مرت ثلاثة أشهر على بدء اعتصام اللاجئين وطالبي اللجوء السودانيين أمام مبنى المفوضية السامية لحقوق اللاجئين في بيروت UNHCR، بدون أي تجاوب من المفوضية التي عوضاً عن إيجاد حلّ لهم يأخذ في الإعتبار الأوضاع المتردّية لهؤلاء وبقاءهم في العراء بدون أي حماية أو موارد، قررت الذهاب إلى الطريق الأسهل وقمع التحرّك، مستعينة أولاً بالأمن الخاص بها الذي استعمل القوّة لإجلاء المعتصمين من أمام مركزها في الجناح، ثم بالأمن اللبناني وفق ما يؤكد المعتصمون الذين لا يزال يحتجز منهم منذ 3 كانون الأول 2019 6 سودانيين.
يحذّر مبارك إبراهيم أحد المشاركين في الإعتصام، من أنّ ثلاثة من المحتجزين مهددون بالترحيل في حال رفعت المفوضية يدها عنهم، أما الباقون فلا يمكن ترحيلهم لأنهم مسجّلون في المفوضية كلاجئين. وقد مرّ إبراهيم نفسه بتجربة ترحيل في السابق قبل أن يعود مجدداً إلى بيروت بسبب وجود زوجته وأولاده هنا، ويرجّح أن يكون قد تمّ حقنه بإبرة تخدير أثناء ترحيله: "تستيقظ لتجد نفسك في السودان".
تقول فرح سلقا، إحدى مؤسسات حركة مناهضة العنصرية في لبنان إنّه "في الحالات السابقة التي ألقي فيها القبض على لاجئين سودانيين بسبب التظاهر، تم ترحيلهم بدون الأخذ في الحسبان التهديد المحتمل لحياتهم سواء من الحكومة السودانية أو مجموعات معيّنة بسبب انتماءاتهم".
من التبعات الأخرى للترحيل تفكك أسر اللاجئين وفقدان معيلها الوحيد الذي سيحاول غالباً بعد فترة العودة إلى لبنان بطرق غير شرعية (في حال استطاع تفادي الخطر) كي لا يترك عائلته وحيدة وهذا ما حصل في حالات سابقة وفق سلقا.
ولكن المفوضية نفت في بيان "لجوء موظفيها إلى ارتكاب أية إساءة لفظية أو جسدية بحق المتظاهرين أو التسبّب بإلقاء القبض عليهم"، مؤكدة أنها قدمت المشورة والنصح لهم وزودتهم بالمعلومات حول المساعدات والحلول المتاحة. كما أكدت أنها "تتابع عن كثب مع السلطات المختصة أوضاع المحتجزين وهي تستمر بتقديم النصيحة لطالبي اللجوء في لبنان بشأن ضرورة الإستحصال على إقامة قانونية من أجل تفادي خطر الإحتجاز والترحيل المحتمل".
قمع مستمر
يؤكد المعتصمون الذين يعيشون اليوم في العراء وينامون في خيم بلاستيكية تفتقد إلى أبسط الحقوق الإنسانية، أن المفوضية لجأت إلى العنف تجاههم عبر الأمن الخاص بها أكثر من مرة منذ بدء الإعتصام، واتصلت أكثر من مرة بالأمن اللبناني لإجبارهم على المغادرة. ويقول مبارك إبراهيم إنّ عناصر الأمن اللبناني قاموا أكثر من مرة بتكسير الخيم والأدوات البسيطة التي يستعملوها في حياتهم اليومية، بالإضافة إلى التهديد والترهيب الذي طال أحياناً ألأطفال. ووفقاً لحركة مناهضة العنصرية في لبنان، قطعت المفوضية الموارد المادية الضئيلة التي تقدمها لخمسة منهم بسبب مشاركتهم في التظاهر، لتزيد بذلك معاناتهم الفادحة.
يبلغ اليوم عدد المعتصمين حوالي 20 رجلاً وامرأة مع أطفالهم. ووفق حركة مناهضة العنصرية، "يحتاج ما لا يقل عن 11 من البالغين وثلاثة أطفال إلى عناية طبية عاجلة، وهناك بالإضافة للمعتصمين ست أسر وخمس نساء بدون مأوى إلى جانب عائلة ورجلاً يواجهون خطر الإخلاء الفوري بسبب عدم قدرتهم على دفع الإيجار". ويقول مبارك إنّ "الأغلبية غير قادرة على إيجاد عمل بسبب عدم حصولهم على إقامات قانونية وإجازات عمل، وبأن الشركات تخاف من توظيفهم لأن الدولة بدأت تشدد كثيراً على توظيف الأجانب وتسجّل مخالفات تصل قيمتها إلى مليونين ليرة".
أسباب الإعتصام
تعود أسباب الإعتصام إلى ما يصفه اللاجئون السودانيون بالتجاهل الممنهج الذي تتبعه المفوضية بحقهم وتأخّرها في البتّ بملفات طالبي اللجوء العالقة منذ سنوات (وعدم إعطاء تفسيرات عن سبب إغلاق بعضها)، بالإضافة إلى مطالبتهم بالحماية وتسهيل السفر بالإضافة إلى رفضهم ما يقولون إنّه تمييز تمارسه المؤسسة بحقهم وبحق اللاجئين الأفارقة بالمقارنة مع اللاجئين القادمين من بلدان أخرى. أما أسباب طلبهم اللجوء فهي إما النشاط السياسي الذي أدّى إلى صدور أحكام غيابية من الحكومة السودانية يصل بعضها حد الإعدام، أو بسبب الإضطهاد العنصري والديني وعمليات الثأر بين القبائل التي تهدد حياتهم في حال عودتهم إلى السودان.
يشار إلى أنّ السودانيين ينفذون منذ عقد تقريباً، وبشكل متقطّع اعتصامات ووقفات إحتجاجية وإضرابات عن الطعام أمام مبنى المفوضية، أوّلها كان إضراباً عن الطعام للناشط السوداني الدكتور عبد المنيم عام 2010 استمر لأسبوعين. وانتهت أكثرية هذه الإعتصامات بالقمع من قبل الأمن اللبناني وإلقاء القبض على عدد من المعتصمين الذين إما تم ترحيلهم أو تدخلت المفوضية لإخلاء سبيلهم. ووفق المفوضية، يوجد حالياً 1902 لاجئ أو طالب لجوء مسجّل في لبنان، وهو رقم لا يشمل المهاجرين السودانيين المقيمين، والذين لم يحاولوا الحصول على صفة لاجئ من المفوضية أو رفضت طلباتهم (تسهل صفة "لاجئ" الحصول على الحماية، والمساعدات المادية البسيطة، أو إعادة التوطين).
رسالة إلى المفوضية
وكانت "حركة مناهضة العنصرية في لبنان" قد أصدرت بياناً هو عبارة عن رسالة مفتوحة إلى المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين السيد فيليبو غراندي وممثلة المفوضية السيدة ميراي جيرارد، تطلب فيه اتخاذ إجراءات فورية لمعالجة إهمالها لملفات طالبي اللجوء السودانيين في لبنان واستنكارها احتجاز 9 منهم في 3 كانون الأول، مؤكدة أنها ليست المرة الأولى التي تتعامل فيها المفوضية بهذه الطريقة مع اللاجئين السودانيين، فهناك شهادات تكشف تعرضهم مع غيرهم من الأفارقة إلى معاملة غير مقبولة من موظفين في المفوضية كانوا يتصلون بشكل متكرر بالأمن اللبناني على مدى السنوات الماضية طالبين منهم التحرك لإيقاف الإعتصامات رغم خطورة هذه الخطوة وتهديدها أمن اللاجئين بشكل مباشر.
ومن الإجراءات الأخرى التي طلبت "حركة مناهضة العنصرية في لبنان" من المفوضية إتخاذها: إلغاء قرار إيقاف المساعدة النقدية الذي طال خمسة لاجئين بسبب مشاركتهم في الإعتصام، إصدار سياسة داخلية تمنع استعمال العنف، توفير مأوى بشكل عاجل لللاجئين السودانيين من خلال خدمات المفوضية أو المنظمات الشريكة لها، وضمان التواصل مع طالبي اللجوء ومشاركتهم الدائمة بالمعلومات. وطلبت الحركة أيضاً من المفوضية الضغط على الدولة اللبنانية لإلغاء ضرورة حصول طالبي اللجوء واللاجئين على أوراق الإقامة لأنها تشكل ذريعة للترحيل الذي ينتهك مبدأ "عدم الإعادة القسرية المنصوص عليه في القانون الدولي"، والتنديد علناً بممارسات بلدان اللجوء التي تفرض حصصاً حسب الجنسية على عملية إعادة التوطين. كما شددت على ضرورة تنويع مصادر التمويل لتشمل المزيد من التمويل الخاص مع الإعتراف بأن التمويل الذي تقدمه بشكل أساسي بلدان اللجوء يشكل تضارباً واضحاً في المصالح.
مصير غير معروف
بدأت أسر اللاجئين وطالبي اللجوء السودانيين بدفع ضريبة الإنهيار الإقتصادي الذي نعيشه اليوم قبل الفئات الأخرى في لبنان. ويلعب التمييز العنصري وعدم امتلاك جزء كبير من هؤلاء أوراق إقامة قانونية، أو صفة لاجئ، دوراً في تقليل الخيارات أمامهم، ويجعلهم عرضة للإحتجاز والترحيل في أي وقت، مما يؤدي عملياً إلى تقييد حركتهم. كما ليس هناك من برامج سكنية وسياسات حكومية يمكنها استيعاب هذه المجموعات المهمشة في لبنان، وما تبقى لهم هو المبادرات التآزرية من بعض الأفراد والناشطين الذين يحاولون لمّ التبرعات من بعضهم البعض لإيجاد مسكن لمدة شهر لهذه العائلات (والطلب من المطاعم وجبات غذائية يومية) وفق ما تقول فرح سلقا، إلى أن تقرر المفوضية إيجاد حل ينقذ اللاجئين السودانيين وطالبي اللجوء من المأساة التي تمر عليهم وسط عجزهم عن العودة إلى بلادهم.