“
الحدث هام: مواطن يغضب، ينتفض إزاء الوضع الحالي. لماذا يُفقّر الشعب ويرزح تحت عبء الدين العام، لماذا نفقر فيما الزعماء الذين يتولون المسؤولية يزيدون وعائلاتهم ثراء؟ ينتفض بواسطة رسالة سجلها وبثها على الواتساب ولاقت انتشارا سريعا. يشتم أحد الزعماء، الزعيم الذي من طائفته، ويدعو مواطنيه من طوائف أخرى أن يبادروا إلى شتم زعماءهم. فطائفيتنا تمنع أن يهاجم أي منا زعيما من خارج طائفته. هذا المواطن هو عدنان فرحات أما الزعيم فهو رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وقد انتشر تصريحه . وقد استتبع الحدث نوعين من ردود الأفعال: ردود أفعال “تأديبية” من مناصري الرئيس بري، لحقها تحرك النيابة العامة ضد فرحات أدى إلى توقيفه زهاء يومين قبلما يخرج وهو مثقل بمجموعة من الادعاءات بجرائم خطيرة تصل عقوبتها إلى الاعتقال المؤقت ل 15 سنة.
وقد شكلت هذه الحادثة بذلك فصلا جديدا في مسلسل التجاذبات الحاصلة بين المواطنين وزعمائهم، وشكلا واضحا من أدوات القمع التي تستخدمها السلطة الحاكمة لتطويع المواطنين وتدجينهم في موازاة إعلاء شأن الزعماء وقيمتهم على أنقاض الديمقراطية.
جريمة الشرف الحديثة
أول ردود الأفعال على انتفاضة الواتساب: هجوم شنّه شبابٌ من مناصري الزعيم على فرحات بعد ساعات من بث التصريح (يوم الأحد 12 أيار) أمام باب منزله بعدما هالهم أن يتجرأ عليه. هاجموه، اعتدوا عليه، ضربوه من دون أيّ حرمة لكبرته، ثم تركوه، علّه يعتبر.
في اليوم التالي، لم تتحرك النيابة العامة ضدّ هؤلاء الشباب الذين عكروا السلامة العامة. فما فعلوه ليس إلا تكرارا لأعمال يقوم بها عدد كبير من أندادهم من طوائف مختلفة دفاعا عن شرف زعمائهم. فلماذا يُلاحقون؟ هل ما فعلوه هو اعتداء يستدعي الملاحقة أم أنه فعل يجد تبريره في الغاية منه والتي هي صون شرف هؤلاء ضد كل من يتطاول عليهم؟ فتماما كما كانت المادة 562 القديمة من قانون العقوبات تعفي من العقوبة من يقتل زوجته وعشيقها بالنظر إلى أهمية الدفاع عن الشرف العائلي فلم يقع إلغاؤها إلا مع تراجع مكانة هذا الشرف، كذلك دأبت النيابات العامة على تبرير الجرائم الحاصلة دفاعاً عن الزعماء وشرفهم، ولو من دون نص، بعدما تعاظمت مكانة هذا الشرف في النظام السياسي الحالي. ولعله سيخرج أحدهم يوما ليقترح علينا شرعنةً لهذا الواقع، أن نعيد لقانون العقوبات مادته 562 الملغاة، أن نتبنى جريمة شرف جديدة، ولكن هذه المرة إجلالا ليس لشرف العائلة كما كان يحصل سابقا، بل لشرف الزعماء، وإعلاء شأنه على حقوق الأفراد وربما حياتهم (هذه الجملة هي بالطبع جملة ساخرة ويقتضي قراءتها على أنها كذلك). فبذلك، نضمن استمرارية النظام السياسي، ومعه حق هؤلاء بالتبجيل والتكريم مهما تزايدت شبهة فسادهم وسوء إدارتهم للشأن العام، في ظلّ حصانات قانونية وفعلية تمنع ملاحقتهم. فيستمرّ النظام ولو على أنقاض المجتمع.
هيبة الزعيم هي هيبة الدولة، نفسية الزعيم هي نفسية الأمة
إذا النيابة العامة لم تتحرك ضد الشباب الذين اعتدوا على المواطن المنتفض، معطلة بذلك أحكام القانون. همّها كان على ما يبدو من حجم الادعاءات الصادرة عنها في مكان آخر: كيف نلقّن المواطن المنتفض درسا لن ينساه أبدا؟ كيف نردع سلوكيات، انتفاضات، مظاهر تمرّد كهذه؟ وهنا، ذهبت النيابة العامة في اتجاه معاكس تماما: ففيما أغلقت عينيها تماما بما يخصّ جرائم الدفاع عن شرف الزعيم، عمدت إلى فبركة جرائم من باب التشدد إزاء مسّ المواطن المنتفض بهذا الشرف، وبهدف إطالة أمد توقيفه.
وقد تجلّى ذلك من خلال الادّعاء عليه ليس فقط بارتكاب جنحة تحقير موظف أو القدح والذم به (وهي جرائم لا تتجاوز عقوبتها السنة ولا يمكن تاليا توقيف المدعى عليه فيها)، إنما أيضا بارتكاب جرائم عدة تصل عقوبتها إلى الاعتقال المؤقت حتى 15 سنة. ومن أبرز الجرائم التي ادعت بها النيابة العامة في النبطية في هذا السياق، الجرائم الواردة ضمن المادتين 295 و296 من قانون العقوبات واللتين تعاقبان “من قام بدعاية ترمي إلى إضعاف الشعور القومي أو إلى إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية” و”من نقل في لبنان أنباء يعرف أنها كاذبة أو مبالغ بها من شأنها أن توهن نفسية الأمة”. أما المادة 297 فهي تعاقب من يذيع في الخارج أنباء من هذا النوع من شأنها أن تنال من هيبة الدولة أو مكانتها المالية. واللافت أن هذه المواد كلها وردت تحت نبذة “النيل من هيبة الدولة والشعور القومي”، والتي وردت ضمن الفصل المتصل بالجنايات الواقعة على أمن الدولة الخارجي، وهو الفصل الوارد في الباب الأول وعنوانه “الجرائم الواقعة على أمن الدولة”. كما من اللافت أن المادتين 295 و296، تنطبقان فقط في “زمن الحرب أو عند توقع نشوبها”، مما يؤشر إلى أن النيابة العامة لا تجد حرجا في تصوير لبنان على أنه على شفير الحرب، خدمة لمسعاها.
هكذا، إذا، تصبح انتفاضة مواطن ضد أحد أركان الحكم جرما على أمن الدولة وتحديدا الأمن الخارجي، وتعديا على هيبة الدولة والشعور القومي وإثارة للنعرات الطائفية. وفيما يستشف من انتفاضته خوف على مالية الدولة، فإنها تصبح بنظر النيابة العامة، بمثابة تهديد لهذه المالية.
وقد سمحت مضاعفة الجرائم المدعى بها على هذا الوجه بتحقيق غايتين إثنتين:
الأولى، الالتفاف حول القاعدة التي تمنع التوقيف الاحتياطي في الجرائم التي تقل عقوبتها عن الحبس سنة، وتحويل الجرم من جنحة إلى جناية، مما يفتح الباب أمام توقيف المدعى عليه احتياطيا لآماد طويلة طالما أن عقوبة جرائم النيل من هيبة الدولة تصل إلى الاعتقال المؤقت ل 15 سنة.
والثانية، المزج بين هيبة الزعيم وهيبة الدولة، بين شعور الزعيم والشعور القومي، وأخيرا بين نفسية الزعيم وأنصاره ونفسية الأمة. ومن هذه الزاوية، يتم إعلاء شأن الزعماء إلى أقصى درجة، فيصير أي تهجم ضدهم ولو دفاعا عن المجتمع بمثابة تهجّم ضدّ المجتمع بأسره.
عملا بموقف النيابة العامة، تم توقيف فرحات ليومين. وفيما قرر قاضي التحقيق في النبطية غسان معطي إخلاء سبيله بعد توقيفه ل 24 ساعة، فإن النيابة العامة عادت واستأنفت القرار المذكور أمام الهيئة الاتهامية على أساس الاتهامات المذكورة أعلاه. وقد أدى هذا الأمر إلى إطالة أمد توقيفه ليوم إضافي، قبلما تعود الهيئة الاتهامية في النبطية لتقرر إخلاء سبيله. وعليه، استعاد فرحات حريته… بعدما تم إفهامه وإفهامنا جميعا أن لحريتنا وديمقراطيتنا سقف… سقف اسمه: هيبة الزعيم، سقف يلتغي معه جوهر الحرية والديمقراطية.
“