رئيس الجمهورية قيس سعيد مع رئيس اتحاد الأعراف سمير ماجول (صفحة رئاسة الجمهورية التونسية)
في 26 جويلية 2021، كان سمير ماجول رئيس نقابة أرباب العمل “الاتّحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة” (الأوتيكا UTICA) من بين قيادات المنظّمات الوطنيّة الكُبرى التي استدعاها رئيس الجمهورية قيس سعيّد، ليشرح لها منطلقات “الإجراءات الاستثنائية” التي كان قد أعلن عنها، مقدّما لها جملة من التطمينات حول نواياه. بعدها بيومين استُدعِيَ ماجول مرة أخرى للقصر الرئاسي، لكن هذه المرة بمفرده. لم يُستقدم رئيس “الأوتيكا” للنقاش معه بل لتبليغه –أمام ملايين التونسيين- رسالة موجهة إلى “رجال الأعمال الفاسدين”: حانت ساعة سَداد الفواتير القديمة، فإما الدفع والصلح أو المحاكم والسجون.
احتجاج خَافت قبل الصمت المُدّوي
بعد أيام قليلة من لقاء سعيّد وماجول، تفاعَلَت منظمة أرباب العمل مع أجواء “25 جويلية” بإصدارها بيانا مساندا للـ”الإجراءات الاستثنائية”، مع الإلحاح على ضرورة إيلاء السلطة الجديدة الأولوية للملف الاقتصادي. كما أعلنَت بعض غُرفها النقابية مثل الغرفة الوطنية للمساحات التجارية الكبرى والغرفة الوطنية لمُصنّعي الحديد عن تخفيضات في أسعار عدد من السلع؛ تخفيضات محدودة جدا لم تُغير شيئا في الواقع المعيشي للمواطنين ولم تُلبّي تطلعات رئيس الجمهورية.
مع توالي الزيارات الفجائية لمنشآت اقتصادية خاصة وعمومية التي يقوم بها الرئيس سعيّد، وتكثيف المداهمات الأمنية لمصانع ومخازن في إطار “مكافحة الاحتكار والمضاربة غير المشروعة”، وإيقاف عدد من أصحاب المؤسسات الخاصة، بدأت “الأوتيكا” تشعر بالقلق، وبيّنَت ذلك في بيان أصدره اجتماع رؤساء الاتحادات الجهوية للمنظمة، المنعقد في مدينة صفاقس في نوفمبر 2021، استنكرت فيه “العودة في كل مرة إلى تشويه القطاع الخاص وشيطنة الفاعلين فيه”.
خلال سنة 2022، تبنّت المنظّمة خطّا حذرًا في تعاملها مع السلطة، فامتنعت بشكل شبه كليّ عن الخوض في الشأن السياسيّ على الرغم من المحطّات المهمّة، مثل حلّ البرلمان والاستفتاء على الدستور الجديد والانتخابات التشريعية والاعتقالات والمحاكمات ذات الطابع السياسي، وإصدار مرسوم الصلح الجزائي. أما في الشأن الاقتصادي، فقد راوَحَت بين تأكيد انخراطها في “الجهود” الرئاسية لإصلاح الاقتصاد، والتعبير من حين إلى آخر عن قلقها من تأخر هذا الإصلاح واستمرار “شيطنة” أصحاب الأعمال. وحتى مع تعمق الأزمة الاقتصادية وشحّ العملة الصعبة وتعطيل استيراد المواد الأولية والسلع الاستهلاكية تجنّبت “الأوتيكا” التصعيد، وإن عبّرَت في بعض التصريحات الإعلامية عن قلقها من تدهور الوضع. ويمكن القول أنه مع نهاية سنة 2022 والمصادقة على قانون المالية لسنة 2023 بدأ صبر المنظمة ينفد، وقد ظهر ذلك جليا من خلال البيان الذي أصدرته في 9 جانفي 2023، ومن ضمن ما ورد فيه “قانون المالية سيزيد في إنهاك المؤسسات الخاصة ويُمثل تهديدا جديا لديمومتها فضلا عن تكريس انعدام الرؤية وفقدان الثقة في المستقبل” وأن “الأوتيكا” تجدّد “التأكيد على أن حل المشاكل المستعصية التي تواجهها تونس لا يكمن في مزيد إنهاك المؤسسات الخاصة وفي مواصلة استنزاف السيولة النقدية للمؤسسات، من دون حوافز للاستثمار والتصدير وخلق الثروات”.
لم يتطرق البيان إلى الشأن السياسي، لكنه كان مؤشرا على أن العلاقة بين منظمة الأعراف والسلطة في توتر متزايد. لكن، يبدو أن الاعتقالات الواسعة التي شملت سياسيين وإداريين وأصحاب أعمال ونقابيين خلال الأشهر الأولى من سنة 2023 ضمن قضية “التآمر على أمن الدولة” وقضايا أخرى، كانَ لها مفعول قوي. منذ شتاء 2023، خَفتَ صوت المنظمة بشكل كبير ولم تُعلّق علنا على الإيقافات التي مست أصحاب أعمال من الوزن الثقيل مثل مروان المبروك وحسين الدغري، وتجنبت التصعيد حتى عندما تم إلقاء القبض على مسؤول في هياكل “الأوتيكا” وإيداعه السجن (محمد بوناب رئيس غرفة أصحاب المخابز المصنفة). وعلى الرغم من طمأنة رئيس الجمهورية لأصحاب الأعمال ومنظمتهم النقابية بأن التتبعات والإجراءات لن تمسّ إلا المتورطين في قضايا الفساد، فإن هناك حالة من الخوف تسود في أوساط أصحاب المؤسسات، خاصة الكبيرة منها.
عودة الابن “الضال”؟
كانت ولادة منظمة أرباب العمل أشبه بـ”العملية قيصرية” التي أشرف عليها “الحزب الحرّ الدستوريّ” في أواخر أربعينيات القرن الفائت، عندما كان قائدا لحركة التحرر الوطني ضد المستعمر الفرنسي. كان الحزب بحاجة إلى تحشيد مختلف الفئات الاجتماعية-الاقتصادية وتنظيمها في أطر، لذلك أسهم بقوة في تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة في 1947 والاتحاد العام للفلاحة التونسية في 1950.
في الواقع، وُلدت “الأوتيكا” من ائتلاف جسمين اجتماعيين-مهنيين: “الصنايعية وصغار التجار” من جهة، والصناعيين وكبار التجار من الجهة الأخرى. في سنة 1945، تأسّست “جامعة الصنايعية وصغار التجار بالقطر التونسي” بمبادرة من الحزب الشيوعي التونسي وكان من بين قياداتها الفرجاني بالحاج عمار الذي سيلتحق فيما بعد بالحزب الدستوري الجديد، ويلعب دورا كبيرا في انشقاق جزء هام من منخرطي الجامعة وتأسيسهم إطارا نقابيا جديدا. في جانفي 1947 وُلد “الاتحاد لنقابات الصنايعية وصغار التجار بالقطر التونسي”. وفي مؤتمره الثاني سنة 1948 تغيّرَ اسمه ليصبح “الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة” حتى يفتح باب عضويته لأرباب العمل من الصناعيين وكبار التجار التونسيين.
لم تتغيّر الأمور كثيرا بعد استقلال البلاد وسيطرة “الدساترة” على الحكم لمدّة أكثر من نصف قرن، إذ ظلّ اتحاد الصناعة والتجارة تابعا للحزب الدستوري ومُواليًا للسلطة. ما بين 1948 و2011 تداوَلَ على المنظمة أربعة رؤساء فقط، وإذا ما أردنا الدقة فهما رئيسان فقط. على الرغم من أن الفرجاني بالحاج عمار لم يتولّ رئاسة المنظمة رسميا إلا ما بين 1960 و1988 إلا أنه كان الكاتب العام والرجل الأول الفعلي في المنظمة ما بين 1948 و1960. وهذا الأمر يعني أنه قاد المنظمة لقرابة 40 سنة، يمكن أن نطرح منها سبع سنوات –ما بين 1964 و1971- تم خلالها إبعاده من قيادة المنظمة بأمر من السلطة السياسية، لأنه لم يكن موافقا على تجربة التعاضد والتوجه “الاشتراكي” للدولة في ذلك الوقت. وعندما انتهت تلك الفترة بتبني الدولة سياسة الانفتاح الاقتصادي، عاد بالحاج عمّار إلى القيادة وتمّ تنصيبه مديرا للحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم (1972-1973) فضلا عن عضويته في البرلمان ومسؤوليات أخرى. وخلال فترة رئاسة بالحاج عمار وتحت مظلة الدولة، ولدت “الرأسمالية” التونسية وظهرت طبقة أصحاب الأعمال التي ستَغنم تدريجيا ثروات كبيرة وتُشكّل الطبقة التي ما زالت إلى اليوم مستفيدة مما يسمى بالاقتصاد الريعي.
كانَ التوتر قصير المدى بين قيادة منظمة الأعراف والسلطة في فترة 1964–1971، وهو الوحيد تقريبا خلال أكثر من نصف قرن. ويبدو أن صاحب الأعمال، الهادي الجيلاني، استوعَب الدرس جيدا ولم يكرر “أخطاء” الماضي. فطيلة فترة رئاسته للـ”الأوتيكا” -ما بين 1988 و2011، أي المدة الفاصلة بين وصول بن علي إلى الحكم وخروجه منه- كانت المنظمة في انسجام كامل مع السلطة وخياراتها السياسية والاقتصادية. وخلال تلك الفترة كان الجيلاني نائبا في البرلمان وعضوًا في اللجنة المركزية لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم، فضلا عن مصاهرته للعائلة الحاكمة.
بعد سقوط بن علي، سعت منظمة الأعراف إلى التخفف من تاريخها الزبائني الثقيل في خدمة السلطة، وأرادت أن تُظهِرَ روحا جديدة متأثرة بنفحات الحرية والديمقراطية. فتمّ عقد مؤتمر انتخابيّ في سنة 2011 أفرز صعود وداد بوشماوي إلى رئاسة “الأوتيكا” لتكون أول سيدة تتولى قيادة منظمة مهنية ونقابية كبيرة في تونس. تبنّت القيادة الجديدة خطة اتصالية جديدة قائمة على الظهور المكثف في المشهد السياسي والإعلامي والتعبير عن المواقف في مختلف القضايا السياسية الاقتصادية، والترويج لمنظمة أرباب عمل عصرية تلعب دورا في الحياة السياسية ولها مبادرات للنهوض بالواقع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد.
لم يَقتصر التغيير على الجانب الاتصالي، إذ سجّلَت فترة 2011– 2021 تغيّرا كبيرا في العلاقة التاريخية بين المنظمة -وأصحاب الأعمال عموما- والسلطة السياسية. تحرّرَت “الأوتيكا” من هيمنة الحزب الحاكم وقبضة السلطة، وصارت تطمح لأن تصبح الطرف الأقوى في العلاقة. استغلّ كبار أصحاب الأعمال انفتاح المجال السياسي والإعلامي وارتخاء قَبضة الدّولة للسعي إلى التَّموقع بقوة في النظام السياسي، بشكل مباشر أو غير مباشر: الاستثمار في الإعلام السمعي-البصري، دعم أحزاب ومرشحين، الترشح بشكل مباشر لعضوية مجلس نواب الشعب والمجالس البلدية والمناصب الوزارية، الاستفادة من دعم المحاور الإقليمية والدولية، إلخ. لكن يبدو أن “25 جويلية 2021 ” وما أعقبه من عودة قبضة الدولة الثقيلة وسعي السلطة إلى السيطرة الكاملة على المشهد السياسي سيضع حدّا لهذه الطموحات، على الأقلّ في الوقت الراهن.
تناقضات مُزمنة وخلافات جديدة
تضمّ “الأوتيكا” حوالي 150 ألف مؤسسة مُوزعة بين 17 جامعة قطاعية. الأغلبية الساحقة من هذه المؤسسات متوسطة وصغيرة وحتى صغيرة جدا، ومع هذا فإن نفوذ كبار أصحاب الأعمال وورثَة العائلات الريعية يبدو الأقوى في مراكز القرار في المنظمة. وإذا كانت الفوارق بين مكونات الاتحاد في أربعينيات القرن الفائت محدودة عموما، فهي لم تعد كذلك في العقود الأخيرة. في المنظمة نفسها نجد سائق سيارة تاكسي وصاحب مقهى شعبي والرئيس المدير العام لشركات قابضة تُشغّل آلاف الأجراء وتُسجّل رقم معاملات بمئات ملايين الدينارات. وهناك عائلات لديها مصالح اقتصادية في قطاعات متعددة منها ما هو منضوٍ في جامعات “الأوتيكا” ومنها ما يتبع جامعات مهنية مستقلة كالسياحة ووكالات الأسفار والبنوك، وهي تَجمع أحيانا بين عضوية أكثر من نقابة مهنية. وكثيرا ما حصلت احتقانات صلب المنظمة بسبب تضارب مصالح أعضائها من صناعيين وتجار، ومُورّدين ومصدرين.
وبعيدا عن هذه التناقضات القديمة التي قد تتطور يوما ما بشكل يهدد وحدة “الأوتيكا”، فإن هناك توترات داخلية تتعلق بقيادة المنظمة، وموقف هذه القيادة من السياسات الاقتصادية للدولة. انتهَت عهدة الرئيس الحالي للمنظمة، سمير ماجول بنهاية سنة 2022 لكنه مازال على رأس القيادة. وكان من المفترض انعقاد مؤتمر انتخابي في جانفي 2023 لاختيار مكتب تنفيذي ورئيس جديدين، لكنّ هذا لم يحدث. حتى عملية تجديد الهياكل الجهوية للمنظمة والتي يفترض الانتهاء منها أواخر سنة 2022 تمهيدا للمؤتمر الانتخابي لم تَكتمل. وسبق لقياديين في المنظمة أن أعلنوا استنكارهم لما اعتبروه تعطيلاً لمؤسسات المنظمة وهيمنة رئيسها على القرار، وهناك من عبّرَ عن عدم رضاه للنهج “المهادن” للسلطة السياسية الذي تسير فيه الأوتيكا. في أفريل 2023 هاجم توفيق العريبي أحد قياديي المنظمة وعضو مكتبها التنفيذي خلال مداخلة إذاعية رئيس المنظمة معتبرًا أن عهدته هي الأسوأ في تاريخ “الأوتيكا” وأنه لم يحترم المنظمة وهياكلها، كما أكد أن قِسمًا من المكتب التنفيذي اختار الاصطفاف الأعمى وراء رئيس الجمهورية.
تنامي الضغط على أصحاب الأعمال وعلى المنظمة الأكثر تمثيلية للقطاع الخاص قد تكون له نتائج مختلفة، فربما يَضمن تجديد ولائهم للسلطة، وقد يدفعهم أيضا إلى تجاوز تناقضاتهم -مؤقتا- من أجل حماية مصالحهم المشتركة. كما قد يخلق تصدّعات كبيرة في “الأوتيكا” في ظل اختلاف المواقف.