كلمة جمعية المستهلك- لبنان في المؤتمر الصحافي بعنوان: "أي سبل لحماية المودعين في لبنان؟" الذي انعقد بتاريخ 4 شباط 2020 في المفكرة القانونية.
قبل ثلاثة أشهر كان القطاع المصرفي وجمعية المصارف وحاكم مصرف لبنان يؤكدون سلامة القطاع وعدم وجود أية أزمة. فجأة في 17 تشرين الأول 2019 أقفلت المصارف أبوابها بحجة تهديد المتظاهرين لأمنها. بعد أسبوعين خرجت المصارف بإجراءات جديدة تدلّ على أنّ القطاع المصرفي ليس سليماً. ابتدأت بتقييد ودائع أكثر من مليوني لبناني في المعاملات الداخلية والخارجية وقررت فرض "كابيتال كونترول" وفق معاييرها الخاصة التي تعتمد المحسوبية والزبائنية ولا تلتزم القوانين التي تفترض المساواة في التعامل مع المستهلكين. وشيئاً فشيئاً حبكت المصارف شبكة عنكبوتية حول الودائع وأصحابها ونجحت في إقفال كل المنافذ التي حاول المواطنون فتحها لإنقاذ جزء يسير من ودائعهم. فهي تعطي أو تمنع من تشاء وهي ضربت بعرض الحائط بكل الخدمات التي التزمت بها للمودعين من حساب جارٍ وبطاقات مصرفية وشيكات وعملات صعبة. ودفعت بالمودعين، كالأبقار الحاضرة للذبح، نحو مسار مصرفي ضيّق جداً لا خلاص منه وحوّلتهم إلى متسوّلين وأذلّتهم بكل ما للكلمة من معنى.
غريب أمر هذا البلد، كيف يمكن لقطاع خاص لا يمتلك أية صفة تنفيذية أو تشريعية أن يتّخذ كل هذه الإجراءات الخطيرة؟ وهل الإجتماع والدردشة مع حاكم المصرف المركزي كافٍ للحصول على هذه الصلاحيات؟
الحقيقة هي أنّ تواطؤ السلطة السياسية الخائفة على مصالحها هي التي جعلت ذلك ممكناً. اختفى وزير المال وترك لحاكم المصرف المركزي أن يقوم بدور عرّاب المصارف عبر مقابلات لا قيمة قانونية لها. فقال "المصارف ليست ملزمة بدفع الفوائد بالدولار بل بالليرة" أو "لماذا المبالغة؟ سعر الصرّافين لا يشكل سوى 10% من حجم السوق ولا أهمية له". طبعاً المواطن البسيط يعرف حقيقة أن 100% من أسعار السّلع تتبع سعر سوق الصيرفة لا المصارف. ولكن الأهم عندما أهدى حاكم مصرف لبنان المصارف هندسة جديدة في 5/12/2019 عبر تخفيض الفوائد على ودائع المواطنين إلى النصف مع احتفاظ المصارف بكامل نسبة فوائدها القديمة من مصرف لبنان. بعض الخبراء تحدّث عن أكثر من 8 مليارات دولار سنوياً.
ما هو هدف المصارف من هذه الاجراءات؟
ابتدأت المصارف مضارباتها على الليرة بالشراكة مع الصيارفة، بعدما أعلن حاكم مصرف لبنان افتتاح السوق النقدية الموازية، فقفز الدولار في أيام قليلة إلى 2500 ليرة لبنانية، حينها فقدت الودائع بالليرة 60% من قيمتها. تبع ذلك سلسلة إجراءات هدفها الاستيلاء على الودائع بالدولار كونها تشكل بيضة القبان (حوالي 74% من مجموع الودائع). وقد استبشرت المصارف خيراً عندما نجحت في تدجين المودعين ووقوفهم صفوفاً طويلة من أجل الحصول على بضعة دولارات من ودائعهم. واستبشرت أكثر عندما شاهدت هلع بعض المودعين الذين خسروا بين 25 و30% من قيمة ودائعهم عبر إعطائهم شيكات لا يمكن تحويلها إلى نقد فلجأوا إلى أحضان المرابين والصرّافين وشركات لا علاقة لها بالأعمال المالية همّها تصيّد الفرص. كذلك لجأ المودعون إلى شراء عقارات كاسدة لا أفق تجاريّ لها.
أدّت قيود المصارف خلال أسابيع قليلة إلى انهيار الليرة وبداية انهيار الاقتصاد وتراجع القدرة الشرائية بين 50 و60% وارتفاع معدل أسعار السلع بأكثر من 40% وانتشار البطالة ونصف البطالة والفقر بمعدلات مخيفة لم تشهدها البلاد حتى طيلة 16 سنة من الحرب الأهلية. أضف إلى ذلك خسارة عدد من المودعين لقسم كبير من أموالهم عبر المضاربات والغرق في عمليات مالية عقارية ونقدية لم يكونوا ليختاروها لولا دفع المصارف لهم في هذه المسارات الخاسرة.
من سيدفع ثمن كل هذه الانهيارات؟؟ المصارف وشركاؤها من السلطة السياسية تريد للمودعين من الفئات الفقيرة والمتوسطة أن تدفع الثمن. وهي تحتاج لذلك مزيداً من الوقت من أجل سقوط معظم الودائع بالدولار في خزائنها. أما الودائع بالليرة فهي غير مهتمة بها أصلاً والمضاربات كفيلة بتحويلها إلى عملة ورقية لا قيمة لها. هذا الوقت أمّنته للمصارف السلطة السياسية عندما استقالت الحكومة السابقة بكافة مكوّناتها من مسؤولياتها. وعندما سكتت عن الإجراءات التعسّفية اللا قانونية التي قررتها المصارف.
أمام هذا المخطط الخبيث الذي يقوده تحالف أحزاب السلطة والمصارف قررت لجنة المحامين للدفاع عن المودعين وتجمّع المهنيات والمهنيين والمفكرة القانونية وجمعية المستهلك التوجّه إلى مؤسسة القضاء وقضاة لبنان لوضع حدٍّ لتمادي جمعية المصارف والمصارف اللبنانية في اتخاذ قرارات تنفيذية وتشريعية ليست من صلاحياتها. مطلبنا واضح: نريد استرداد حقوق المواطنين في ودائعهم التي قيّدتها جمعية المصارف والمصارف اللبنانية ومحاسبتها على ذلك. الشعب اللبناني يحلم ويريد قضاءً مستقلّاً يضع يده على كرة النار هذه.
هذه هي المرة الأولى الذي يذهب فيها ممثلو المستهلك إلى القضاء لمحاسبة هذا القطاع المصرفي المتعالي الذي شكل طيلة 30 عاماً العامود الفقري للسلطة السياسية الفاسدة وللاقتصاد اللبناني المشوّه. نحن، بعكس عائلات السلطة والمال، نريد قطاعاً مصرفياً سليماً وقويّاً إلى جانب باقي القطاعات الاقتصادية المنتجة لا جمعية سماسرة تعمل لدى العائلات الحاكمة.
ما يجري في هذه الأيام العصيبة سيحدّد، قريباً، ملامح لبنان الآتي. أما لبنان الانهيار الاجتماعي الشامل والفقر والبطالة والفوضى الشاملة واستمرار نظام الفساد والمافيوية أو لبنان الذي يحاسب ويبني دولته العادلة ويسترجع أمواله المنهوبة والمهرّبة. إنها لحظة تأسيسية في حياة البلاد وعلى القضاء أن يقرّر موقعه وأي مصير يريد للبنان. ونحن نريد القضاء إلى جانب الشعب الذي يعمل في الشوارع على تقرير مصيره بدون وصاية من أحد.