يندفع الناس إلى الموقع الأثريّ المدمّر والمفتوح رغم المخاطر التي تهدّد سلامتهم وسلامة الموقع
تعرّض موقع تلّة شمع الأثريّ لتدمير إسرائيليّ خلال العدوان الأخير، طال معالمه الرئيسية، من القلعة الصليبية إلى مقام النبي شمع ومعصرة الزيتون التاريخية، وصولًا إلى البيوت التي تشكّل البلدة التراثية القديمة أعلى التلة. وعلى الرغم من عودة السكّان إلى شمع وتدفّق الزوّار إلى الموقع الأثريّ، تتأخّر الإجراءات الميدانيّة الضروريّة لحمايته، هو الشاهد على تراث أهل الأرض وأصالتهم، ومعها يتأخّر توجيه عمليات رفع الركام والتعامل مع الأضرار، ومحاولة الأهالي استعادة حياتهم بعيدًا عن التسبب بأي أذى للموقع الأثري المهم.
في ظلّ هذا الواقع، وفي غياب خطّة واضحة، رصدت “المفكرة” على الأرض ممارسات عدّة تهدّد السلامة العامّة وكذلك تهدّد جهود حفظ القلعة، بعضها ناجم عن عدم دراية كافية بحساسية الموقع، وبعضها الآخر يتمّ بحسن نيّة لكن من دون إشراف مختصّ، ما قد يؤدّي إلى مزيد من الضرر غير القابل للإصلاح.
وخلال العمل على هذا التقرير، جمعنا شهادات من سكان شمع يعبّرون فيها عن مخاوفهم من انهيار أجزاء إضافية في الموقع، ويناشدون الجهات المعنيّة التحرّك واتخاذ تدابير عاجلة لحمايته في انتظار إعادة الترميم.
وفي تلّة شمع، القلعة والبيوت والمقام وملحقاته، كلّها مدرجة على لائحة الجرد العام، وتخضع بالتالي لوصاية وزارة الثقافة، المعنيّة بالإشراف على أيّ أعمال فيها، وصون تاريخيّتها، لكن المقام يدار بشكل مباشر من قبل المديرية العامّة للأوقاف الإسلامية، فيما يقع الموقع ضمن صلاحية بلدية شمع المباشرة.
والقانون اللبنانيّ واضح في هذا الإطار، إذ إنّ إدراج الموقع على لائحة الجرد العام يجعله خاضعًا مباشرة لوصاية وزارة الثقافة وسلطتها، ولا يمكن لأيّ تصنيف آخر أن يعلو فوق هذا التصنيف.
وقد قادنا العمل على هذا التقرير إلى سلسلة من المراجعات مع الجهات الرسميّة المعنيّة، وهو ما جعل “المفكّرة” تتحسّس الحاجة الماسّة إلى لجنة طارئة تنسيقية بين كافّة الجهات المعنيّة، وقبل ذلك، خطوات ميدانيّة على الأرض تسيطر على الموقع وتضمن عدم التسبّب بمزيد من التلف فيه، وتعمل على توعية زوّاره حول أي تصرفات أو أعمال تضرّ بالموقع.
بحسب المعاينة الميدانيّة، يحتاج الموقع إلى كشف هندسيّ مستعجل وأعمال تدعيم
ممارسات تهدّد بمزيد من الأضرار
بداية، ووفق المعاينة الميدانيّة، يُعدّ اختلاط حجارة قلعة شمع الأثرية بركام المنازل المجاورة وفي الساحة العامّة من أخطر التهديدات التي رُصدت، حيث قد يؤدّي إلى فقدانها في حال تأخّر جمعها وحفظها بطريقة علمية، أو في حال بادر بعض السكان المقتدرين إلى إعادة بناء منازلهم قبل انتظار أعمال المسح. كما أنّ أعمال إزالة الركام من الساحة بهدف فتحها قد تتسبّب بفقدان عناصر معمارية قيّمة أو اختلاطها بالركام، ممّا قد يجعل عملية استرجاعها أو توثيقها أصعب.
ورصدت “المفكرة” دخول جرّافات مجنزرة إلى الموقع الأثريّ من دون إشراف مختصّ، ممّا يشكل خطرًا إضافيًا، إذ يمكن أن يؤدّي إدخال آليات غير مناسبة إلى سحق أو تفتيت عناصر معمارية مدفونة تحت الركام، مثل الحجارة المنحوتة أو الأجزاء القابلة للترميم. كما أنّ الاهتزازات الناتجة عن هذه الآليات الثقيلة قد تزعزع استقرار الجدران المتصدّعة وتهدّد السلامة الهيكلية لآبار مياه التجميع المنتشرة بكثرة في كامل موقع تلة شمع، مما يزيد من خطر انهيار أجزاء لا تزال قائمة. ورغم هذه المخاطر، تؤكّد مصادر في الدّفاع المدني لـ “المفكرة” غياب أيّ توجيهات رسمية بشأن كيفية تنفيذ هذه العمليات داخل الموقع الأثري، وعدم قيامها بدورها بأيّة مراجعات قبل تنفيذها مهامها. في حالات كهذه، يفترض توفير آليّات خاصّة للدخول إلى المواقع الأثريّة (بوب كات، وهي آلية صغيرة الحجم ومرنة جدًا) ورفع الأنقاض الكبيرة فيها ضمن إطار انتشال شهيد، دون تهديد سلامتها، على أن ترفع الأحجار الأصغر يدويًّا، ودائمًا بإشراف وزارة الثقافة ممثلة بمديرية الآثار نظرًا لخصوصيّة المكان وأهميّة حمايته.
وقد شهد الموقع تدفّقًا كثيفًا للزوار، منذ بدء العودة يوم الأحد الماضي، نظرًا لأهميته الثقافية والرمزية كمعلم أثري وأيضًا كشاهد على الدّمار الذي لحق به خلال الحرب. ووفقًا لمعاينة “المفكّرة” وشهادات بعض سكّان شمع، فإنّ بعض الشبّان، بدافع الحماسة أو الفضول، صعدُوا فوق القباب والمداخل المتشققة، غير مدركين أنّ مجرّد الضغط عليها قد يؤدّي إلى انهيارها جزئيًا ويهدّد سلامتهم الشخصيّة، لا سيّما أن ّالعديد من الحجارة أصبحت غير متماسكة بفعل القصف والتفجير.
وفي ظلّ غياب الإشراف الرسمي، تحوّل سطح المقام إلى ممرّ خطير للزوّار. فقد أدّى انهيار غرفة المنزول على المئذنة إلى تسهيل الوصول إلى سطح المقام، ما جعل عشرات الأشخاص يتسلّقون إليه في الوقت نفسه في بعض الأحيان (حوالي 30 في إحدى المرّات)، غير مدركين أنّ القباب المتضرّرة والهياكل الإنشائية الهشّة قد تنهار تحت أقدامهم بما يهدّد سلامتهم بالدرجة الأولى، وكذلك سلامة البناء. وتمّ توثيق مشاهد لشبان يجلسون فوق القباب، وبعضهم يقف على حوافها، ما يشكل خطرًا على حياتهم، نظرًا لعلوّها وخطر انهيارها جرّاء التشقّقات والأضرار فيها.
غرفة المنزول الأثرية على مستوى قاعدة بدن المئذنة
كما لوحظت أعمال تنظيف وتدخّلات تطوعيّة، تُنفذ بحسن نية لكنها تفتقر إلى الإشراف المختص، حيث شوهد متطوّعون يقومون برفع الركام من المقام بهدف إعادة فتحه للزوار والمصلّين، لكن من دون أي إشراف مختصّ. مثل هذه المبادرات، رغم نواياها الإيجابية، قد تؤدي إلى نقل حجارة أو إضاعة عناصر قديمة كانت جزءًا من المبنى الأصلي، ممّا قد يعرقل عمليّة التوثيق ويجعل الترميم أكثر تعقيدًا.
وبعض العناصر المعمارية القديمة، التي تتميّز بتكوينها الجيولوجي المتمايز وفقًا للمراحل المختلفة التي بني فيها الموقع، مهدّدة بالضياع بسبب أعمال الإزالة العشوائية، حيث انهارت الحجارة في أماكنها الأصلية وتحتاج إلى فرز دقيق، وترقيم وحفظ، تمهيدًا لإعادتها إلى مواضعها الصحيحة خلال عمليات الترميم. ومع ذلك، لا يُعمل اليوم بأيّة توجيهات واضحة للتعامل مع هذه الحجارة أو ضمان الحفاظ عليها.
وقد لوحظ غياب حارس القلعة، وافتقار الموقع لأيّة لوحة إرشادية أو تحذيريّة خلال الأيّام الستّة الأولى على العودة، في ظلّ غياب مسارات آمنة في الموقع الذي يشهد تدفقًا للزوّار.
يندفع الناس إلى الموقع الأثريّ المدمّر والمفتوح رغم المخاطر التي تهدّد سلامتهم وسلامة الموقع
جوانب خطيرة من التدمير الإسرائيليّ للقلعة
شكّل تدمير تلّة شمع الأثرية واحدة من أفظع الارتكابات ضدّ التراث الثقافيّ للمنطقة المستهدفة بالغزو الإسرائيلي خلال العدوان. وهو أكبر موقع أثريّ متضرّر. وقد وضعت “المفكرة” تدميره في إطار جرائم الحرب والتي تستهدف هوية سكان المنطقة وذاكرتهم الجماعية وعزلهم عن تاريخهم وضرب ارتباطهم بأرضهم.
وتعدّ تلّة شمع بمجملها موقعًا أثريًّا، وهي محاطة بأسوار عالية، بينها 9 أبراج نصف دائريّة. وتنقسم هذه التلّة المحصّنة إلى ثلاثة نواحي، القلعة الصليبيّة، ومقام النبي شمع، وناحية البيوت التاريخيّة.
وفي تفاصيل الأضرار التي طالت المنطقة وترتبط بشكل وثيق بالخطوات المطلوبة اليوم، فقد تسبب التدمير الإسرائيلي في انهيار برجين من القلعة وسقوط جزء من السور التاريخي الذي تهاوى على بيوت السكان الواقعة أسفل التلة. كما فقد الموقع أحد أقبية القلعة، بينما تعرّضت الجدران الداخلية لبعض الأجزاء المتبقية لتصدّعات قد تهدد استقرارها، ما يعزّز الحاجة إلى كشف هندسيّ مستعجل عليها.
إضافة إلى ذلك، سوّيت البيوت التاريخيّة المتداخلة مع البيوت الحديثة جميعها في الأرض. ولم يكن المقام بمنأى عن الدمار، إذ شهد تدمير مئذنته إضافة إلى غرفة الجامع وملحقات عدة من بينها معصرة الزيتون التاريخيّة والقبو المجاور لها وعدد من الغرف الأثرية التابعة للمقام. ورغم تلك الخسائر، لا يزال مقام النبي شمع قائمًا، إلّا أنّ بعض أجزائه في حاجة إلى تدعيم عاجل.
ويظهر من المعاينة الأولية انهيار أجزاء من سقف “غرفة القهوة”، مما قد يجعله مهددًا بالسقوط. ويعتمد السقف على تقنية بناء تقليدية، حيث تُرصّ الحجارة بطريقة متشابكة، مع تعبئة الفراغات بطبقة ترابية بسماكة تصل إلى 50 سم لتحقيق التماسك الهيكلي. ومع تعرض السقف للتصدع والانهيار الجزئي، تصبح هذه الطبقة الترابية مكشوفة، مما قد يؤدي إلى تشبّعها بمياه الأمطار، وبالتالي زيادة الضغط على الهيكل المتضرر، وتسريع انهياره. لذا، يصبح التدعيم الفوري ضروريًا لحماية ما تبقى من السقف والحفاظ على العناصر الأثرية المرتبطة به.
وتعاني القباب التي تعلو المقام من تشقّقات خطيرة وانهيارات جزئية. فقد انهارت إحدى القباب بالكامل، فيما تعاني جارتها قبّة “أم النبيّ” من شروخات وتشققات وانتفاخات وانهيار في الأجزاء السفلية منها. كما ظهرت شروخ وتصدّعات واضحة على القبّتين الأماميّتين اللتين ما زالتا قائمة.
في إحدى الحالات، رُصِد جلوس شاب على القبّة الضريحيّة (يُعتقد أنّ ضريح شمعون الصفا تحتها)، ما يهدّد بانهيارها، ويبلغ ارتفاع هذه القبّة 7 أمتار، والسقوط من هذا العلو قد يؤدي إلى إصابات جسيمة أو حتى الوفاة.
القبة المتصدعة عن قرب
وتُعدّ قباب مقام شمع الأربعة جزءًا من الهوية المعمارية الفريدة للموقع في منطقة جبل عامل التاريخيّة، مما يستدعي تدخّلًا عاجلًا للحفاظ عليها.
ويقول أحد أبناء شمع إنّ “المعصرة حجارتها في مكانها والمنزول حجارته في مكانه، وما نحتاجه هو حفظ هذه الحجارة وترقيمها من أجل إعادة البناء، قبل أن تضيع أكثر”.
مكبس الزيتون بحديده وخشبه وكان لا يزال ظاهراً وسليمًا بنسبة جيدة قبل طمره واختفائه تحت الأنقاض بعد عمليات جرف الركام لتوسعة ساحة البلدة
وقد رُصِد مكبس الزيتون الخشبي التابع للمعصرة التاريخيّة ظاهرًا فوق الركام عند انتهاء الحرب، إلّا أنه طُمر أو بعثر بعد تنفيذ أعمال جرف ورفع الأنقاض. كما أنّ حجر البد الأساسي للمعصرة كان ظاهرًا للعيان بعد انتهاء العدوان، وقط طمر بشكل جزئيّ عد رفع الأنقاض وفتح الساحة.
حجر “البد” الأساسيّ لمعصرة الزيتون التاريخيّة بين الركام اليوم، وهو “حجر البد” لا يزال ظاهراً وسليماً على أنقاض معصرة الزيتون. وهو إطار صخري كبير كان يدور في حوض حجري دائري لسحق حبات الزيتون، وكان يدار بواسطة الدواب أو بسواعد الرجال.
مطالبة بإغلاق فوريّ للموقع
في المقابل، تبرز مطالبات بضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لمنع المزيد من الأضرار في الموقع الأثري. وتدعو جمعية “الجنوبيون الخضر”، المعنيّة بحماية الإرث الطبيعي والثقافي، إلى اتخاذ إجراءات احترازية فورية لمنع الدخول العشوائي إلى الموقع، حفاظًا على السلامة العامّة ولتجنّب تفاقم الأضرار.
ويقول رئيس الجمعية، هشام يونس، في حديث مع “المفكّرة”: “نحن نوصي باتخاذ إجراءات حماية احترازية لمنع دخول أي شخص بالوقت الحالي، لأنّ في هذه الأماكن عناصر مهدّدة أو آيلة للسقوط، وهذا يشكّل خطرًا على السلامة العامّة، وأيضًا يضاعف الأضرار في الموقع الثقافي الهام، وذلك إلى حين قيام الوزارة بمسح وتقييم الأضرار”.
ويشدّد يونس على ضرورة إغلاق الموقع في هذه المرحلة إلى حين إجراء وزارة الثقافة مسحًا دقيقًا للأضرار، ووضع خطة واضحة لإعادة التأهيل والترميم، مشيرًا إلى أنّ ترك القلعة مفتوحة من دون رقابة قد يؤدّي إلى عبثٍ غير مقصود بالعناصر الأثرية، ممّا يعقّد عمليات الترميم لاحقًا.
ويضيف: “لا يمكن التعامل مع الموقع على أنّه ساحة مفتوحة بل هو موقع أثري يحتاج إلى حماية فورية. لذلك، تقع مسؤولية تنظيم الدخول واتخاذ إجراءات الحماية على وزارة الثقافة التي يجب أن تتعاون مع بلدية شمع وأن توجّهها بالكيفية التي يجب أن تتّخذ بها هذه الإجراءات والنقاط التي يجب أن تشملها هذه التدابير”.
غياب ميدانيّ لمديرية الآثار وبلدية شمع: لا توجيهات
على مدى الأيام الماضية، وبينما لم تُسجَّل أيّ تدابير ميدانية لحماية موقع تلّة شمع الأثري، استمرّت الأنشطة غير المنظّمة داخل الموقع، وسط مخاوف متزايدة من تفاقم الأضرار. ومع تصاعد هذه المخاوف، بدأت “المفكرة” بالتواصل مع الجهات المعنية بدءًا من بلدية شمع وصولًا إلى وزارة الثقافة مرورًا بمديرية الآثار.
رئيس بلدية شمع عبد القادر صفي الدين، قال إنّ البلدية لم تتلقَّ أي توجيهات رسمية بشأن كيفية التعامل مع القلعة وحجارتها، مشيرًا إلى أنّ إدارة هذا الملف “تتطلّب إمكانات وموارد غير متوفرة لدى البلدية”. وأوضح أنّ البلدية “مثقلة بالأعباء الناجمة عن الدمار الواسع في القرية، ممّا يجعل التعامل مع الموقع الأثري مسؤولية تتطلّب تدخلًا رسميًا مباشرًا”. وقال صفي الدين: “البلدية لا تستطيع إدارة هذا الملف بمفردها، والأمر يحتاج إلى ورشة كبرى تتولّاها الوزارة”.
وزير الثقافة محمد المرتضى بدوره قال ردًا على سؤال “المفكّرة” إنّ “المديرية العامة للآثار مكلفة بمتابعة الملف واتخاذ التدابير الأولية للحفاظ على الموقع، خصوصًا في المناطق التي شهدت عودة السكان مؤخرًا، وذلك لمنع أي تجاوزات، سواء أكانت مقصودة أو غير مقصودة”، محيلًا إيّانا إلى المديرية للتواصل معها.
وبالفعل تواصلنا مع المديرية التي أكّد مديرها العام سركيس خوري وجود توجيهات بضرورة الامتناع عن أيّ تدخّل غير منظّم، لافتًا إلى أنّ التنسيق يتمّ عبر مديرية آثار الجنوب.
ولدى التواصل مع مدير آثار الجنوب علي بدوي، وعلى ضوء سلسلة المراجعات التي قامت بها “المفكّرة”، أعلن بدوي إعادة حارس القلعة اليوم السبت إلى الموقع لضبط الدخول العشوائي، وهي خطوة أولى لحمايته.
وأشار بدوي إلى وجود تنسيق مبدئي مع البلدية، على أن يتم الاتفاق على التفاصيل الدقيقة خلال الأسبوع المقبل. كما أوضح أنّ إشكالية موقع شمع تتأتّى من تعدّد الأطراف المعنيّة، (إدارة القلعة من قبل وزارة الثقافة، في حين إدارة مقام النبي شمع من قبل الأوقاف) ما يستوجب تنسيقًا إضافيًا مع الجهات المعنيّة لوضع خطة شاملة لحماية الموقع. وأضاف: “المديرية في الجنوب ناقشت الخطوط العريضة مع البلدية، والطرفان متفقان على التنسيق، لكن التفاصيل الدقيقة سيتم حسمها الأسبوع المقبل”.
ووعد بأن يشهد الأسبوع المقبل “تأمين ممرّ آمن للزوار بعد التوثيق”، بحيث يتمكّنون من الوصول إلى المقام من دون المخاطرة بتسلّق الأنقاض. كما أكد أنّ المديرية ستضع خطة مشتركة مع البلدية والوقف، لضمان حفظ المكان وإعادة الترميم.
ولفت بدوي إلى وجود نقطتين حساستين، تتعلّق الأولى بوجود شهيد في المكان، وتحرّك الدفاع المدني من أجل انتشاله من دون أيّ تنسيق، والنقطة الثانية وجود المقام واستعجال إعادة افتتاحه نظرًا لرمزيّته.
وأكّد أنّ المديرية في الجنوب تعمل على توثيق الأضرار وجمع الأدلة، بما في ذلك الاحتفاظ بشواهد على التدمير الإسرائيليّ. كما أشار إلى أنّ الهدف الحالي هو وقف أي عمليات غير منظّمة حتى تصل لجنة دولية متخصّصة لتقييم الأضرار.
وقد علمت “المفكّرة” من المدير العام للآثار سركيس خوري بأنّه تمّ الطلب من منظمة اليونيسكو إرسال لجنة دولية لمعاينة خمسة مواقع أثرية متضرّرة في جنوب لبنان، تشمل قلاع شمع، ودوبية، وتبنين، وشقيف أرنون، وموقع أم العمد الأثريّ في الناقورة، إضافة إلى موقعي بعلبك وصور. وأشار خوري إلى أنّ المديرية تنتظر حاليًا إرسال اللجنة، قائلًا إنّ أيّ تغيير في هذه المواقع قبل معاينتها قد يعقّد أو يعيق توثيق الجرائم الإسرائيلية، لا سيّما أنّ بعض الأدلة، مثل طريقة تبعثر الحجارة نتيجة التفخيخ والتفجير، قد تشكّل عنصرًا أساسيًا في تحديد طبيعة الاعتداءات التي تعرّض لها الموقع.
شاب متحمّس يتسلّق إحدى قباب مقام شمع المتصدّعة
استعادة الحياة: بين الحاجة الآنية وحماية الهوية
تواجه شمع اليوم تحدّيًا مزدوجًا: إعادة الحياة إلى القرية المدمّرة، وحماية إرثها التاريخي من الاندثار. فالعودة إلى الحياة بعد الحرب ليست مجرّد حق، بل ضرورة، ولكن مع الحفاظ على ما تبقى من معالمها التراثية، تمهيدًا لترميمها وإحيائها.
ولم يكن التدمير في شمع استثناءً، بل جزءًا من نمط واسع طال قرى الشريط الحدوديّ، حيث تعمّد الاحتلال خلال غزوه هذه القرى، نسف وتدمير معالمها التاريخية، في محاولة لمحو شخصيتها الثقافية وقطع ارتباط أهلها بها. في هذا السياق، لا يمكن أن تكون استعادة الحياة استجابة آنية فقط، بل يجب أن تندرج ضمن رؤية تحافظ على الهوية وتكسر الهدف الإسرائيلي في طمس معالم المكان.
ويتمتّع موقع شمع الأثري بطبقات من الحماية، فهو موقع أثري مدرج على لائحة الجرد العام، وموقع سياحيّ ودينيّ مدرج على خريطة السياحة الدينيّة، وهو موقع يتمتّع بالحماية المعزّزة من اليونيسكو، وهو ما يحتّم اتبّاع أعلى المعايير الدوليّة المعتمدة للحفاظ على المواقع الأثرية المتضررة.
هذا ما تؤكّد عليه رئيسة جمعية “بلادي” جوان بجّالي، التي تشرح أنّ التعامل مع الموقع قد لا يكون قد تمّ بالضرورة وفق هذه المعايير، حتى الآن على الأقل، مشيرة إلى أن أي تدخل يجب أن يتم عبر أربع مراحل أساسية: (1) التوثيق، الذي يمكن تنفيذه اليوم بسرعة من خلال التركيب الثلاثي الأبعاد، وباستخدام تقنيات رقمية حديثة لتسجيل وضع كل حجر وكل عنصر معماري في موقعه الحالي، مما يسمح بإعادة تجميعه لاحقًا بشكل دقيق. (2) فرز العناصر الأثرية وحفظها وتخزينها: عبر إجراء عملية فرز دقيقة، تشمل الحجارة المنحوتة، شواهد القبور، المصاحف التاريخية، وأي مقتنيات كانت داخل المقام والجامع، بحيث يتم توثيقها وحفظها بشكل آمن. (3) التدعيم الفوري: خاصة للأجزاء المهدّدة بالانهيار، من أجل ضمان سلامة الموقع والزوّار على حدّ سواء، وأخيرًا (4) إقامة مسارات آمنة: فبعد تنفيذ الخطوات السابقة، يمكن إنشاء مسارات آمنة تتيح الوصول إلى الموقع من دون تعريضه للمزيد من الضرر أو تعريض حياة الزوّار للخطر.
ويحتاج التوثيق القانوني للانتهاكات الإسرائيلية وجريمة الحرب المرتكبة، والذي أشار إليه سركيس وبدوي خلال التواصل معهما، وينتظر لبنان وصول لجنة دوليّة من اليونسكو لهذا الغرض، إلى إجراءات أعقد في التوثيق الدقيق للمكان، مسرح الجريمة. وكان يفترض انتشال الشهداء بإشراف من وزارة الثقافة ثمّ إغلاق الموقع فورًا، وتأجيل أية أعمال تنظيف وتطهير حتّى إتمام الإجراءات المطلوبة.
وتؤكّد بجّالي أنّه لا يمكن البدء بفتح الموقع أمام الزوّار قبل إنهاء هذه المراحل الأساسية، وإلّا سنكون أمام فقدان متسارع للعناصر الأثرية التي تشكل هوية المكان.
وبشكل واضح، تقع المسؤولية المباشرة على وزارة الثقافة، وقد تبرز الحاجة الملحّة إلى تشكيل لجنة طوارئ تضم جميع الجهات المعنيّة، تضع خطة واضحة تضمن أن تتم عمليات التنظيف وإعادة الإعمار بأسلوب يحمي الموقع من العبث أو فقدان المزيد من عناصره.
فتمامًا كما طالب لبنان الرسمي خلال العدوان بحماية قلعة شمع، واستحصل على تصنيف الحماية المعزّزة لها، لا يمكن أن تفرّط الحكومة بمسؤوليتها اليوم بعد العدوان. وإعادة ترميم الموقع وفق أسس علمية ليست مجرد ضرورة لإعادة الإعمار، بل لحماية الأدلة على الجرائم التي استهدفت هويته الثقافية. أي تأخير في التحرك قد يؤدي إلى فقدان لا يمكن تعويضه، ويفوّت فرصة الحفاظ على هذا المعلم وإعادته إلى دوره الطبيعي كجزء أساسي من النسيج الثقافي والتاريخي للمنطقة، وشاهد على أصاله أهله وتجذّرهم في هذه الأرض.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.