إيقاف كبير قضاة تونس عن العمل وإحالة ملفه للنيابة: قرار يكرس ثقافة المحاسبة وإن تأخر كثيرا


2021-08-21    |   

إيقاف كبير قضاة تونس عن العمل وإحالة ملفه للنيابة: قرار يكرس ثقافة المحاسبة وإن تأخر كثيرا
القاضي الطيب راشد (القناة التاسعة)

 

في ساعة متأخرة من مساء يوم 20-08-2021، قرر مجلس القضاء العدلي المنتصب كمجلس تأديب إيقاف الطيب راشد الرئيس الأول لمحكمة التعقيب التونسية عن العمل لحين البت الجزائي في ملفه الذي أحيل للنيابة العامة والإعلان تبعا لذلك عن شغور منصبه وفتح باب الترشحات لشغله. يطوي هذا القرار صفحة مهمّة في تاريخ القضاء التونسي كانت فيها لإرادة القضاة التي اتجهت لفرض قيم ثقافة المحاسبة الكلمة الأخيرة لكنه لا يحجب ضعف أداء من صدر عنه في عمله عليه وما كان له من أثر سلبي على التمثل الرسمي والشعبي لقيم استقلالية القضاء.

يوم تمسّك القضاء بإسقاط حصانات كبيرة دفاعا عن قيم المحاسبة

بتاريخ 10-09-2020، تقدّمت النيابة العمومية لدى المحكمة الابتدائية بتونس بطلب رفع الحصانة عن راشد بدعوى الاشتباه بضلوعه في ملف فساد قضائي يتعهد به قضاء التحقيق بذات المحكمة. وبعد أيام من ذلك، نشرت مواقع إعلامية ما قيل أنها تسريبات من تقرير صادر عن وكيل الجمهورية يبين ما كان من دور لكبير قضاة تونس في التلاعب بملفات قضائية وما كشفت عنه استقراءات أجريت في شأنه من تضخم غير مبرر لثروته.

حينها كان راشد قويا بمنصبه القضائي السامي الذي يجعله الرجل القوي في القضاء وبما له من غطاء سياسي كان معلوما في الوسط القضائي وخارجه واستحقّه بفضل خدمات قدّمها لسياسيّين نافذين مكّنتهم من تصفية خصومهم قضائيا. ويبدو أن ذلك كان سببا في صناعة صموده. فقد تجنّدت لفائدته ماكينات إعلامية كبرى روّجت لفكرة أنه ضحية تشهير باشره بشير العكرمي وكيل الجمهورية السابق لدى المحكمة الابتدائية بتونس انتقاما منه لدوره الحاسم في تنحيته من خطته التي استغلها في التغطية على الإرهابيين والتلاعب بملفات الاغتيالات السياسية. وتمسكت هذه الماكينات بأنّ طلب رفع الحصانة الموجه ضده زيادة على طابعه الكيدي مختلّ شكلا لكونه لم يصدر عن قاضي التحقيق الذي تعهد بملف البحث. وفيما بدا دليلا مضاعفا على قوة الرجل ومكانته لدى من يحكمون المشهد من وراء الستار، تم الترويج لكونه تنازل عن حصانته وقبل المثول رغما عنها أمام المحقق الذي اكتفى بسماعه كشاهد ورفض توجيه أي اتهام له. واعتمد ذاك الخبر كدليل على كونه قاضيا مميزا يستحق ما وصل له ويجب المحافظة عليه وأمثاله في مواقعهم حماية لقيم الدولة المدنية ممن يريدون اختراق مؤسساتها. وكان يمكن عند هذا الحد أن يغلق الملف دون سؤال ولا حساب لكن حراكا قضائيا برز بداية داخل صفحات التواصل الاجتماعي وتطور لينتهي بإصدار بيانات للرأي العام فرض أمرا غير ذلك.

انتفاضة القضاة فرضت المحاسبة الصعبة

حاول هنا مجلس القضاء احتواء الأزمة. فقرر بتاريخ 24-11-2020 رفع الحصانة عن راشد. استبشر المشهد القضائي بهذا القرار لكنه في المقابل تمسّك بشدة أكبر بطلب المحاسبة. فلم يخفِ جانب هامّ منه في تدويناته على صفحات التواصل الاجتماعي استغرابه من حجم ما يبدو من فساد به ومن عدم معقولية تواصل اضطلاع راشد بمهامه رغمها  .وتوالتْ في هذا الإطار الدعوات للمحاسبة وتحميل المسؤوليات. وهو الخطاب الذي وجد صداه داخل مجلس نواب الشعب الذي ساءل أعضاؤه مجلس القضاء في الموضوع. فكان من أثر ذلك أن قرّر مجلس القضاء العدلي بتاريخ 16-12-2020 تعهيد التفقدية العامة لوزارة العدل بالبحث في الموضوع وتجميد راشد من عضويته لحين البت جزائيا وتأديبيا في ملفه .لم يرضِ هذا القرار القضاة الذين مر مائة منهم من الحراك الفردي إلى إصدار بيان بتاريخ 03-01-2021 يطالب بتنحية من طالته الشبهة من منصبه وضمان المؤاخدة الجدية و العادلة والشفافة لكل من كان موضوع شبهة فساد .وقد تمسكت في حينها الأغلبية داخل المجلس برفض الطلب بدعوى أن العضوية في مجلس القضاء تحصّن راشد وتمنع تنحيته من خطته قبل صدور حكم قضائي في حقه يدينه، وهو الموقف الذي لم يقنع القضاة المحتجين والذين باتوا يسمون ب”الموقعين” فواصلوا ضغطهم من أجل المحاسبة والتنحية.

أخيرا حرر منصب الرئيس الأول لمحكمة التعقيب: نصف نصر ونصف هزيمة 

كان مجلس القضاء طيلة السنة القضائية 2020-2021 مترددا في المضي قدما في محاسبة راشد غير أن ما تلا إجراءات 25 جويلية من تطور لخطاب مكافحة الفساد وما قرره وزير الداخلية من وضع للقاضي الكبير تحت الإقامة الجبرية غيّرا في المعطيات.

جلسة تأديب تحت الحصار

بتاريخ 03-08-2021، وضع المكلّف بإدارة وزير الداخلية رضا الغرسلاوي الطيب راشد تحت الإقامة الجبرية بمحل سكناه. وبعد أيام من ذلك، توالت تصريحات رئيس الجمهورية قيس سعيد التي تؤشر عن عدم رضاه على أداء القضاء. كانت بالتالي جلسة التأديب التي عقدت بعد تحصيل إذن من وزارة الداخلية في جلب كبير القضاة مخفورا لمقر مجلس القضاء وفي ظلّ محاصرة أمنية شديدة لذاك المقر في أحد أبعادها جلسة شكلية محكومة في مخرجاتها. وتبعا لكلّ هذه الاعتبارات، جاءت تنحية كبير القضاة من موقعه انتصارا لثقافة المحاسبة في ذات الحين الذي كانت فيه مؤشرا على ما يمكن أن يؤدّي له تجاهل هذا الاستحقاق ومحاولة الالتفاف عنه من إضعاف للمؤسسات. وهو ما يستدعي مزيد الوعي بأهمية القضاء المستقل الذي لولا قيمه ما كان يتصور أن يتحول القضاة لقوة ضغط ايجابي في مسارات المحاسبة في ذات حين التقييم النقدي لأداء المؤسسات طلبا لإصلاحها.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قرارات قضائية ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني