عرفت مادة الحليب في الأسابيع الأخيرة نقصا حادا في الأسواق والمساحات التجارية، وعدنا إلى مشاهدة طوابير المواطنين أمام المساحات الكبرى والمغازات من أجل الحصول على “علبة حليب واحدة”. من جهته، كثّف رئيس الدولة قيس سعيّد تدخلاته حول الموضوع، مفسّرا الأزمة كعادته بسرديّة المؤامرة. ظهر ذلك في زيارته يوم 20 ديسمبر شركة تجميع الحليب بنفزة والمقر السابق للشركة التونسية لصناعة الحليب “ستيل”، حيث أشار إلى أنه لم تكن هناك أزمة حليب في تونس عندما كانت شركة “ستيل” تعمل واعتبر أنّ أزمة الحليب مفتعلة. قبل ذلك بأسبوعين، زار سعيّد مصنعًا تابعًا لأكبر شركات الحليب في تونس، واستغرب فقدان الحليب نصف الدسم مقابل توفّر أنواع أخرى من منتجات الحليب ومشتقاته، مرجعا الأمر إلى “الاحتكار” الذي يمارسه متآمرون يريدون “العبث بقوت التونسيين”.
تصرّ هذه السرديّة، التي استعملها الرئيس أيضا في الشتاء الماضي أمام أزمة مشابهة، على إنكار أزمة إنتاج الحليب وأسبابها الهيكليّة. فقد عرفت السنوات الأخيرة تراجعًا ملحوظًا في كميّة الإنتاج بأكثر من 300 ألف لتر يوميا، ليصبح الإنتاج المحلي في حدود مليون و200 ألف لتر في اليوم، في حين أنّ الاستهلاك اليومي يناهز مليون و800 ألف، فيما قارب المخزون الاستراتيجي الذي يستعمل لتعديل السوق وتغطية العجز على النفاذ.
إنّ تتالي أزمات نقص الحليب خلال السنوات الأخيرة مردّه أسباب متعدّدة، من بينها ما يتعلّق بخيارات وسياسة الدولة تجاه قطاع الألبان وتربية الماشية، وما يتصل بالجفاف والتغيرات المناخية التي أدّت إلى ارتفاع مشطّ لأسعار الأعلاف وتراجع عدد قطيع الأبقار الحلوب. ظلّت الدولة تتعامل مع أزمات الحليب على أنها أزمات دورية من دون البحث في الأسباب الجوهرية التي جعلت هذا القطاع الحيّوي يتميّز بكثير من الهشاشة ويتعرّض لهزّات متواصلة تكثّفت في السنوات الأخيرة بعد الصعود الكبير لأسعار الأعلاف المركبة المستوردة وتراجع سعر صرف الدينار التونسي وتواتر سنوات الجفاف.
خيارات التسعينات ووهم المردوديّة السريعة
عملت الدولة انطلاقا من التسعينات على التشجيع على تربيّة الأبقار الحلوب للحدّ من توريد الحليب المجفف. فقامت باستيراد فصيلة “أبقار الهولشتاين السويسرية” المعروفة بقدرتها على إنتاج كميات كبيرة من الحليب تصل إلى 30 لترا يوميا، إلاّ أنّ إنتاجها تراجع بقرابة الثلث عند جلبها إلى تونس نظرا لتغيير المناخ والاختلاف النسبي في نوعية الأعلاف. كما تطلّبت هذه النوعية من الأبقار نظامًا غذائيّا يوميّا يحتوي على أربعة أقسام رئيسية تتمثّل في الأعلاف الخشنة والأعلاف المركبة والأملاح المعدنية والفيتامينات والماء. وتزامنت سياسة تشجيع الفلاحين على تربية الأبقار الحلوب المستوردة مع نهج التخلّص من السلالة الأصلية وهي “سلالة أبقار جبال الأطلس” التي كانت منتشرة ببلاد المغرب، وهي أبقار رمادية اللّون تنتج في حدود 8 لترات من الحليب يوميا، بنسبة دهون جيّدة. ولا تشترط تربية هذه السلالة الاعتماد على نظام غذائي يومي فهي ترعى من الكلأ في الجبال والأحراش والمروج ومن الأعلاف الخشنة والخضراء وبالتالي تكون كلفة إنتاج حليبها منخفضة جداّ. وقد تقلص تواجد هذه السلالة بشكل كبير، لتبقى فقط بعض القطعان الصغيرة بجبال مقعد وخمير وعند بعض صغار الفلاحين في بقيّة المناطق.
في سنة 1999، أعلنت الدولة رسميا عن تحقيقها الاكتفاء الذاتي في الحليب وقطاع الألبان، لكّنها دخلت في أزمة مزدوجة. الأزمة الأولى هي ذروة الإنتاج في فصل الربيع، حيث تصبح مراكز التجميع والتصنيع غير قادرة على استيعاب كامل المنتوج ممّا يضطر منتجي الحليب إلى التخلّص منه بطرق مختلفة إماّ عبر بيعه بسعر زهيد لمصانع مشتقّات الحليب، خصوصا الأجبان، أو حتى إلقائه، وهو ما يعرضهم إلى خسائر كبيرة. أمّا الأزمة الثانية، فهي مرتبطة بأسعار الأعلاف المستوردة والتي بدأت مع أزمة الأعلاف العالمية سنة 2007 وتتواصل إلى يومنا هذا. وتواصل “الاكتفاء الهش” في مادة الحليب إلى حدود 2015 كآخر سنة حقق فيها فائض إنتاج في وقت الذروة. وتراوح عدد قطيع الأبقار والأراخي (الأبقار الصغيرة التي لم تلد بعد) الحلوب في تونس بين 454 ألف رأس سنة 2007 و437 ألف سنة 2017، مع تراجع خلال السنوات الثلاث الأولى بعد الثورة نتيجة تهريب جزء من القطيع خارج الحدود، ليعود إلى الاستقرار بعد تحسن الوضعية الأمنية للبلاد ووفرة الأمطار خصوصا في سنة 2015. فكانت سنة 2016 أعلى حصيلة حيث وصل القطيع إلى 458 ألف رأس، قبل أن يعود إلى التراجع بشكل حادّ. وينقسم القطيع كالآتي: 59% سلالات أصيلة و27% مهجنّة و14% سلالات محلّية، ويتوزّع بنسبة 66% بالشمال و30% بالوسط و4% بالجنوب. وقامت الدولة بآخر تحيين للقطيع سنة 2017 حيث تراجع إلى 437400 وحدة أنثوية حسب إحصاء ديوان تربية الماشية وتوفير المراعي. لكنّها تخلّت عن إحصاء قطيع الأبقار وتحديد كمية الإنتاج ومساحات الزراعات العلفية والمراعي لمدّة ست سنوات، بما يبيّن عشوائية التعامل والإهمال الكبير لقطاع حيوي ويؤكد أنّ الحلول المقترحة غير نابعة من قراءة عملية ومعرفة عميقة بأزمة القطاع.
ويبدو، في غياب الإحصائيات الرسميّة، أنّ قطيع الأبقار قد تراجع بدرجة كبيرة في السنوات الأخيرة. فقد اضطرّ عدد من الفلاحين لبيع أبقارهم ليتمّ تهريبها إلى خارج البلاد أو ذبحها، وذلك بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف المركّبة بصفة جنونيّة، والجفاف المتواصل من جهة أخرى. وقد أشار أنيس الخرباش عضو المجلس المركزي للاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري يوم 16 ديسمبر 2023 في حوار إذاعي، إلى تراجع القطيع بقرابة 25% خلال السنوات الخمس الأخيرة، أي فقدان أكثر من 100 ألف رأس مقارنة بإحصاء سنة 2017. فمنذ سنة 2015 الممطرة نسبيا، عرفت البلاد تعاقب سنوات الجفاف، مما أدى إلى تقلص كبير في المساحات المزروعة ومساحات الرعي والأعلاف الخضراء التي كانت متوفرة بكثرة خصوصا بالمناطق الشمالية، مقابل انتشار الأعلاف الخشنة. فقد كانت الأمطار في السابق تساهم في وفرة المراعي، الأمر الذي يساعد المربين على التخفيض من شراء الأعلاف المركبة وتعويضها بالمراعي خلال فصليْ الشتاء وخاصة الربيع. بذلك فاقم استمرار الجفاف في أثر ارتفاع أسعار الأعلاف المركّبة، وتاليا كلفة الإنتاج التي وصلت حسب أنيس الخرباش إلى 2040 مليم للتر الواحد، في حين أنّ سعر البيع محدّد بـ 1340 مليم فقط بما يعني أنّ المربي يخسر 700 مليم في كل لتر ينتجه، وهو ما يدفع عددا منهم إلى بيع أبقارهم.
تواصل الجفاف والتغيرات المناخية، خصوصًا بجنوب المتوسط والمناطق المدارية، يهدّد الثروة النباتية والحيوانيّة بالمنطقة، وبالأخصّ سلالات الأبقار المستوردة من سويسرا وبقيّة الدول الأوروبية التي لا يمكنها التأقلم مع المناخ الجاف وشبه الجاف، بما يفاقم من الارتباط بالأعلاف المستوردة ومن تأثير تقلّبات أسعارها.
احتكار الأعلاف المستوردة عمّق الأزمة
كانت الدولة المحتكر الرئيسي لتوريد وتوزيع قطاع الأعلاف عن طريق ديوان الحبوب، حيث تصل الأعلاف إلى كلّ مربي الأبقار بنفس السعر. وتطبيقا لسياسات برنامج الإصلاح الهيكلي سنة 1986 واتفاقيات التجارة الحرّة سنة 1995، صدر في 11 جانفي 1997 أمر يضع حدّا لاحتكار ديوان الحبوب لاستيراد الصوجا والذرة. ومنحت الدولة رُخَص التوريد في البداية لشركة Carthage Grains وتمّ إعفاؤها من المعاليم الديوانية عند التوريد، وفي مرحلة موالية لشركات “بولينا” و”ألكوا” و”آلفا”. وواصلت هذه الشركات احتكار توريد وإنتاج وبيع الأعلاف منذ دخولها إلى تونس وصولا إلى رحيها وخلطها وتقسيمها في أكياس. وقد أدّى احتكار توريد الأعلاف المركبة إلى التلاعب بأسعارها والمضاربة حولها وتحديد هامش الربح وفق مصالح الشركات فقط، إضافة إلى تأثير التقلبات العالمية. حيث نجد 12 شركة في الميدان، منها 7 تتبع مجمّع “بولينا” والبقية موزّعة بين شركتيْ “ألفا” و”الشركة المتوسطية للحبوب”. ويمثّل العلف المركب المستورد الغذاء الرئيسي للأبقار الحلوب المستوردة، لأنه يحتوي على مقادير عالية من الطاقة والبروتينات وتخضع أسعاره للتداول في بورصة شيكاغو.
وقد تحدّث عدد من صغار الفلاّحين بمعتمدية نفزة للمفكّرة عن تعمّد بعض شركات التوزيع خلط الأعلاف المركبة بمواد أخرى غير علفية مثل المعجّنات القديمة. ولا يقتصر الاحتكار على الشركات الخاصة بل وصل إلى توزيع الأعلاف المدعومة مثل السدّاري، الذي يشوبه حسب الفلاحين عدّة استفهامات وغموض. كما أكد فلاحو نفزة على معاناتهم المتواصلة جرّاء الارتفاع الخيالي لأسعار الأعلاف، فقد وصلت أسعار الأعلاف الخشنة إلى 30 دينار للقرط و20 دينار لبالة التبن، في حين كان سعرها لا يتجاوز 6 دينارات سنة 2021، وبلغ سعر 100 كلغ من الشعير 85 دينار (مقابل 52 دينار سنة 2021)، وسعر العلف المركز 78 دينار لـكيس 50 كلغ بعد أن كان لا يتجاوز 50 د في السنوات القليلة الماضية. كما أكّد أحد الفلاحين على ارتفاع خيالي لسعر “الفصّة” الذي بلغ 900 دينار لـ 100 كلغ، أي ثلاثة أضعاف سعره في السنوات القليلة الماضية، إضافة إلى ارتفاع أسعار الأسمدة كالأمونيتر والفسفاط. وقد تحدّث فلاحو نفزة أيضا عن إشكال في التلقيح، الأمر الذي يمثّل عبءا ماليّا كبيرًا على المربّي الذي يضطرّ لإعادة تلقيح البقرة لأكثر من مرّة، بما ينعكس على الإنتاج اليومي. وأدّت كلّ هذه الظروف إلى بيع صغار الفلاّحين لأغلب مواشيهم نظرا لعدم قدرتهم على مجابهة ارتفاع أسعار الأعلاف الذي لا يتناسب مع أسعار بيع الحليب. ويتمثّل الخطر الكبير في تهريب جزء من المواشي بعد بيعها خارج حدود الوطن أو ذبحها خاصة مع ارتفاع أسعار اللحوم الحمراء.
شهدت السنوات الخمس الأخيرة عدّة تحركات واعتصامات قام بها صغار الفلاّحين في مختلف مناطق الجمهورية المعروفة بإنتاج الألبان. ولعلّ أهمها تحركات أولاد جاب الله واعتصام صغار الفلاّحين أمام مصنع فيتالي بالمهدية، وقطع الطريق بالمواشي في معتمدية سجنان. ففي شهر ماي 2022 أحصي ما لا يقل عن 24 تحرّك توزعوا بين ولايات المهدية وجندوبة وبنزرت وباجة وصفاقس والمنستير وقابس. وازدادت تحرّكات صغار الفلاّحين خلال السنوات الأخيرة بشكل كبير نتيجة تردّي أوضاعهم والصعوبات التي يواجهونها لشراء الأعلاف ولتغطية ارتفاع كلفة إنتاج الحليب.
حلول جذريّة، لا شعارات شعبويّة
تتطلب صياغة حلول جذرية لأزمة الألبان، الشروع في تقييم جدّي لخيارات المرحلة السابقة والتخلّي عن السرديات الشعبوية التي من شأنها أن تعمّق الأزمة. فهل ستواصل الدولة الاعتماد كليا على توريد السلالات الحلوب والتخلّص من السلالات المحلية؟ فعلى الرغم من تواضع كمية إنتاجها مقارنة بالسلالات المستوردة، تقدّم سلالة أبقار الأطلس جملة من المزايا، أهمّها تأقلمها مع المناخ شبه الجاف والجاف للمنطقة، وقلّة تواتر مرضها، وتعوّدها على الأعلاف المحلية على غرار الأحراش والمروج والجبال إضافة إلى الأعلاف الخشنة والخضراء التي يمكن توفيرها، بما يقلّص كثيرا من كلفة تربيتها وإنتاج الحليب. ويحتوي حليب سلالة الأطلس على نسبة دهون متميّزة على عكس السلالات المستوردة. في المقابل، مواصلة توريد السلالات الحلوب التي وصل سعرها إلى حدود 12 ألف دينار سيعمّق على الأرجح الأزمة ويساهم في مزيد إثقال كاهل المربين بالديون ويؤدي إلى إفلاسهم أو اضطرارهم إلى بيع قطعانهم.
في الأثناء، يتطلّب الحدّ من أزمة الحليب أيضا إجراءات عاجلة لحماية ما تبقّى من القطيع والحدّ من نزيف البيع والتهريب. من ذلك التدخّل لتغطية كلفة الإنتاج المرتفعة التي تثقل كاهل المربين، من دون تحميلها على المستهلكين من فقراء ومتوسطي الحال. كما من المهمّ التدخّل بصفة عاجلة لتفكيك شبكة احتكار الأعلاف المركبة من خلال إلغاء أمر جانفي 1997 والتدقيق في كيفية توزيع الأعلاف المدعمة كالسداري والشعير لكي تصل إلى كل المربين وبالأخصّ صغار الفلاحين الذين يملكون أكثر من 80% من القطيع. ومن شأن إعفاء صغار الفلاحين من ديون استخلاص مياه الري والقروض الصغرى أن يساهم أيضا وقتيّا في الحدّ من النزيف. في المدى المتوسّط، يتطلّب الحفاظ على القطيع وتطويره إنتاج أعلاف تونسية مركبة والتخلي تدريجيّا عن الاستيراد، والتشجيع على إعادة تربية السلالة المحلية التي تتأقلم بشكل كبير مع الظروف الطبيعية وكلفة إنتاجها منخفضة لنصل إلى قطيع متكوّن من سلالات محليّة وأخرى مستوردة. من شأن هذه الإجراءات مجتمعة أن تقلّص من حدّة الأزمات في سنوات الجفاف ومن هشاشة القطاع أمام تقلّبات الأسعار العالميّة وسعر صرف الدينار. لكنّ المضيّ فيها يتطلّب استراتيجية شاملة لتعزيز السيادة الغذائيّة، وليس مجرّد شعارات جوفاء وتفسيرات مؤامراتيّة للاستهلاك الخطابي.