من الصفحة الرسمية للاتحاد العام التونسي للشغل.
في سابقة خطيرة من نوعها، قامتْ قوّات الأمن مساء الثلاثاء 31 جانفي 2023 بإيقاف الكاتب العام لنقابة شركة تونس للطرقات السيّارة أنيس الكعبي، إثر خطاب رئيس الجمهوريّة من ثكنة العوينة والّذي تهجّم فيه على الاتّحاد العام التونسي للشغل واتّهمه “بالتآمر على الدولة” و”قطع الطرق” داعيا إلى “معركة تحرير وطني” حتّى يتمّ تطهير البلاد من الخونة والمتآمرين. يتأتّى هذا التصعيد الخطير والّذي اُتبع بإحالة على التحقيق في حقّ عدد آخر من النقابيين كالكاتب العام للجامعة العامّة للنقل، في إطار ردّ الفعل على مبادرة الإنقاذ الّتي أعلن عنها الاتّحاد رفقة عدد من المنظّمات الوطنيّة (الرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان، عمادة المحامين والمنتدى التونسي للحقوق الإقتصاديّة والإجتماعيّة) والّتي لم تتّضح معالمها وأهدافها السياسيّة بعد، ممّا ينذر بمواجهة محتدمة بين الاتّحاد والسلطة.
كسابقاتها من فترات الأزمات، يتحتّم على الاتّحاد في ظلّ الأزمة الحالية الّتي تمرّ بها تونس منذ 25 جويلية 2021، أن يكون فاعلا في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين سواء داخل المعارضة أو بين هذه الأخيرة والسلطة القائمة. إلّا أنّ المنظّمة النقابية العريقة، ولئن خرجت منتصرة في أغلب مواجهاتها مع منظومات الحكم المتعاقبة منذ الاستقلال، مؤكّدة دورها كـ “أكبر قوّة في البلاد” كما يردّد مناصروها ومنخرطوها، لا تبدو قادرة على حسم أمر هذه المواجهة بعد، وذلك نظرا لخصوصيّة المرحلة، سواء من حيث التوازنات الداخلية ضمن المنظمة الشغيلة أو من حيث موقف الرئيس المثير للجدل ممّا يسمّى بالأجسام الوسيطة.
وإذا ما اعتبرنا السياسة حلبة يتصارع فوقها -مجازا- الفاعلون الاجتماعيّون لأجل افتكاك السّلطة أو التأثير على ممارستها، فإنّ تتبّع ركائز واستراتيجيات أطراف الصّراع يكتسي أهميّة بالغة إذا ما أردنا تحليله سواء من وجهة نظر العلوم السياسيّة أو من وجهة نظر التعليق على الشأن السياسي التونسي. لذا سنحاول تباعا التوقّف عند الركائز الّتي يتمتّع بها الإتّحاد وتمكّنه من التمايز عن بقيّة القوى السياسيّة والاجتماعيّة كما سنتتبّع تطوّر موقفه من التطوّرات السياسيّة منذ 25 جويلية 2021 قبل أن نتعرّض الى التحديّات الّتي يواجهها داخليّا وخارجيّا والّتي من شأنها أن تشكّل عائقا في الصّراع القائم مع السلطة والرئيس.
الاتّحاد: الثابت الوحيد في الحياة السياسيّة منذ الاستقلال
يتمتّع الاتّحاد العامّ التونسي للشغل بركيزتين أساسيّتين لا يتمتّع بهما غيره، ركيزتين كثيرا ما ساهمتا في تعزيز موقعه في علاقته بالسّلطة ومكّنته من الصمود أمام كلّ الرياح الّتي عصفت بالتشكيلات السياسيّة والمحافظة على دوره كفاعل سياسيّ وازن ومحدّد للاستقرار السياسي والحكومي الّذي كثيرا ما كان مقرّه نهج محمد علي.
أولى هذه الركائز هي العدد الكبير لمُنخرطيه وبالتّالي قدرته الّتي لا تضاهى على التعبئة الاجتماعية. لقد كانت هذه القدرة سلاحا بيد الاتّحاد تهابه الحكومات خصوصا لمّا يتعلّق الأمر بالاتّفاق مع صندوق النقد الدولي الّذي يشترط في كلّ مرّة التزاما من طرف المركزيّة النقابيّة. من جهة أخرى، ولئن لا يصرّح الاتّحاد بذلك، فإنّ التحرّكات الاجتماعية والقطاعية كثيرا ما ارتبطت بالتوازنات بين الاتّحاد والحكومة. لسنا هنا بصدد التشكيك في مشروعيّة هذه التحرّكات الّتي تنبع حتما من واقع اقتصادي ما فتئ يتردّى طيلة السنوات الأخيرة. ولكن لا يمكن في ذات الوقت التغاضي عن الشحنة السياسيّة الّتي تحملها عديد الإضرابات والّتي كانت محدّدة في شدّة وطأتها أحيانا كثيرة.
أمّا الخاصيّة الثانية الّتي يتميّز بها الاتّحاد فتتعلّق بمشروعيّته النضاليّة والتاريخيّة بالإضافة الى تمنّعه عن المشاركة المباشرة في الحكم رغم العروض المتتالية وما يشاع عن حقائب وزاريّة ستمنح له خصوصا في حكومات الوحدة الوطنيّة أو حكومات الإنقاذ الوطني (الّتي لم ترَ النور). لقد لعب الاتّحاد العام التونسي للشغل منذ تأسيسه في 20 جانفي 1946 دورا مفصليّا في معركة التحرير الوطني الّتي أفضت إلى استقلال البلاد في 1956. و إثر الاستقلال، تراوحتْ علاقة الاتّحاد بالسلطة بين التعاون والصراع، علاقة أطلق عليها الباحثون “جدليّة الصراع والتعاون”. [1]coopération conflictuelle فكما ساهم الاتحاد في بناء الدولة الوطنية وفي فرض برنامجه الاقتصادي في الستينات في فترة التعاضد، كان في الصفوف الأولى لمواجهة الانحرافات السلطوية لنظام بورقيبة، مواجهات كانت في أحيان عدّة دامية لعلّ أبرزها أحداث 26 جانفي 1978 المسمّاة بالخميس الأسود أو انتفاضة الخبز في جانفي 1984. ورغم محاولات نظام بن علي وضع يده على المركزية النقابية وخلق شبكة ولاءات في “تسوية تاريخيّة”[2] بين الدولة ورأس المال من جهة والحركة النقابيّة من جهة أخرى، مثّل الاتحاد حصنا يحتمي به المعارضون وأحد الفضاءات الآمنة الّتي يمكن فيها ممارسة السياسة دون خوف من الملاحقات أو المضايقات الأمنيّة. وهو ما يفسّر الاستعارة المتداولة “خيمة الاتّحاد تضمّ الجميع”. ولا يُخفى عن المتابع للشأن السياسي التونسي منذ 2011 الدور المحوري للاتحاد العام التونسي للشغل كفاعل سياسي كان حاضرا في كلّ المحطّات النضاليّة والتوافقيّة الّتي عرفها الانتقال الديمقراطي. فعلاوة على دوره الحاسم في التعبئة ضدّ نظام بن علي، كان الاتّحاد في الصفوف الأولى المقاومة لتجاوزات الترويكا وكان له الوزن الأهم في الرباعي الراعي للحوار الوطني لسنة 2013-2014 الّذي جنّب البلاد التصادم بين مناصري الحكومة ومناوئيها آنذاك بالإضافة إلى مشاركته في إعداد وثيقتي قرطاج 1و2، بقطع النظر عن التقييم السياسي لنتائج هذه المبادرات.
من تذبذب الموقف إلى أخذ زمام المبادرة
وبالعودة إلى الواقع الآني، تأمل قوى المعارضة الديمقراطية، أمام تراجع شعبيّة الأحزاب، أن يكون الاتّحاد لاعبا قادرا على قلب الأوضاع ودفع الرئيس إلى التراجع عن مشروعه السلطوي والقبول بحوار يفضي إلى عقد اجتماعي جديد يعيد البلاد إلى الشرعيّة الدستوريّة ويرسي مؤسّسات ديمقراطية دائمة مع محاسبة الفساد المرتكب خلال فترة الانتقال الديمقراطي. إلاّ أنّ تشتّت المعارضة من جهة وتباين راديكاليّة مواقفها يرافقه تململ من طرف الاتّحاد في التعبير عن موقف صريح من المسار الّذي اتخذه الرئيس، وهو ما يدفعنا إلى البحث عن الأسباب الّتي تقف أمام هذا التململ. لكن قبل ذلك يجدر بنا العودة إلى التطوّر التدريجي الّذي عرفه موقف الاتّحاد منذ 25 جويلية 2021.
في بيان مكتبه التنفيذي الصادر يوم 26 جويلية 2021، ذكّر الاتّحاد العامّ التونسي للشغل بتفشّي الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الّتي عاشتها البلاد طيلة العشريّة الفارطة وحمّل مسؤوليتها “للوبيات متنفّذة وأطراف استباحت الحقوق والبلاد” وشدّد على “ضرورة تحميل المسؤوليات” من أجل “إنهاء الحقبة”. من جهة أخرى، أقرّ البيان بضرورة تقديم ضمانات دستوريّة للإجراءات الاستثنائيّة الّتي اتّخذها الرئيس حتّى لا تتحوّل هذه الأخيرة إلى إجراءات دائمة وطالبه بتقديم خارطة طريق مذكّرًا إياه بضرورة احترام الحقوق والحريّات.
ومع التذكير بضرورة الإعلان عن خارطة الطريق، ندّد الاتّحاد يالأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 الّذي اعتبره أمينه العام المساعد بمثابة خطوة خطيرة تفتح الباب أمام حكم الفرد. كما تميّزت التصريحات الصادرة عن القيادات النقابيّة بارتفاع تدريجيّ في حدّتها واشتدّت الانتقادات الموجّهة للحكومة في علاقة بفشلها في إدارة الملفّات الاقتصاديّة والاجتماعيّة العاجلة وتلكّئها في تفعيل الاتفاقيات العامّة والقطاعيّة. كما ندد الاتحاد بالمنشور عدد 20 لسنة 2021 الّذي يقضي على الوزراء بالتنسيق مسبقا مع رئاسة الحكومة قبل الشروع في التفاوض مع النقابات، وصولا إلى التصريح الشهير للأمين العام نور الدين الطبوبي: “تريدونها معركة ازدهار سنكون في المقدّمة وإذا أردتموها معركة كسر عظام فنحن لها”.
ومع الإعلان عن مشروع الدستور الجديد في 30 جوان 2022، توجّه الاتحاد بانتقادات حادّة لمضامين النصّ. ولم تنجح المراجعات الّتي قام بها الرئيس بعنوان إصلاح الأخطاء “الّتي تسرّبت إلى المشروع”، على الرغم من استحسان الاتحاد لها، في تغيير موقفه، بما أنّها “لم تعالج الإخلالات الأساسية المتعلّقة بدولة القانون و مدنيّة الدولية والديمقراطيّة والفصل بين السلط”. لكنّ هذا الموقف النقدي لم يترجم سياسيّا، حيث منح الاتحاد مُنخرطيه حريّة الاختيار للتصويت بنعم أو لا في الاستفتاء الّذي تمّ تنظيمه في 25 جويلية 2022.
لا نحتاج إلى العودة إلى جميع التصريحات والبيانات والمواقف الرسميّة وغير الرسميّة، كي نلاحظ أنّ موقف الاتّحاد تطوّر تدريجيّا وازداد حدّة منذ 26 جويلية 2021 وصولا إلى اليوم (فيفري 2023). وهذا ما بات جليا إثر “الحرب” الّتي أطلقها الرئيس كردّة فعل على المبادرة الّتي أطلقها الاتّحاد ودعا فيها للحوار رفقة عمادة المحامين والرابطة التونسيّة للدفاع عن حقوق الإنسان والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة. فإثر اجتماع الهيئة الإداريّة القطاعيّة، أصدر الاتّحاد بيانا ندّد فيه باعتقال الكاتب العامّ لنقابة الطرقات السيّارة معتبرا التصريحات الأخيرة لرئيس الجمهوريّة بمثابة مقدّمة لضرب العمل النقابي ورفضه القطعي خطاب التخوين واستهداف الاتحاد.
لكن، وعلى الرغم مما يتّسم به هذا البيان من شدّة في ظاهره، فإنّه لم يخل من لغة إنشائيّة فيما عدا الإشارة إلى تحرّكات جهوية وقطاعيّة ووطنيّة “سيعلن عنها في إبّانها”، بالإضافة إلى تجديد التأكيد على تمسّكه بالحوار كسبيل وحيد للخروج من الأزمة.
من جهة أخرى، اتّسم تصريح الأمين العام في افتتاح ذات الاجتماع بنبرة تصعيديّة أشدّ من تلك الّتي أتت في البيان. إذ هاجم رئيس الجمهوريّة رأسا واتّهمه بالاستئثار بالسلطة وبأنّه نصّب نفسه قاضيا واستنكر مخاطبته للشعب من ثكنات الجيش واعتبر أنّ إيقاف الكاتب العام للنقابة ليس إلّا محاولة لتحجيم الاتّحاد بسبب رفضه إصلاحات صندوق النقد الدولي وتقدّمه بمبادرة حواريّة بالإضافة الى تأكيده على “فشل” المسار الّذي سطّره الرئيس ودليل ذلك “مقاطعة” الشعب التونسي للانتخابات التشريعيّة في دورتيها.
الاتّحاد بين مطرقة السلطة وسندان الانقسام
يبدو أنّ التصعيد والتخفيف من حدّة اللهجة سياسة اختار الاتّحاد أن يتبنّاها منذ أن بدأت تتضح المعالم الحقيقية لـ”مسار 25 جويلية”. فمواقف الاتّحاد قد تختلف بين البيانات والتصريحات الإعلاميّة من جهة وبين تصريحات القيادات نفسها من جهة أخرى. كيف يمكن تفسير هذا التباين؟
من الممكن أنّ الاتّحاد لا يريد غلق أبواب التفاوض مع السلطة بل يريد فقط أن يدفعها نحو بعض التنازلات خصوصا فيما يتعلّق باتفاقيّات صندوق النقد الدولي مع إمكانيّة لعب دور الوسيط وتقريب وجهات النظر بين المعارضة “المعتدلة” أي تلك الّتي لا تدعو إلى رحيل الرئيس بقدر ما تدعو السلطة إلى الانفتاح والتعامل معها وربما كذلك العودة إلى نوع من المحاصصة عبر بعض التعيينات على رأس الوزارات أو المناصب السامية. إذا ما سلّمنا بهذه الفرضيّة، فإنّ الاتّحاد سيتقدّم كطرف يبحث عن التموقع في ظلّ نظام جديد، من دون أن يكون له موقف مبدئي من مسألة الانحراف عن الديمقراطيّة أو المنحى السلطوي التسلّطي للرئيس.
أمّا الفرضيّة الثانية فتُرجع عدم قدرة الاتّحاد على بلورة موقف صريح من المشهد السياسي ومحافظته على سياسة المكيالين إلى التوازنات الداخليّة صلبه. فالفرضيّة السابقة تعتبر أنّ للاتّحاد استراتيجية واضحة في حين أنّ المتابع للشأن الداخلي للاتّحاد ولموازين القوى داخله والأطراف السياسيّة المتشكّلة تاريخيّا صلبه، يعلم أنّ المكتب التنفيذي للاتّحاد يتشكّل وفق معادلة بين الأطراف اليساريّة ممثلة أساسا في الطيف الوطني الديمقراطي والأطراف القوميّة العربيّة ممثّلة أساسا في حركة الشعب والتيّار الشعبي بالإضافة إلى الجهاز الكلاسيكي للاتّحاد ممثّلا في الخط العاشوري الّذي يعرف بنزعته البراغماتية. ولمّا ندرك الموقف السياسي للأحزاب القوميّة من سلطة 25 جويلية ومساندتها شبه المطلقة للرئيس في كلّ تحرّكاته -حتّى وان رافقتها أحيانا انتقادات محتشمة يعبّر عنها بعض قيادات هذه الأحزاب مثل زهير المغزاوي-، فإننا نستطيع أن نتفهّم التفاوت في الحدّة الّذي ميّز مواقف الاتّحاد بل كذلك ضبابيتها وتلوّنها، خصوصا وأنّ التيّار الشعبي الممثّل داخل المكتب التنفيذي عن طريق الأمين العام المساعد سمير الشفّي هو جزء من مبادرة لينتصر الشعب الموالية للرئيس.
ولئن يبدو الأمين العام نور الدين الطبوبي من أنصار الخط الراديكالي في علاقته بالسلطة فإنّ عدم قدرته على دفع الاتّحاد رسميّا نحو موقع المعارضة والحديث المتكرّر عن الدعوة إلى الحوار يعود تفسيره أوّلا إلى عمق الامتداد القومي داخل قواعد المنظّمة ومكاتبها الجهويّة وجامعاتها العامّة ونقاباتها الأساسيّة وكذلك إلى وجود جيوب معارضة لسلطة الطبوبي داخل الاتحاد والّتي تعود جذورها الى معركة تنقيح الفصل 20 وتمديد المكتب التنفيذي الحالي.
أمّا من وجهة نظر الرئيس، فالأمر لا يخلو كذلك من الفرضيّات. لقد أصبح الآن جليّا بأنّ الرئيس يبحث بجميع الطرق على تركيع الأجسام الوسيطة المشكّلة للمجتمع المدني من أحزاب وقضاء ونقابات وإعلام حتّى تكون هذه الأخيرة ديكورا يدعم السلطة في جميع خياراتها. فوراء الخطابات والاتهامات والإيقافات العشوائيّة والمحاكمات الصوريّة، يبحث الرئيس عن شقّ الصفوف حتّى تدفع الشقوق المهادنة إلى التنازل وموادعة السلطة. يبدو هذا التمشّي جليّا في علاقة بالاتحاد لمّا قام بتعيين محمد علي البوغديري -وهو أحد المنشقّين عن الاتّحاد ومعارضي الطبوبي- وزيرا للتربية علما أنّ البوغديري يتمتّع بدعم لدى جملة من قواعد الاتّحاد، خصوصا لسعد اليعقوبي الكاتب العام لجامعة التعليم الثانوي الّتي من المنتظر أن يجد معها الوزير الجديد تسوية في علاقة بملفّ حجب الأعداد.
لكن هل أنّ الرئيس يتّبع استراتيجية واضحة في علاقة بتركيع الاتّحاد أم أنّ هذه المعركة -الّتي لم تجرؤ أيّ سلطة على خوضها بطريقة راديكاليّة ومباشرة منذ أن قام الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة بسجن قيادات الاتحاد على إثر أحداث جانفي 1978- ليست إلاّ ردّة فعل مرتجلة وغير مدروسة على فشل الانتخابات التشريعيّة الّتي أجريت دورتها الثانية في 29 جانفي 2023؟
حتما، يطمح الرئيس كما ذكرنا إلى وضع اليد والسيطرة على المنظّمة الشغيلة كما أراد أن يفعل مع غيرها من الأجسام لكن لا يبدو أنّه يخطّط لما يفعل. هو فقط، على الأرجح، يردّ الفعل كلّما أحسّ بتهديد لسلطته المطلقة قبل أن يصطدم بواقع مغاير. فمثلما أُطلق سراح عدد من قيادات حركة النهضة وائتلاف الكرامة إثر الاعتقالات العشوائيّة الّتي طالتهم لعدم وجود أدلّة قضائية (وهو ما يوحي بإلمام غير كاف بالملفّات وتسرّع في القيام بإيقافات واحتجازات فلكلوريّة)، ومثلما نقّح مرسوم المجلس الأعلى المؤقت للقضاء الّذي وضعه بنفسه حتّى يتسنّى له عزل جملة من القضاة مباشرة وغيرها من التحرّكات المرتجلة، لا يبدو أنّ هذه الحرب المفتوحة على الاتّحاد ستنجح في تركيع هذا الأخير.
لكن رغم ذلك تبقى قدرة الاتّحاد على التأثير في الواقع السياسي محلّ مساءلة. فحتّى قدرته على التعبئة الّتي كثيرا ما مثّلت نقطة قوّته الرئيسيّة، يبدو أنّها تراجعت بالرّغم من تردّي الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة للشغّالين تحت تأثير سياسات التقشّف والتضخّم المالي. إذ يتبدّى الاتّحاد في نظر الرأي العام كمتسبّب في الأزمة وأحد وجوه “عشريّة الخراب” بسبب ما يعتبره عدد من المواطنين (حتّى وإن لم يكونوا من أنصار الرئيس) مطلبيّة مشطّة وإفراطا في الإضرابات وتعطيلا للمرافق العامّة كالنقل والصحّة والتعليم. بالتّالي، إذا ما أخذنا كلّ هذه المعطيات بعين الاعتبار، لا يمكن الجزم في قدرة الاتّحاد على استعمال سلاح الإضراب سياسيّا في تعبئة الشارع ضدّ السلطة. ولعلّ النجاح المحدود لإضراب الوظيفة العموميّة في 16 جوان 2022 خير دليل على بيّنة على تراجع قدرة الإتّحاد في التأثير في الجماهير.
عموما، يتراءى المشهد السياسي التونسي طيلة الأشهر الأخيرة تحت شعار الأزمة والمضيّ قدما إلى الأمام من قبل سلطة لا تقبل الحوار ولا التفاوض ولا التنازل، سلطة تضرب عشوائيّا كلّ من حولها وكلّ طرف من شأنه أن يمثّل سلطة مضادّة أو معدّلة. ذلك هو الطريق الّتي انتهجه رأس السلطة التنفيذيّة في تنفيذ مشروع البناء القاعدي الّذي يحلم به. هذا المشروع الّذي لا يمكن أن يتحقّق إلاّ بانتفاء كلّ الأشكال التنظيميّة “المزيّفة لإرادة الشعب” ولا يمكن إلاّ أن يفضي إلى تفتيت السلطة في المحليّات مقابل مركزة مفرطة لها لدى شخص واحد، ينفرد بالرأي والقرار “ويجسّد” إرادة الشعب الّذي يفوّض له كليّا سلطة تقرير مصيره وإدارة شؤونه العامّة. هكذا يتصوّر الرئيس النظام الديمقراطي “الحقيقي”، الذي لا كلمة فيه سوى للرئيس، ولا مكان فيه لأيّ جسم وسيط، مهما علا شأنه.
[1] REDISSI (Hamadi), « Etat fort, société civile faible en Tunisie », Revue Maghreb-Machrek, 2007, n°92, pp. 89-117
[2] المرجع نفسه