إنتاج زيت الزيتون في تونس: مأزق التصدير وعجز الدولة


2025-03-17    |   

إنتاج زيت الزيتون في تونس: مأزق التصدير وعجز الدولة

الاستنجَاد بوداديّات وتعاونيات موظفي الوزارات والهياكل والمؤسسات العمومية للمساهمة في تسويق زيت الزيتون، شكّلَت أحدَث الحلول التي ابتدعَتها الحكومة التونسية لمجابهة “أزمة” خَلقَها المحصول الاستثنائي من الزيتون الذي سيتمّ جنيه وعصره خلال موسم 2024-2025، وتُقدّر قيمته بحوالي 1،7 مليون طن من الزيتون و340 ألف طن من الزيت، أي بزيادة تفوق 55 % مقارنة بالموسم الفائت. والاستثنائية لا تخص تونس فقط، فحتى على المستوى العالمي هناك زيادة كبيرة في حجم إنتاج زيت الزيتون الذي من المنتظر أن يتجاوز الثلاثة مليون طن؛ تستحوذ إسبانيا على نصيب الأسد منها بـ1،25 مليون طن.

ومن الطّبيعي أن يؤدي ارتفاع حجم العرض إلى انخفاض الأسعار في السوق العالمية مقارنة بالسنوات الفائتة، وهو ما يُثير مخاوف المُنتجين والمُصدّرين التونسيين من تراجع المداخيل بشكل كبير. مخاوف عَزّزَها الخطاب الرسمي منذ انطلاق موسم الجني في النصف الثاني من شهر أكتوبر الفائت، مع تأكيد الرئيس في مناسبات عدة على ضرورة توفير كميات من الزيت للسوق المحلية بأسعار منخفضة، وكذلك حملة الايقافات في مطلع شهر نوفمبر بعيد الزيارة الرئاسية لـ”هنشير الشعال” أكبر ضيعات الزيتون في تونس. وتلت التصريحات والإجراءات الرئاسية حملات في الفيسبوك للتنديد بـ”جَشَع” المنتجين وهوسهم بالتصدير على حساب التونسيين وحقّهم في التمتع بخيرات بلادهم.

أثَّرَ هذا المناخ في سير عملية الجني وبيع المحصول خاصة بعد نزول سعر اللتر من زيت الزيتون إلى حدود 10 دنانير في بعض المناطق بعد أن تجاوز سعره الـ20 دينارا خلال موسم 2023-2024. وإزاء هذا الوضع هدَّدَ عدد من الفلاحين بالتوقف عن جني المحصول واحتجَّ كثيرون منهم، مطالبين الدولة بالتدخل العاجل لإنقاذ قطاع يُوفر أكثر من نصف صادرات تونس الفلاحية ويَدر مداخيل تتجاوز المليار دولار سنويا. اتخذت الحكومة جملة من الإجراءات خلال الفترة الفائتة، لكنها لا تبدو كافية لمنع الأسعار من التدهور. وهو “تدهور” يُبهج غالبية التونسيين لأنه يعني تمكّنهم من اقتناء كميات أكبر من الزيت، وقد لا ترى فيه الدولة ضررًا كبيرا، فمن الممكن أن يحقق لها مكاسب آنية وفي السنوات القادمة. وحتى إن استطاع القطاع تجاوز الأزمة الراهنة فإنه سيتوجب عليه آجلا أم عاجلا التعامل مع اختلالات تراكمت عبر مختلف مراحل نشأة وتطور الاقتصاد السياسي لزيت الزيتون في تونس.

200 عام من التصدير وإهدار القيمة


غراسة الزياتين في تونس -كما في عدة مناطق متوسطية قديمة- تعود إلى آلاف السنين. ولطالما كان زيت الزيتون حاضرا في الثقافة المحلية كغذاء ودواء ومصدر إنارة ومكوّن في بعض الصناعات البسيطة مثل الصابون وغيره. لكن إلى حد نهاية القرن الثامن عشر ظلّ منتجا تقليديّا مُوجّهًا بشكل شبه كلي للسوق المحلية. انطلاقا من الربع الثاني من القرن التاسع عشر[1]، ستتضافر عدّة عوامل لكي يحظى زيت الزيتون باهتمام متزايد ويصبح أحد أعمدة الاقتصاد التونسي، قبل فترة الاستعمار الفرنسي وخلالها ومن بعدها. فمن جهة دفعَ تراجع القرصنة البحرية في سواحل المتوسط حكام ممالك شمال أفريقيا إلى البحث عن مصادر دخل بديلة وكانت الفلاحة إحداها. ومن جهة أخرى تنامى تواجد التّجّار والقَناصِل الأوروبيين في المنطقة، بخاصة بعد احتلال الجزائر في سنة 1830 واحتدام صراع الإمبراطوريات الأوربية للسيطرة على بقية الممالك. كما إن السوق الأوروبية كانت بحاجة متزايدة للزيوت، بخاصّة للاستعمال الصناعي (الصابون في مرسيليا الفرنسية مثلا) والطاقي (الإنارة) والغذائي طبعا.

تزايد الطلب على الزيت التونسي أثار شهية الأوروبيين الذين سرعان ما سيطروا بشكل شبه كلي على القطاع: خلال سنوات 1830 صدّرَ التجّار الإيطاليون 44،4% من الإنتاج التونسي والفرنسيون 33،7%. ولم تتغير الأمور كثيرا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فقط أصبحت الغلبة للفرنسيين، حيث قاموا في سنة 1860 بتصدير 56،1% من الإنتاج مقابل 22،5% للإيطاليين.

إثر احتلال فرنسا لتونس في سنة 1881 أصبح تصدير زيت الزيتون تحت الوصاية الكاملة للفرنسيين[2] الذين كانوا يُوجّهون الجزء الأعظم منه إلى فرنسا ومستعمراتها شمال الإفريقية كالجزائر والمغرب، وبعضه إلى دول شمال أوروبا وأمريكا الشمالية.

مع حصول تونس على استقلالها في 1956 وتأميمها أراضي المستعمرين الأوروبيين، تخلَّصَت تدريجيا من سطوة الملاك والتجار الأجانب على القطاع لكنها لم تتحرر من التبعية إلى الأسواق الأوروبية وإن استفادت من عدد من الامتيازات الجبائية مثل “نظام الأفضليات المعممة” Generalized System of Preferences الأوروبي منذ سنة 1971. كما استفادت تونس من اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوربي التي أبرِمَت سنة 1995 ودخلت حيز التنفيذ في جانفي 1998، والتي بمقتضاها تتمتع تونس سنويا بإعفاء جمركي يشمل 56700 طنًّا من الزيت المصدر إلى أوروبا. وتُعتبر الولايات المتحدة الحريف الثاني لتونس بعد الأوروبيين (24% من الصادرات التونسية في موسم 2023 – 2024 حسب أرقام الديوان الوطني للزيت) إذ يشمل “نظام الأفضليات المعمّمة” الخاص بها كميات من زيت الزيتون التونسي.

هذه التسهيلات والامتيازات الأوروبية -الأمريكية لها تأثير واضح على سياسات الدولة التونسية في قطاع زيت الزيتون، بعضها يُجَانب المنطق تماما: خلال موسم 2023 –2024 صَدّرَت تونس 29،5% من إنتاجها إلى إسبانيا (المصدّر الأول لزيت الزيتون عالميا) و27،4% إلى إيطاليا (المصدر الثاني عالميا)، أي أن أكثر من نصف الإنتاج ذهب إلى أكبر منافسيها في السوق العالمية. وتصبح الأرقام أكثر غرابة إذا ركّزنا على صادرات زيت الزيتون البيولوجي: 53،12% إلى إيطاليا و27،12% إلى إسبانيا.

وعلى الرغم من تطور حجم صادرات تونس من زيت الزيتون المُعلّب في السنوات الأخيرة، فإنها تبقى هامشية مقارنة بصادرات الزيت السائب: 26483 طنا معلّبا مقابل 162 ألف طنّا سائبًا خلال موسم 2023 –2024. الجزء الأعظم من زيت الزيتون التونسي يجول العالم تحت علامات إسبانية وإيطالية ودول أخرى. كما إن منطقتين من العالم (أوروبا وأمريكا الشمالية) تستأثرَان بأكثر من 80% من الإنتاج التونسي ممّا يعزز تبعية البلاد لهما، في حين أن هناك مناطق أخرى يمكن العمل على دخول أسواقها مثل الخليج العربي وأمريكا الجنوبية وشرق آسيا، بخاصّة الصين التي يعاني ميزان مبادلاتَنا التجارية معها اختلالًا مفزعا.

يؤدي ارتفاع حجم العرض إلى انخفاض الأسعار في السوق العالمية

هل تستعيد الدولة سيطرتها على القطاع؟ 

في 1994، أي بعد سنوات قليلة من موافقة تونس على “برنامج الإصلاح الهيكلي” و”برنامج الإصلاح الهيكلي الفلاحي” (1986) المفروضين من صندوق النقد الدولي وتوقيعها اتفاقية “الجات” (الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة) في العام 1990، وقُبيل انضمامها إلى “منظمة التجارة العالمية” وتوقيعها اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي في 1995، تمّ إنهاء احتكار ديوان الزيت لقطاع زيت الزيتون، سواء فيما يتعلق بجني المحصول أو تخزين الزيت وتصديره. وعلى الرغم من “تحرير” القطاع تدريجيا، ظَلَّ الديوان يلعب دورًا مهمًّا في السوق، إذ استمَرَّ في تحديد الأسعار المرجعيّة عند الشراء حفاظا على مصالح الفلاحين وأصحاب المعاصر ووحدات الاستخراج الصغرى، والترويج للمنتج التونسي في الخارج ودَعم تطوير النسيج الصناعي مثل وحدات الاستخراج والتخزين العصرية. هذه الديناميكية أسهمت في تطوّر القطاع وزيادة الإنتاج وتحسين جودته، لكنها أفضت أيضا إلى سيطرة متزايدة للمستثمرين الخواص على السوق والتركيز بشكل كبير على التصدير ممّا سيتسبّب تدريجيا في تناقص العرض المحلي وارتفاع أسعاره واختلال التوازن وهوامش الربح بين مختلف الفاعلين في منظومة إنتاج زيت الزيتون. ابتداء من سنة 2002 تخلّى الديوان على سياسة تحديد الأسعار المرجعية وتراجع دوره أكثر فأكثر في عمليات الجني والاستخراج والتخزين.

وكما يحدث في أغلب القطاعات ذات الربحيّة العالية في تونس، تركّزَ أغلب إنتاج زيت الزيتون ومدخول تسويقه في أيدي قلّة من المستثمرين يرتدي أغلبهم عدّة قبعات في آن واحد: كبار ملاك للزياتين وكبار مشترين للمحاصيل وأصحاب وحدات استخراج وتعليب، ومُصدّرين. في قائمة وزارة الفلاحة للمؤسسات التونسية المختصّة في تحويل وتعليب زيت الزيتون، نجد أنه من بين 224 اسم هناك حوالي 50 مؤسسة تجمع بين ثلاثة أنشطة (إنتاج، تعليب، تصدير). وحسب تقديرات “المجلس الدولي للزيتون”، فإنّ هناك حوالي 100 مؤسسة تونسية تعمل في مجال تصدير زيت الزيتون، لكن 10% منها فقط تستحوذ على 70% من إجمالي الصادرات و69% من أرباحها.

ويعتبر عبد العزيز المخلوفي الذي تمّ إيقافه مطلع شهر نوفمبر الفائت أكبر الفاعلين في قطاع زيت الزيتون في تونس خلال العقد ونصف العقد الفائتين. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل كان الإيقاف ثمّ الإيداع في السجن اللذان تزامنا مع انطلاق موسم جني الزيتون 2024 –2025 مجرّد صدفة أملَتها التحقيقات التي فُتِحت عقب زيارة الرئيس سعيّد لـ “هنشير الشعال” في 30 أكتوبر الفائت، أم إنها كانت خطوة أولى اُختِيرَ وقتها وحجمها ووقعها بعناية تمهيدا لتغيير سياسات الدولة في قطاع زيت الزيتون؟

 شدّد الرئيس سعيّد خلال الأسابيع الفائتة أكثر من مرة على ضرورة استعادة الديوان الوطني للزيت دوره و”إشعاعه” كاملين. وقد يكون كسر سيطرة كبار “الحيتان” على السوق هو الشرط الذي سيُمكّن “الديوان” من إعادة التموقع كفاعل رئيسي. انخراط ديوان الزيت بشكل أكبر سيضُخ موارِد إضافية للدولة ويمنحها موقع قوة في علاقتها بكبار المصدرين، كما سيُمكنها من توفير كمية أكبر من الزيت للسوق المحلية مما قد يخفف عنها غضب التونسيين المستائين من غلاء الأسعار. لكن هذا التدخّل قد تكون له كلفته من حيث نقص الإنتاج والأسعار في السوق المحلية، فهل ستتكفّل الدولة بتعويض الفلاحين وأصحاب المعاصر لتوفير الزيت للمستهلك بسعر أقل من الحقيقي وبجودة مقبولة؟ وسيتأثّر كذلك نسق وحجم حركة التصدير.

وهناك أيضا عوائق أخرى قد تُعطّل سعي الديوان إلى استرداد موقعه القديم. إذ أن الدّولة لا تمتلك إلا حوالي 62 ألف هكتارا من غراسات الزيتون التي تنتج ما بين 5000 و8000 طن من زيت الزيتون سنويا، أي أن موقعها هامشي في خارطة الإنتاج، كما أن طاقة تخزين الزيت لديها لا تتجاوز 80 ألف طنا في السنوات الفائتة (كانت حوالي 250 ألف طن سنة 1990) في حين أن المؤسسات الخاصة تتجاوز طاقتها التخزينية الـ400 ألف طن. ولا تمتلك الدولة إلا بضع وحدَات قديمة في مجالات استخراج وتعليب زيت الزيتون.

تركّزَ أغلب إنتاج زيت الزيتون في أيدي قلّة من المستثمرين

نشر هذا المقال في مجلة المفكرة القانونية – تونس العدد 32
لقراءة وتحميل العدد 32 بصيغة PDF


[1]  للاطلاع أكثر على تطور تصدير زيت الزيتون التونسي خلال أواسط القرن 19 انظر/ي:

Jerfel, Kamel. De grands acteurs économiques : les négociants européens dans les villes ports de la côte Est de la régence de Tunis au XIX e siècle. https://shs.hal.science/halshs-00872355/document

[2] للاطلاع أكثر على السياسات الفرنسية الاستعمارية في تسويق زيت الزيتون التونسي انظر/ي:

Frini, Mohamed. Résistances de l’huile d’olive dans la Tunisie coloniale. https://journals.openedition.org/anneemaghreb/2700#:~:text=45La%20France%20a%20pr%C3%A9par%C3%A9,quelle%20que%20f%C3%BBt%20leur%20provenance.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني