمعنى الأشمل[2]، بحيث يكون للمشارك صوت مسموع في الشأن العام، لا في السلطة التنفيذية حصراً، وهي ركيزة للعمل الديموقراطي إذ يستطيع الفرد أو الجماعة المشاركة حتى من موقع المعارضة.
ولذلك لا بد من فهم الشراكة (التمثيل) على أنها وسيلة للاستحواذ على السلطة أو التعبئة للوصول إليها، بينما تفهم المشاركة على أنها محاولة لإشراك الجميع في صناعة القرار عبر قنوات متعددة. وإذا كان المسلّم به أن الهيئات القضائية تعاني من الشراكة السياسية والتقاسم والمحاصصة؛ فإن آلية تصحيح هذه المعضلة عبر المشاركة التي نص عليها الاتفاق الجديد ينبغي أن يفهم على وجوب منح هذه الهيئات صلاحياتها الدستورية، والإيمان باستقلال قرارها وعملها وعدم ارتهانها لأي سلطة أخرى، ودعمها لتصحيح وضعها الراهن على نحو يمنع تلقائياً أي تهميش أو إقصاء من أي نوع كان. ولا ريب في أن هذا الأمر يفرض إعادة النظر في هوية الأشخاص الذين يقودون هذه الهيئات، لا سيما أن صمت هذه القيادات خلال الفترة الماضية إزاء اعتبارها محسوبة على جهات سياسية خلع عنها تماماً ثوب الحياد والتجرد والاستقلال. ولا بد من إحلال قيادة جديدة تتمتع بالمعايير الموضوعية التي يتطلبها كل منصب قيادي في القضاء، ويجب التسليم بأن المعنيين بإقرار هذا الأمر هم بالدرجة الأولى مجموع القضاة كمكوّن للسلطة الثالثة.
إلا أن ما يثير المخاوف هو أن تسعى الأطراف السياسية الى فرض فهم مختلف لهذا البند، بحيث يفضي الى إعادة مسلسل المحاصصة الحزبية. وهذا ما ينبغي التنبه له قبل فوات الأوان، ولا سيما من قبل القضاة.
دور القضاة في إنهاء المحاصصة السياسية
يحكم السلطة القضائية مبدأ هامّ وهو أن القضاة لا يقبلون العزل من مناصبهم إلا إذا كان العزل عقوبة. وفيما يمكن تعيين قيادات جديدة مستقلة لرئاسة الهيئات القضائية ذات الاختصاص الإداري، فإن الهيئات القضائية الأخرى تبقى عصيّة على التغيير بموجب اتفاق سياسي. ومن ثم، فإن سعي أي طرف سياسي الى تغيير عضوية الهيئات القضائية بحجة نقض المحاصصة الحاصلة سابقاً، لا بد أن يولّد ممانعة ورفضاً وتشكيكاً عميقاً بالنيات الإصلاحية لهذا الطرف.
وتجنباً لهذه الآثار السلبية، يرجح أن تلجأ القوى السياسية الى تنفيذ غاياتها بفرض محاصصة جديدة، الى التحايل على مبدأ عدم عزل القضاة عن طريق الإبقاء على بعض القيادات القضائية، والضغط على أخرى لإرغامها على تقديم استقالتها من خلال ترغيبها بإعادة تعيينها في مناصب تنفيذية أخرى، كما حصل مع الأمين العام لمجلس القضاء ورئيس هيئة التفتيش وعميد المعهد آنذاك، أو تعيينها في جهات أخرى مباشرة وإحلال بديل منها.
ومن هنا، ضرورة أن يبقى القضاة متيقظين إزاء أي انتقاص لاستقلال القضاء من هذا النوع والعمل خلال الفترة المقبلة لاستعادة زمام المبادرة وإيجاد أدوات جديدة لانتشال القضاء من واقعه، ولا سيما أنهم نجحوا في 2013 في تفعيل ناد قادر على جمعهم وتوحيدهم.
وقد يكون من المناسب الدعوة لعقد اجتماع استثنائي للجمعية العمومية لنادي القضاة بدل اللجوء الى الشارع والاعتصامات. ففي استطاعة الجمعية إذا شاءت، فرض سلطانها على الجميع إن أرادت تحديد المعايير المناسبة لشغل رئاسة الهيئات القضائية، واختيارها بالانتخاب الحر والمباشر. وبمقدورها لهذه الغاية أن تستند الى مخرجات الحوار الوطني والى المبادئ العالمية والمواثيق الدولية بشأن استقلال القضاء والتي تفترض أن يتم انتخاب القيادات القضائية من قبل القضاة أنفسهم.
ويتطلب هذا الأمر سرعة القيام بذلك بأسلوب مجسد لرقي هذه الفئة ويتفق مع مكانة القضاء ورجاله ورسالته السامية، قبل أن تستغل الاتفاق القوى السياسية للإبقاء على القيادات المحسوبة عليها، وتطعيم المجلس بمن لم يمثل من المكوّنات السياسية. وبالخلاصة، أمكن القول إن هذا البند لا يمكن تنفيذه إلا بناءً على هذا الحل، إن كنا نؤمن بضرورة وجود قضاء مستقل وقوي ضامن للحريات والحقوق خلال الفترة الانتقالية ونواة لما بعدها وطي صفحة الماضي الى الأبد.
نشر هذا المقال في العدد | 22 |تشرين الأول/أكتوبر/ 2014 ، من مجلة المفكرة القانونية | لبنان |. لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.