
رسم عثمان سلمي
منذ سنة 2011 يواصل رشاد جعيدان، السجين السياسي الذي تعرّض للتعذيب وسوء المعاملة خلال اعتقاله في سجون بن علي سنة 1993 بتُهمة الانقلاب على نظام الحُكم، نضاله من أجل محاسبة الدّولة التونسية على جرائم التعذيب المُرتَكَبة وضمان عدم تكرارها، مُعتبرًا أنّ هذه المعركة من أجل الأجيال القادمة، وأنّ المهمّ بالنسبة إليه “اعتذار الدّولة” عن جرائم التعذيب. يرفض رشاد رفضًا قطعيًّا أن تُختزَل قضية العدالة الانتقالية في عبارة “بقدّاش كيلو النّضال” (بِكَمْ كيلو النضال) التي أُطلقت مع صدور قائمة المستفيدين من قرارات جبر الضرر الصادرة عن هيئة الحقيقة والكرامة المتعهّدة بالنظر في قضايا الانتهاكات والتعذيب وسوء المعاملة خلال فترة الاستبداد. فيما يقول رضا بركاتي شقيق الشهيد نبيل بركاتي في ندوة صحفية نظّمتها المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب للإعلان عن تقديم شكاية لدى لجنة مناهضة التعذيب، إنّ قضايا التعذيب التي رفعتها عائلة الشهيد تعود إلى سنة وفاته، في سنة 1987، وكان الهدف آنذاك فتح ملفّ التعذيب حتّى لا تتكرّر هذه الممارسات في مراكز الإيقاف وفي السجون.
لكن أمام تواصل تعثّر مسار العدالة الانتقالية وانتكاسه مع تغيّر الأوضاع السياسيّة منذ 25 جويلية 2021 ومواصلة الرئيس وضع يده على كلّ السُّلط، إلى جانب ترسّخ الإفلات من العقاب، لم يعد أمام ضحايا التّعذيب سوى اللجوء إلى لجنة مناهضة التعذيب التابعة للأمم المتّحدة لتقديم شكايات ضدّ المنسوبة إليهم الانتهاكات. هي ليست شكاية لدى محكمة أو هيئة قضائية، ولكنّها خطوة رمزية لتأكيد عدم سقوط عقوبة التعذيب بالتقادم وحرص ضحايا التعذيب وذويهم على محاسبة الدّولة التونسية، نظرًا لأنّ مرتكبي جريمة التعذيب هم موظّفون عموميون، سواءً كانوا في الجهاز الأمني أو العدلي.
وقد تعهّدت المنظمة العالمية لمناهضة التّعذيب بستّة ملفّات تتعلّق بكلّ من رشاد جعيدان وقصي الجعايبي وفيصل بركات ورشيد الشماخي وسحنون الجوهري ونبيل بركاتي، ورُفِعَت الشكاية لدى لجنة مناهضة التعذيب، استنادًا إلى اتفاقية مناهضة التعذيب الذي صادقت عليها تونس منذ سنة 1988 التي تعترف باختصاص هذه اللجنة في النظر في الشكاوى الفرديّة المُقدّمة من الضحايا الّذين لم تُنصفهم الدّولة التونسية، إلى جانب ضمان الحقّ في التعويض وكشف الحقيقة ومعاقبة الجناة. هم لا ينتظرون من هذه الهيئة أحكامًا تُنصفهم، لأنّها ليست محكمة جنائية أو مدنيّة بقدر ما هي هيئة تنظر في مسؤولية الدّول، وفي ذلك قدر كبير من الاعتراف بدور هياكل الدّولة في تسليط العقوبات على مواطنيها.
مطبّات العدالة الانتقالية
تقول إيناس لملوم، المستشارة القانونية للمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب خلال الندوة، إنّ أسباب تعثّر مسار المحاكمات أمام الدوائر المختصّة في العدالة الانتقالية يعود إلى ثلاثة أسباب، بدءًا بالحركة القضائية التي جعلت تركيبة الدوائر المختصة في العدالة الانتقالية منقوصة، إذ أن القضاة المتعهّدون بهذا الملفّ غير متفرّغين ويشتغلون على ملفّات أخرى إلى جانب ملفّ العدالة الانتقالية، ومنهم من يتلقّى تكوينًا في العدالة الانتقالية ممّا يؤثر على وتيرة حضورهم في الجلسات. “تكوين القضاة منصوص عليه قانونًا ولكن لا توجد ترتيبات تُنظّمه. ونُذكّر في هذا الصدد أنّه خلال السنة القضائية الفارطة 2023-2024 كانت تركيبة الدوائر المختصة في العدالة الانتقالية منقوصة ولا يوجد دورات تكوين”، تُضيف المستشارة إيناس لملوم.
إلى جانب الحركة القضائية وتأثيرها على استقرار تركيبة الدوائر، تقول لملوم إنّ غياب المتّهمين أو المنسوبة إليهم الانتهاكات يؤثّر على سير الجلسات، حيث تسترجع العائلة المتضرّرة من التعذيب وقائع التعذيب ردًّا على أسئلة رئيس الدائرة، عوضًا عن الإفادة التي يمكن أن يتقدّم بها المنسوبة إليه الانتهاكات، مما يحول دون كشف الحقيقة. تقول إيناس لملوم إنّ الغياب المتكرّر يكون ممنهجًا في بعض الأحيان، ويحضر المحامون بدلًا عنهم، وفي بعض الأحيان يعرضون شهادات طبيّة للمنسوبة إليهم الانتهاكات كتبرير لعدم حضورهم. “في بعض المرّات يتمّ إصدار بطاقات جبل من المحكمة ولكنّها لا تُنفَّذ بحُجّة عدم إيجاد عناوين سُكنى المنسوبة إليهم الانتهاكات وهو أمر لا يكاد يُصدَّق لأنّ هؤلاء معروفون واشتغلوا في هياكل الدّولة، فلا يُعقَل أن يغيبوا عن أنظار السلطة”، تقول إيناس لملوم مؤكّدة أنّ الضحايا أودعوا شكايات ضدّ أعوان الضابطة العدليّة الّذين لم يُنفّذوا بطاقات الجلب، ولكنّها ظلّت مركونة في رفوف النيابة العمومية.
من ناحية أخرى، ساهم الضغط السياسي ووضع اليد على القضاء في إضعافه وإفراغ هذه السلطة من جوهرها القائم على إعلاء الحقّ والقانون، ليجد القاضي نفسه يُغالي في بعض الأحيان من ممارسة الرقابة الذاتيّة على نفسه وعلى الأحكام التي سيصدرها، خاصّة في ظلّ تدخّلات السلطة التنفيذية باعتماد المراسيم في القضاء عبر إلغاء المجلس الأعلى للقضاء وإرساء مجلس مؤقّت وقرار إعفاء القضاة الصادر في جوان 2022.
متوفر من خلال: