يندرج هذا المقال ضمن سلسلة من المقالات الشهرية ستنشرها المفكرة القانونية تباعًا، حول قطاع إنتاج الفسفاط في تونس وموقعه ضمن السياسات العامة للدولة. إضافة إلى آثاره الاجتماعية والاقتصادية والبيئية، بخاصّة في قرى الحوض المنجمي بالجنوب الغربي التونسي (المحرّر).
“تِبرٌ في التّراب” هكذا وصَفَ رئيس الجمهورية قيس سعيّد ثروة الفسفاط أثناء كلمته التي ألقاها في اجتماع مجلس الأمن القلومي الذي خُصّص للنظر في ملف إنتاج الفسفاط والذي انعقَد يوم الأربعاء 26 أفريل 2023، مضيفا بالقول: “هناك جملة من الدراسات التي تمّ إعدادها، وتمّ تشخيص الأوضاع والنظر في الأسباب كلّها (الأوضاع والأسباب التي أدّت إلى شلل إنتاج الفسفاط) وتمّت قراءة التاريخ كله، ولا بد للحوض المنجمي أن يعود بريقه كما كان في وقت من الأوقات، يتوفر فيه كل شيء: المغازات الكبرى، الملاعب، المسارح، الحدائق العمومية… ولكن تمّ العَبث به ولا بدّ من وضع حدّ لهذا العبث”. فأي تاريخ قرأه قيس سعيد؟ وكيف قرأ التاريخ؟ فهل كان للحوض المنجمي “فترات ذهبية” لم يدوّنها المؤرخون؟ وأي نماذج سياسية واقتصادية ستتبناها أو (تبنتها) حكومة الرئيس قيس سعيد؟
الحوض المنجمي: بين جرائم الاستعمار وهيمنة دولة الاستبداد
منذ أن توصّلَ فيليب توماس سنة 1885[1] إلى اكتشاف الفسفاط بـ”جبال قفصة وتَمغزة على مساحة تمتدّ على ثمانين كيلومترا من جبال الثالجة حتى ميداس، أي بالأراضي التّابعة لأولاد بويحي وأولاد سلامة (الهمامة) من جهة قفصة وأولاد سيدي عبيد من قيادة جهة توزر”،[2] تحوّلت منطقة قفصة بالجنوب الغربي التونسي من فضاء هيمَنت فيه الحياة البدوية ونظام قبلي واقتصاد رعوي-مَعاشي وعلاقات قائمة على الأعراف والتقاليد المتوارثة[3] إلى منطقة صناعات استخراجية تحت قَبضة السّلطات الاستعمارية الفرنسية. وقد نهضت السّياسات الفرنسية طيلة أكثر من سبعة عقود على استغلال الثروة الفسفاطية كمادّة خام مُربحَة في الأسواق العالمية، وتَسخير السكان والوافدين من بلدان المغرب العربي للعمل في المناجم في ظروف عمل غير إنسانية.
بعد الاستقلال، عَملَت الدّولة الوطنية على توْنَسَة المؤسّسات الفرنسية بما فيها شركة صفاقس-قفصة للفسفاط. ويُعدّ النموذج ما بعد الاستعماري جزءًا من السّياق الوطني المتميّز بظهور الدولة الحزبية القوية والمُهَيمنة. وظلّت الدّولة إلى حدود “آخر الستينيات موجودة في جميع المجالات وذلك عبر سيطرتها على النظام الاقتصادي والاجتماعي والسّياسي، حيث كانت التعبئة السياسية، وفي مختلف المجالات، مفروضة من فوق…وكان الحزب والإدارة يُمثّلان القنوات الأساسية لهذه التعبئة”.[4] ولكن منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، اتّبعَت البلاد التونسية سياسة اقتصادية ليبرالية جديدة وهي التجربة الثانية بقيادة الوزير الأوّل الهادي نويرة (1970-1980). ومن الملاحظ أن هذه “التجربة انتصرتْ إلى مبادئ اقتصاد السوق وجعلت الأعراف شريكا اقتصاديا فعليّا للدّولة”.[5] وكانت بمثابة القاطرة السياسية والاقتصادية التي مَهّدَت لتشكّل تجربة الإصلاحات الهيكليّة.
الأزمة المَنجمية في سياق الإصلاحات الهيكلية
انطلقَت تجربة الإصلاحات الهيكليّة سنة 1986 في إطار ما يُسمّى بـ”وفاق واشنطن”. وعمدَت خطّة التّعديل الهيكلي إلى إنشاء صندوق إعادة توجيه وتنمية المراكز المنجمية سنة 1991 وذلك بهدف تمويل المشاريع الصّغرى وتعويض عدد العمّال الذين كانت تُشغّلهم الشركة. ولكن ظلّ نشاط هذا الصندوق هامشيّا، حيث استفاد منه حوالي 1500 شخص اعتَبرُوا أنّ الاعتمادات لا تُلبّي الحاجيات الاجتماعية.[6] وتَكمن المفارقة في أنّ الحوض المنجمي الذي بُعثَ من أجله هذا الصندوق “لم يحظَ إلاّ بـ 28% من المشاريع المُنجزة في إطار هذا الصندوق و5،7% من حجم الاستثمارات و57% من عدد مواطن الشغل المُحقّقة، وذلك إلى حدود سنة 2005.[7]” علمًا أنّ أغلب الحاصلين على تمويلات صُغرى في إطار الصندوق كانت وفقا لمنطق زبائني أو عروشي.
قبل الإصلاحات الهيكلية، كان لشركة فسفاط قفصة دور اجتماعي محليّ. فقد كانَت تُوزّع الماء والكهرباء بصفة مجانية أو بأسعار رمزية، وتُوفّر المرافق الصحيّة وتدعم الحياة الثقافية والرياضية لسكان المنطقة. ولكن هذه الخدمات تراجَعت في سياق “الإصلاحات الهيكلية”. وفي هذا التراجع “وجَدَ المجتمع نفسه أمام كلفة إضافيّة في مواجهة اليومي وخدمات أقل جودة وإتقان لم تكن في الحسبان. ونتجَ عن ذلك تفاوت في القدرة على مقاومة الفراغ الذي خلّفَه التراجع لشركة فسفاط قفصة عن دورها الاجتماعي بين شرائح المجتمع، وأصبحَت الفوارق الاجتماعية واقعًا حاصلا له نتائج مؤلمة لم تكن تظهر لولا المنعرج في جودة الخدمات التي كانت تُؤمّنها الشركة زمن الدولة الاجتماعية.”[8]
ساهمَت سياسات التعديل الهيكلي في انخفاض عدد العمّال بشركة فسفاط قفصة بين سنوات 1984 و2004، من 14259 إلى 6223 عامل، في سياقٍ وصلَت فيه معدّلات البطالة إلى مستوى مُقلق للغاية خلال عام 2004 في كامل مدن الحوض المنجمي، حيث بلغَت 38،5% بأم العرائس و26،7% بالرديف و21،2 بالمتلوي و28،4%بالمظيلة.[9]
مقابل تراجع الخدمات الاجتماعية المحلية وتقلّص اليد العاملة وارتفاع معدّلات البطالة، فإن إنتاج الفسفاط قد انتقلَ من 3،826 مليون طن في عام 1974 إلى 6،224 مليون طن في عام 1983، ليَنخفضَ مع أزمة الثمانينات إلى 5،384 مليون طن سنة 1984 وإلى 4،530 مليون طن سنة 1985.[10] وعادَ إلى الارتفاع زمن الإصلاح الهيكلي من 6 ملايين طن خلال التسعينيات، ليصل إلى حوالي 8 ملايين طن سنة 2010.[11] ولذلك تعدّ انتفاضة الحوض المنجمي التي اندلعَت سنة 2008 مُحيّرة للبعض لأنها اندلَعت في فترة شهدت فيها أسعار الفسفاط ارتفاعا في الأسواق العالمية “إلى حدّ أنّ أسعار الثلاثية الأولى من سنة 2008 تجاوزت 125% مقارنة بنفس الثلاثية من السنة السابقة (2007) وإذا ما قُورنت بمعدّل سنة 2005 فإنّ أسعار شهر ماي 2008 تضاعفت ثلاث مرات ونصف”.[12]وتدلّ هذه المعطيات على أن سلطة نظام بن علي تعَاملت تعاملاً ريْعيًا مع القرى المنجمية، حيث صارَ الحوض المنجمي بمثابة “جرح ينزف وثروات تُستَنزَف”[13]. لتُساهم هذه المعطيات العميقة والمباشرة في أحد أطول الانتفاضات في تاريخ تونس المعاصرة، وهي انتفاضة الحوض المنجمي 2008 والتي انطلقت يوم 05 جانفي 2008 وانتهت يوم 06 جوان من نفس السنة، وذلك بعد أن قامت الدولة البوليسية بإطلاق النار على المتظاهرين واعتقال قيادات الحركة والشباب المنتفض.
في دراسة الباحثة التونسية هالة اليوسفي، أكدّ العديد من النقابيين أنّ انتفاضة 17 ديسمبر 2010 لم تكن سوى استعادة لانتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008، حيث وفّرت لهم حركة 2008 الاستراتيجيات التنظيمية لإدارة الأزمة والأحداث السريعة. فأزمة الرديف 2008 ظلّت عالقة في ذاكرة العديد من النقابيين في سيدي بوزيد وهو ما يفسّر سعيهم منذ البداية نحو توسيع نطاق الانتفاضة.[14] لذلك يُمكن القول أن التعبئة الاحتجاجية عام 2008 كانت الشرخ الأول في صدر الدولة الاستبدادية والتي ساهمت في تحولات سياسية وسوسيولوجيّة عميقة بعد سنة 2011.
لكن رغم عصيانه وانتفاضته على النظام الاستبداديّ، ما الذي تغيّرَ في السياسات الاقتصادية وفي المجتمع المنجمي بعد الثورة التونسية؟
الاقتصاد السياسي بعد الثورة التونسية: قطيعة أم استمرارية؟
اعتمَدَت حُكومات ما بعد سنة 2011 نفس المقاربات الاقتصادية التي انتهجتها الدولة التسلطيّة قبل الثورة التونسية. فقد ظلّت تُراهن على سياسات الدّين الخارجي غير السيادي من المؤسسات المالية العالمية (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي). وهكذا ظلّت السياسات الاقتصادية الوطنية عالقة في مخالب التبعية. كما أنّ الإصلاحات ليست عملية تقنية أو تكنوقراطية، بل هي مشروع سياسي كبير لا بدّ أن تحمله النخب من الداخل. لذلك كان من المفترض “أن تكون الإصلاحات منخرطة في إطار مشروع كبير وعقد اجتماعي وسياسي جامع تحملُه نخب سياسيّة وفكريّة هدفها تغيير المجتمع وبناء عقد اجتماعي جديد.”[15] ولكن هذه الكتلة التاريخية بالمعنى الغرامشي (نسبة للفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي) والتي لا تعني مجرّد تحالفات طبقية وإنما ما سيحملُه هذا التحالف من مشاريع اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية لم تتشكل في الحالة الثورية التونسية غداة 14 جانفي 2011، أو خلال المحطّات الانتخابية في سياق ديمقراطية تمثيلية هشة وتَمّ الانقلاب على مكاسبها.
رغم أنّ كّل الحكومات بعد سنة 2011 أغدَقت وعودًا كبيرة بالتوظيف، إلاّ أنّ معدّلات البطالة قد ارتفعت في سنة 2017، وبلغت “626 ألف نسمة على مستوى الجمهورية ووصلت نسبتها العامة إلى 15،3% ونسبتها في المناطق الداخلية إلى 19%. وفي بعض المناطق، خاصّة في جنوب البلاد، يتجاوز المعدّل 20%، بل ويتجاوز 25% في بعض الولايات. وهذا هو الحال مع: قبلي (25،3%)، قابس (25،8%)، قفصة (27،3%)، تطاوين (32،4%)، وتصل في القصرين إلى 22،3%”.[16]
لم تنجح الحكومات المُتعاقبة بعد الثورة التونسية في مُعالجة قضيّة البطالة أو في مقاومة التفاوتات الجهوية. ووفقا للباحث في الاقتصاد محمود بن رمضان “يتأثر الشباب والمناطق المُهملَة اليوم أكثر بكثير ممّا كانوا عليه قبل سنة 2010، فهم محاصرون في ديناميكية رجعية Régressive وفي التخلف. فبين الدولة ومناطقها اللعبة عبارة عن لعبة مجموع سلبي Le jeu est un jeu à somme négative”. [17]وهكذا ارتفعَ مخزون الإحباط وانبثقت حركات الاحتجاج المتواصلة التي جاءت محمّلة بتعبيرات مُتعدّدة من الاحتياجات والرغبات.
عالجَت السّلطات الأزمة بأزمة جديدة، حيث أرهقَت ميزانية شركَة الفسفاط من خلال العديد من الانتدابات المحلّية غير المدروسة. بين عاميْ 2010 و2013 ازدادَ عدد العمّال بكلّ من شركة فسفاط وقفصة والمجمع الكيميائي التونسي بنسبة 50%. فقد ارتفع عددهم من 9200 إلى 14800 عامل. كما تدفع هاتان الشركتان أجور عمّال شركات البيئة والغراسة والذي يُقدّر عددهم سنة 2013 بـ 11000 عامل وحوالي 1500 عامل آخر بشركة نقل المواد المنجمية. وازدادت هذه القوى العاملة بعد سبع سنوات من 9200 سنة 2010 إلى 23000 سنة 2017.
ما بعد 25 جويلية 2021: المجتمع المنجمي في انتظار غودو
شهدَ إنتاج الفسفاط تراجعًا ملحوظا خلال الفترة الفاصلة بين سنتي 2011 و2020 مقارنةً بسنة 2010. وبلَغ إنتاج الفسفاط سنة 2021 مستوى 3.726 مليون طن مقابل 2.830 مليون طن عام 2020 مسجّلا بذلك تحسّنا بـ 32% مقارنة بسنة 2020 وتراجعا قدره 54% مقارنة بنسق الإنتاج العادي لسنة 2010 (8 مليون طن).
تميّزَت سنة 2022 بالنّسبة لشركة فسفاط قفصة بعودة تدريجية إلى السوق العالمية للفسفاط، من خلال تصدير حوالي 56 ألف طن إلى فرنسا وتركيا على وجه الخصوص. ويأمل القائمون على إدارة الشركة خلال سنة 2023 إنتاج 5،6 مليون طن من الفسفاط.[19] ويأتي هذا التحسّن النسبي في فترة توقَّفَ فيها نشاط إنتاج الفسفاط التّجاري بمغسلة الرديف منذ نوفمبر 2020، إضافة إلى أن تحويل هذه المادّة انطلاقا من الرديف نحو معامل إنتاج الأسمدة الكيميائية يَشهد تعطّلا منذ شهر سبتمبر من سنة 2022، علما أنّ منطقة الرديف تتوفر حاليا على مخزون هام من الفسفاط التجاري الجاهز للوَسق والذي لا يقلّ حجمه عن مليون و500 ألف طن.[20] ويعود هذا الشّلل أساسا إلى استمرارية الاعتصام من قبل المحتجّين وإقامة الخيَام داخل مقاطع الفسفاط وفوق السكك الحديدية مطالبين بحلّ مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية وإدراجهم في سوق الشغل المحلية.
رغم التحسّن الطّفيف في مستوى الإنتاج وتوسّع الطّموحات في ترفيع كمّية الإنتاج، إلاّ أنّ البطالة والهشاشة ظلّت إحدى أبرز سمات المجتمع المنجمي. وقد حافظَت حكومة الرئيس قيس سعيّد على مقاربات الأسلاف نفسها، حيث ظلت الحكومة وإدارة شركة فسفاط قفصة تراهنان على تحقيق القيمة المضافة من الاستخراج على حساب عمّال المناجم والفئات الهشّة والمسحوقة من السكان المحليين. وفي عديد التصريحات، أكدت السلطة التونسية على ضرورة عودة إنتاج الفسفاط دون طرح سياسات اقتصادية لها القدرة على حل الأزمات التي عصفت بالقُرى المنجميّة. حيث قال الرئيس قيس سعيد في اجتماع مجلس الأمن القومي المنعقد يوم 26 أفريل 2023: “الفسفاط تبر في التراب في وقت تمر فيه الدولة بظروف مالية صعبة، والوضع الذي يمر به قطاع الفسفاط هو وضع غير مقبول بأي مقياس من المقاييس…فالفسفاط يمكن أن يُمثّل جزءا كبيرا من ميزانية الدولة، وحتى لا نقترضَ من الخارج وحتى تتعافى الدولة التونسية ويتعافى الاقتصاد التونسي”. ولكي “يتعافىَ” الاقتصاد ركّزَ الرئيس على قضية كمية الإنتاج أكثر من تركيزه عما سيقّدمه من حلول تطورية تقطع مع الأزمة المنجمية والوطنية حيث قال في الاجتماع نفسه: “بالإمكان استخراج عشرة ملايين طن من الفسفاط في العام الواحد، سابقا وصلنا إلى 8 مليون طن في السنة والآن بإمكاننا أن ننتج أكثر مما سبق.” وهكذا ظلّت الصناعات الاستخراجية في تطابق مع الطابع الاستنزافي للرأسمالية وفي تعارض تام مع العدالة الاجتماعية.[21]وبسبب هذه السياسات تتغذّى الجماعات السكانية المحليّة من شعور “الحقرة”[22]، ويُشكّل هذا الشعور في منظومة الفعل الاحتجاجي “النقيض الأمثل لمفهوم الكرامة والاحترام والمساواة[23]“.
إنّ المشاكل الاجتماعية لا تتجسّد فقط في البطالة والهشاشة الاجتماعية، وإنّمَا أيضا في استحواذ الصناعات الاستخراجية على الموارد المائية مُقابل عطش السكّان والانقطاعات المتكرّرة للمياه بالمنطقة. حيث قرّرت وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري انطلاقا من يوم 31 مارس 2023 إلى موفى سبتمبر من نفس السنة اعتماد نظام حصص ظرفي وتحجير وقتي لبعض استعمالات المياه، ويأتي هذا القرار في سياق تستمر فيه الشركات المنجمية في مزيد استنزاف الثروات المائية.
علاوة على البطالة وأزمة المياه فإن الحوض المنجمي يعاني من اللاعدالة البيئية بسبب الصناعات الاستخراجية. وسط ظروف أيكيولوجية متردّية وفي ظل غياب الدولة وعدم استجابتها للمطالب الاجتماعية والاقتصادية، يبدو المجتمع المنجمي “واقعًا تحت لحاف سماء ملبّدة بغبار المناجم وفي خضم جلبة الرافعات الضخمة، وفوق أديم أرض عجفاء لا تناسب النشاط الفلاحي. بدا وكأنّ ذلك تجسيد لـ “تحالف” الدولة ببرامجها التنموية الميّتة ومؤسساتها المحلية العاجزة مع سخط الطبيعة وشظف العيش وكثرة الأمراض والأوبئة.[24]“
عموما لم تعتمد حكومة الرئيس قيس سعيّد على مقاربات سياسية واقتصادية متّسقة مع حاجيات المجتمع والاقتصاد، بل واصلت في نفس نهج الدولة التسلطية والحكومات المتعاقبة بعد سنة 2011، وظلت تعوّل على سياسة ريعية وتدفع بحلول لا علاقة لها بمضمون الأزمة على غرار تحلية ماء البحر لتدعيم نشاط مغاسل الفسفاط، مثلما أشار إلى ذلك مؤخرا بلاغ رئاسة الجمهورية الصادر يوم 26 أفريل 2023.
منذ الحقبة الكولونيالية إلى الآن كان تعامل كل السلطات مع الثروة الفسفاطية تعاملا ريعيا. وفي هذا السياق، اندلعت عديد حركات الرفض والنضال. تغيّرت الحكومات وارتفعَ سقف الأحلام، ولكن ظلّ المجتمع المنجمي في “انتظار غودو”، بعبارة الكاتب الايرلندي صموئيل بيكيت في مسرحيته الشهيرة. وتدور أحداث هذه المسرحية حول رجلين يدعيان “فلاديمير” و”استراغون” ينتظران شخصا يدعى “غودو” لا يأتي أبدا. وبالمثل فقد ظل المواطنون المنجميون في انتظار عربات محمّلة -لا بالفسفاط- وإنما بالبرامج والخيارات التي بإمكانها القطع مع الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.
[1]– Dougui, (Noureddine), ” Histoire d’une grande entreprise coloniale : La compagnie des phosphates et du chemin de fer de Gafsa, 1897-1930″, Publications de la Faculté de la Manouba, Tunis, 1995. P 21.
[2]– طبابي، (حفيّظ)، ” عمّال مناجم قفصة في العهد الاستعماري”، الدار التونسية للكتاب، تونس، 2015.ص 21.
[3]– طبابي، (حفيّظ)، “حول أزمة المجتمع الرعوي التقليدي خلال الفترة الاستعمارية ومسار إخضاع البداوة: مثال جهة قفصة”، في حول الجنوب التونسي من الاحتلال إلى الاستقلال: 1881-1956، تنسيق وجمع النصوص: فيصل الشريف، منشورات المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية، جامعة منوبة، تونس، 2005، ص 45-92، ص 46، 47.
[4]– الهرماسي، (عبد الباقي)، “المجتمع والدولة في المغرب العربي”، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة، 1999، ص 109.
[5]– قسّومي، (المولدي)، “المنظمة النقابية لأرباب العمل التّونسيّين. الأطوار والأدوار”، تقديم: الهادي التيمومي، دار نقوش عربية، تونس، 2018، ص 125.
[6]– Allal, (Amine),”Réformes néolibérales, clientélismes et protestations en situation autoritaire. Les mouvements contestataires dans le bassin minier de Gafsa En Tunisie (2008)“, Politique africaine 177, no. 1 2010, pp 107- 125. P 118.
[7]– البدوي، (عبد الجليل)، التشغيل والتنمية بولاية قفصة. الواقع والآفاق، منشورات الاتحاد العام التونسي للشغل، رؤى عمالية، قسم التشريع والنزاعات والدراسات والتوثيق، تونس، نوفمبر 2010، ص 90.
[8]– حامد، (المنجي)، “مفارقات التنمية في الحوض المنجمي”، مجمع الأطرش، تونس، 2021 ، ص 136.
[9] – Ben Jannet,( Zouheir),”Jeunes, Etat et dynamique de la révolution en Tunisie. Enquête dans le Bassin-Minier de Gafsa” , in, Christiana Constantopoulou (S/D), Récits de la crise : mythes et réalités de la société contemporaine, collection logiques sociales, Paris, l’Harmattan, 2017, pp 277- 302.P 284.
[10]– الجديدي، (محمد)، “الموارد الطاقية والمنجمية عامل للاندماج الاقتصادي التكاملي المغاربي”، آفاق ومراحل بناء المغرب العربي، الجامعة التونسية، مركز الدراسات والأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، سلسلة علم الاجتماع، عدد 14، تونس 1989. ص 11-59، ص 43.
[11]– البدوي، (عبد الجليل)، مرجع سابق، ص 80.
[12]– طبابي، (حفيّظ)، ” انتفاضة الحوض المنجمي بقفصة (2008)”، الدار التونسية للكتاب، تونس، 2012، ص 62.
[13] – شعار رفعه المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية – فرع الحوض المنجمي-
[14]– Yousfi, (Hèla), “L’UGTT une passion Tunisienne. Enquête sur les syndicalistes en révolution 2011- 2014“, Med Ai Edition, IRMC, 2ème édition, 2016. P 76, 77.
[15]– بن حمّودة، (حكيم)، “شجون وخواطر اقتصادية”، دار محمد علي للنشر، صفاقس، تونس، 2018، ص 63.
[16]– Ben Romdhane, (Mahmoud), “Tunisie : La Démocratie en quête d’Etat“, Sud Editions, Tunis, 2018. P 151.
[17]– Ibid. P 151.
[18]– Ibid. P 163.
[19] – رجب، (سفيان)، “ضحية الفساد وسوء الحوكمة… الفسفاط ثروة تونس المهدورة”، جريدة الصباح: 11 جانفي 2023.
[20]– المرجع نفسه.
[21]– حموشان، (حمزة)، “النمط الاستخراجي ومقاومته في شمال إفريقيا”، ترجمة: مروة بن عمر الشريف، المعهد الدولي-ترانس ناشونال، 2019، ص 6، 7.
[22]الحقرة هي مصطلح مستخدم في الدارجة التونسية والمقصود بها الاحتقار.
[23]– زين الدين، (الحبيب استاتي)، ” الفعل الاحتجاجي في المغرب وأطروحة الحرمان النسبي: في الحاجة إلى تنويع المقاربات التفسيرية” عمران للعلوم الاجتماعية والإنسانية، عدد 22، المجلّد السادس، خريف 2017، ص 165-186، ص 171.
[24]– حامد، (المنجي)، “الدولة والمجتمع المحلي وصناعة العنف: حالة الحوض المنجمي بالجنوب الغربي التونسي”، في التعصّب والتطرّف والعنف: مقاربات في المجتمع والدولة والدين، إشراف: منير السعيداني، مؤمنون بلا حدود، الرباط، أكدال، المملكة المغربية، 2019، ص 17، 18.