إنتاج 14 مليون طن من الفسفاط في أفق 2030: دعاية تُكذّبها الوقائع


2025-03-27    |   

إنتاج 14 مليون طن من الفسفاط في أفق 2030: دعاية تُكذّبها الوقائع

منذ شتاء 2024، عَاشَ الحوض المنجمي على وقع عودة تصاعد نسق الحركات الاحتجاجية والنقابية إلى حدّ ما. وفي هذا السياق الاحتجاجي سَرَّعت حكومة قيس سعيّد في انعقاد مجلس وزاري مضيّق حول قطاع الفسفاط يوم 5 مارس 2025 وذلك للنظر في البرنامج المستقبلي لهذا القطاع، والهادف إلى رفع نسق إنتاج مادّة الفسفاط إلى حدود 14 مليون طن في أفق سنة 2030. وقبل انعقاد هذا المجلس بيوم واحد، التقى قيس سعيّد يوم 4 مارس 2025 مع وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة فاطمة ثابت، وتَناولَ هذا اللقاء مواضيع عديدة من أهمها قطاع الفسفاط. وبناء على طموح الحكومة التونسية في الترفيع في نسق الإنتاج، وفي غسل الفسفاط بالمياه المعالجة في سياق تَعرف فيه المنطقة عودة للتوترات الاجتماعية، تتناول هذه المقالة مدى إمكانية تحويل الخطط الحكومية الطموحة إلى حقيقة ميدانية.

تهميش العُمّال وحُلم الترفيع في نسق الإنتاج

أثناء لقائه بوزيرة الصناعة، شدَّدَ الرئيس قيس سعيّد على الحفاظ على حقوق العمّال. ولكن رغم خطاب العدالة الاجتماعية، ما يَزال عمّال المناجم يعانون من سياسة الحيف والاستغلال. فمن خلال الشهادات الميدانية، يتبيّن أنّ الوضعية المالية للعمّال تتّجِه نحو التدهور، إذ أن الدخل الشهري للعمال يرتكز على المنح وليس على الراتب الأساسي Salaire de base، فعلى سبيل المثال فإنّ الراتب الشهري للعمال من الصف الثالث “Classe 3” وهي الفئة الأكثر اشتغالاً في مقاطع الإنتاج وفي المغاسل، يتراوح بين 300 و450 إلى 600 دينار (أي تقريبا بين 100 و200 دولار). كما أنّ المِنَح لا ترتقي إلى مستوى التطلعات؛ فمِنحة السكن تقدرها شركة فسفاط قفصة بـ25 دينار، ومِنْحَةَ الحليب بحوالي 6 دينارات أمّا مِنْحَةَ الحُضُورِ بـ80 مليم، مع العِلْمِ أنّ عمّال المناجم يشتغلون دون مِنحَة خطر، ودون دورات مياه في مواقع الإنتاج والمغاسل.

ولئن كانت وضعية العمّال تتّجه نحو التدهور الاجتماعي والاقتصادي والبيئي والصحي، وذلك في سياق يؤكد فيه الخطاب السياسي الرسمي على ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية وفي ظرفية تمر فيها البلاد بأزمة اقتصادية تتمثّل في تدهور المقدرة الشرائية وغلاء الأسعار والتضخم المالي، فإنّ الترفيع في نسق الإنتاج إلى حدود 14 مليون طن في هذه الظروف يبدو صعب المنال، ومجرّد أوهام. وحتى ولو ارتفع نسَق الإنتاج في هذه الظروف، فإنّ التعامل مع عمّال المناجم سيظل ريعيّاً أساسه الحيف والإذلال، ويظل الخطاب الرئاسي مجرد صيغ شعبوية مشحونة بالدلالات الفارغة والمُعوّمة.

اهتراء العتاد وإشكاليات مالية وجيولوجية

تُعاني شركة فسفاط قفصة من معوقيْن أساسييْن أمام عملية تطوّر الإنتاج وهما: التجهيزات والتي لم يقع تجديدها منذ عام 2014 تقريبا، والثانية مسألة التأطير التي لا تتجاوز 6%.

في سنة 2024، كان من المفترض أن تُحقق الشركة حوالي 6 مليون طن، ولكن الإنتاج لم يتجاوز 3 ملايين و30 ألف طن من الفسفاط التّجاري. لتتراجع مساهمة قطاع الفسفاط في إجمالي قيمة الصادرات حاليا إلى 3%، مقابل مساهمته بنسبة تتراوح بين 10 و 12% من قيمة الصادرات قبل سنة 2011.

بالنسبة لشهري جانفي وفيفري 2025، كان من المُبرمَج أن تحقّق الشركة 740 ألف طن من الفسفاط التجاري ولكن تمّ تحقيق 630 ألف طن فقط. ووفقا للمدير العام لشركة فسفاط قفصة، عبد القادر العميدي، فإنّ عَدم تحقيق 740 ألف طن يَعُود لأسباب القيام بالصيانة السنويّة لمغسلتيْن، وهي مغسلة المظيلة التي لم تتمكن شركة الفسفاط من صيانتها منذ عام 2018، ومغسلة المتلوي التي باشرت الشركة صيانتها في مطلع 2025. هذا إلى جانب تعطّل مغسلة الرديف التي لم تَشتغِل منذ سنة 2020 تقريبا، والتي تُحاول الشركة حاليا إعادتها لنسق اشتغالها، وذلك بعد فك الاعتصام بالمغسلة خلال شهر أكتوبر 2024.

بخصوص النقل، فقد خططت الحكومة لنقل ما بين 5 و6 قطارات يوميا محملة بالفسفاط. ولكن في شهري جانفي وفيفري من سنة 2025، لم يتجاوز المعدّل 3 قطارات يوميا، ويَعود هذا إلى ترهّل الأسطول والعربات لشركة نقل السكك الحديدية.

يتحقّق هذا العجز عن تطوير الإنتاج في سياق أكّدت فيه وزيرة الصناعة والطاقة والمناجم، فاطمة ثابت، أنّه قد انعقدت العديد من المجالس الوزارية بخصوص قطاع الفسفاط، منها مجلس وزاري يوم 11 أفريل 2023 حول اقتناء آليات نقل الفسفاط، حيث تم بعد ذلك اقتناء 18 شاحنة و5 حاملات بطاقة إضافية تصل حمولتها[1] [2]  إلى 5.3 مليون طن، في جويلية 2024. وانعقدَ مجلس وزاري يوم 7 أوت 2024، وتم فيه إقرار تحسين مردودية شركة فسفاط قفصة. مؤكدّة على انعقاد العديد من الاجتماعات خلال شهري جانفي وفيفري 2025 وذلك للنظر في وضعية شركة الفسفاط والمَجمع الكيميائي التونسي.

رغم أنّ تآكل العتاد هو أحد معوقات تطوّر الإنتاج، إلاّ أن حجّة وزيرة الصناعة لم تكن مختلفة عن رئاسة الجمهورية، حيث تُلقي بأسباب الفشل على الآخرين وهي النخبة السياسية الحاكمة خلال العشرية الأولى من الثورة التونسيّة (2011 -2020). فقد اعتبرت الرئاسة التونسيّة أنّ إحداث شركات البيئة والغراسة قد نشأت في ظروف سياسية معيّنة سنة 2011، متحدّثة عن الكلفة المالية لشركات البيئة والغراسة والبستنة التي تتحملها شركة الفسفاط والمجمع الكيميائيّ والتي تطوّرت من 22 مليون دينار سنة 2011 إلى 210 مليون دينار سنة 2023. في حين أن إحداث شركات البيئة والغراسة في الحوض المنجمي كانت قد انطلقت منذ عام 2008 في شكل مناولة وتحوّلت إلى شركة قائمة الذات إداريا وماليا منذ عام 2011 وذلك تحت ضغط نضالات العمّال والحركَة النقابية.

شملت أيضا الخطة الطموحة لإنتاج 14 مليون طن من الفسفاط التجاري، في أفق سنة 2030، بَرمجة استثمارات خلال الفترة 2025-2030 بقيمة 2688 مليون دينار. ولكن المفارقة الجوهرية بحسب المدير العام لشركة فسفاط قفصة فإنّ هذه الاستثمارات المالية لم تُحَدِّد الحكومة مصادرها المالية والتمويلية، وبالتالي تتطابق هذه الحلول مع السياسة الارتجالية الرسمية المتّبَعَة.

وفي سياق الجدل بشأن تحقيق 14 مليون طن بمعدات مهترئة، قال المختص في التنمية والتصرف في الموارد البشرية، حسين الرحيلي، للمفكرة القانونية: “بشكل عامّ، إن التوقعات غير مدروسة وغير مبنية على حقيقة الواقع الميداني. تقنيّا فإن أكثر من ثُلث عتاد شركة الفسفاط خارج الخدمة، وماليا تُشير التوقّعات إلى أنّه لا بدّ من تجديد العتاد بقيمة 340 مليون دينار، ولكن شركة الفسفاط لم تستثمر سوى 65 مليون دينار في سنة 2023”.

من جهة أخرى، فإنّ التغيرات الجيولوجية بمواقع إنتاج الفسفاط، تُمثل إحدى العقبات الأساسية لتحقيق 14 م طن. وبحسب الرحيلي: “اليوم هناك تغيّرات هيكلية في الطبقات الجيولوجية التي تتضمّن مادّة الفسفاط والتي تؤثر بشكل مباشر على مردودية الإنتاج”، متسائلا: “هل أن الفسفاط اليوم هو موجود بالفعل كما كان عليه زمن السبعينيات أو الثمانينات أو تسعينيات القرن الماضي؟”.

إنّ عدم تجهيز وتحديث العتاد، في ظرفيّة ظلَّت فيها مصادر التمويلات ضبابيّة وفي ظلّ التغيّرات الهيكليّة للطبقات الجيولوجيّة، يجعل طموح الشركة لتحقيق 14 م طن في أفق سنة 2030 أمرًا غير واقعي بالمرة. وهكذا، فإنّ هذا المخطط الحكوميّ غير المدروس من الناحية العلمية والسياسية والتقنية لا يمكن أن يُحقق هذا الحلم والطموح، لتظلّ بذلك الخطط الحكومية سجينة السردية الشعبوية التي لا تنجح في تحويل البِنية الخطابية إلى حقيقة ميدانية.

هل يمكن غسل الفسفاط باستعمال مياه الصرف الصحي؟

خلال لقائه مع وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة شدّد قيس سعيّد على ضرورة وضع استراتيجية جديدة لغسل الفسفاط باستعمال مياه الصّرف الصحّي بعد مُعالجتِها عوض استعمال الماء الصالح للشراب. ولكنّ تطبيق مثل هذه الحلول يبدو صعبا حاليا في منطقة الحوض المنجمي.

يَعتبر حسين الرحيلي إن التوجه نحو غسل الفسفاط بمياه الصرف الصحي هو بمثابة التناقض، حيث يقول للمفكرة: “في ولاية قفصة نعثر على محطتيْن للصرف الصحي: الأولى في مدينة المتلوي والتي تُقدر طاقة استعمالها بـ 1000 متر مكعب (م3) يوميا والثانية بولاية قفصة وتُقدر طاقة استعمالها بـ 8000 م3 يوميا، أي بإجمالي 9000 م3 على مستوى الولاية، في حين أن شركة فسفاط قفصة، وفي مراحل إنتاجها العادية 8.5 مليون طن من الفسفاط التجاري سنويا (السنة المرجعية 2010) يمكنها أن تستهلك 50 ألف م3 يوميا، وهذا هو التناقض”.

من جهته، يَرى المدير التنفيذي للمرصد التونسي للمياه علاء مَرزوقي أن هذا التوجّه لغسل الفسفاط بمياه الصرف الصحي محمود، لكنه لا يمكن أن يكون بديلا قريب المدى. وفي هذا السياق، يقول للمفكرة “إنّ التوجه نحو غسل الفسفاط بالمياه الرمادية (مثل المياه المعالَجَة) هو توجه مشكور وأفضل من استعمال تحلية مياه البحر أو مياه الشرب، ولكن هذه الحلول لا يمكن أن تكون قريبة أو متوسطة المدى، فهي حلول بعيدة المدى، وذلك لسبيين اثنين: أولهما أن الحوض المنجمي لا يزال يعاني من قصور في محطات الصرف الصحي. وثانيا لا يمكن الحديث عن هذا التوجه دون دراسات معمّقة”.

يؤكد رئيس الجمهورية التونسية على ضرورة غسل الفسفاط بمياه الصرف الصحي في سياق تتسم فيه المدن المنجمية بغياب محطات التطهير. فلئن كان المعدّل الوطني للصرف الصحي يبلغ 85%، إلاّ أنّ النسبة لا تتجاوز 53.8% في ولاية قفصة. وعلى سبيل المثال، فإنه من بين ثلاثة عشر حيًّا في مدينة أم العرائس، نجد فقط أربعة أحياء مُرتبطة بالصّرف الصحي. ومُدن الرديّف وأم العرائس والمظيلّة والقْطَار لا نجد فيها محطات تطهير. كما أنّ محطّة التطهير في قفصة المدينة تشتغل بأكثر من طاقتها، بنسبة 380%.

وحسب االمدير التنفيذي للمرصد التونسي للمياه فإنّه مهما كانت طريقة استعمالات المياه ومصادرها لغسل الفسفاط، فإنّه يستحيل الحديث عن نشاط استخراجي من دون عواقب وخيمة على الثروة المائية والبيئية، فهذا النشاط وفقا للمرزقي يستحيل أن يكون صديقا للبيئة، بقدر ما له كلفة اجتماعية ويُساهم في هدر الثروة المائية والنظم البيئية. وهكذا فإنّ مفهوم “الاستخراجية” يُوصف بأنه عملية استغلال للطبيعة. وما يسمّى -تلطيفًا- بـ”العوامل الخارجية السلبية” للشركات هو في الحقيقة بمثابة هجمات بيئية ومادية وثقافية ورمزية.[1] فالمقاربة الاستخراجية تَخلق ما تسمّيه نعومي كلاين “مناطق التضحية”، وهي مناطق يتمّ تخريبها عبر النشاط الاستخراجي والمعالَجَة الكيميائية على حساب صحّة وأراضي ومياه متساكنيها، الأمر الذي يتناسب مع الطابع العنصري للرأسمالية “.[2]

الحاضنة الاجتماعية المحلية: حركات الاحتجاج ووهم تطوير الإنتاج

في ظرفيّة تمرّ فيها المدن المنجميّة بأزمة هيكلية: البطالة، انقطاع المياه، التلوث، هشاشة البنية التحتية والمرافق العمومية والنقل، إلخ، وفي ظرفية لم يستطِع فيها النظام السياسيّ الحاكم إيجاد حلول اقتصادية بديلة، لا يمكن للحكومة أن تحقّق 14 م طن. فمنذ سنة 2008، وبعد سنة 2011، أصبحت مواقع الإنتاج مسرحًا للاحتجاج. واستمرارية التهميش ستجعل الوضع مفتوحا على التوتر بين السكان المحليين والدولة. وقد تُصبح مواقع الإنتاج والمغاسل ومسارات القطار التي تُستخدم لنقل الفسفاط مواقع متجددة للاحتجاج الاجتماعي. وهكذا ستكون حركات الاعتصام شكلا من أشكال ردّ الفعل تجاه الجمود الواضح الذي يميّز الحوض المنجمي. فالذين سيقرّرون الاحتجاج سيستمدّون شرعية ضمنيّة من احتجاجات 2008، ويعيدون إحياء معناها وذاكرتها، حيث أنّ أكثر أشكال الاحتجاج استخداما آنذاك هو الاعتصام في مواقع الإنتاج. والذاكرة المحلية تُوفر مجموعة من الأدوات الرمزية والأفعال الاجتماعية التي يمكن إعادة استخدامها في الوقت الحاضر.

وهكذا فإن لن يتمّ معالجة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والصحيّة وقضية هدر الموارد المائية في الحوض المنجمي معالجة جذرية، وإن لن يتم حفظ كرامة عمّال المناجم، فإنّ تحقيق 14 م طن في أفق سنة 2030، يبدو أقرب كثيرا إلى الدعاية منه إلى الخطط الواقعية.


[1] Mathilde Allain, Antoine Maillet, « Les mobilisations autour de l’extractivisme. Circulation et potentiel heuristique d’un concept en voie de globalisation », Revue Internationale de Politique Comparée, Vol. 28, n° 3-4, 2021, p 10.

[2]  حمزة حموشان، النمط الاستخراجي ومقاومته في شمال أفريقيا، المعهد الدولي – ترانس ناشونال، 2019، ص 6، 7.


انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني